أرشيف المجلة الشهرية

العشائر في الحياة السياسية لقطاع غزة

بقلم: ألكسندر فلاديميروفيتش ديمتشينكو

ترجمة: د. علي حافظ

يتكون المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة من ثلاثة هياكل تقليدية: القبائل والعشائر، والعائلات المعروفة.

تتمتع العشائر (الحامولة) بالنفوذ الأكبر. فمن ناحية، خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والمواجهة بين حركتي “حماس” و”فتح”، شكلت عشائر غزة ميليشياتها الخاصة، واقتصادها الظلي، وانخرطت في أنشطة غير شرعية، ودخلت في نزاعات بينية مسلحة. ومن ناحية أخرى، أسهمت في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، من خلال توليها بعض مهام السلطة الفلسطينية الضعيفة. وبعد استيلاء حركة “حماس” على السلطة في قطاع غزة عام 2007، قمع الإسلاميون المعارضة العشائرية، ووضعوا حداً لعنفها. ومع ذلك، تحتفظ بعض العشائر بنفوذها على المستوى المحلي، وتظل عاملاً اجتماعياً، وسياسياً هاماً.

وهكذا، أصبح النشاط العشائري الخطير، والواسع النطاق في قطاع غزة مثالاً آخر على الانحطاط، والتدهور الذي انتشر في مناطق عديدة من العالم العربي.

ترافقت عملية تحديث بلدان العالم العربي في الآونة الأخيرة، بإضعاف للهويات التقليدية والروابط الاجتماعية. كذلك ترافقَ هذا الاتجاه الرئيسي بأمور عكسية، فقد اعتمدت النخب الاستعمارية، ومن ثم زعماء الدول المستقلة (مع كل التزامهم بفكرة بناء الأمة)، على استغلال إمكانات المجتمع التقليدي.. إن الحفاظ على “التشرذم والطائفية والانقسامات الميراثية والأصولية الجديدة كان أيضاً عنصراً من عناصر الإستراتيجية الواعية للأنظمة، الذي سمح لها بالحفاظ على الاستبداد” [7].

في فلسطين، اكتسبت العلاقة بين الفئات الاجتماعية التقليدية، والسلطات سمات محددة، بسبب العملية المطولة، وغير المكتملة، للحصول على الاستقلال، وإنشاء مؤسسات دولة فعالة، والاحتلال الإسرائيلي، وتفتيت حركة المقاومة الفلسطينية، وطبيعتها الشتاتية المقسمة…

إن الاضطرابات المنتظمة المرتبطة بالحروب العربية الإسرائيلية والانتفاضتين الفلسطينيتين، وضعف الروابط الاجتماعية التقليدية بين اللاجئين، فضلاً عن التأثير الموحد القوي للصراع مع إسرائيل، تدفع الفلسطينيين إلى التغلب على التجزئة، وانتشار الإسلام السياسي الذي يميل بشكل سلبي نحو مظاهر الخصوصية – كل هذا دفع العشائر بشكل مستمر إلى الخلفية. ونتيجة لذلك، فشل ممثلو الجماعات التقليدية في فلسطين، كما حدث في العراق أو ليبيا، أو سوريا، أو اليمن على سبيل المثال، في أن يصبحوا عنصراً أساسياً في تشكيل النظام السياسي، والذي من شأن إزالته أن يؤدي إلى تدمير النظام القائم. ومع ذلك، فإن إمكانات المجموعات التقليدية في فلسطين التي كانت في حالة “خاملة” لفترة طويلة، تجلت في نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين على خلفية عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية، ومن ثم جمود المفاوضات حول الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية، وانتفاضة الأقصى، والأزمة الداخلية للسلطة الفلسطينية، التي أدت إلى الصراع بين حركتي “فتح” و”حماس”، وتقسيم شبه الدولة الفلسطينية عام 2007 إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.

إذا كانت العشائر الفلسطينية في تسعينيات القرن الماضي مطالبة ببسط نفوذها، من قبل ياسر عرفات، وذلك لتعزيز سلطته، فإنها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبهذا المعنى، أصبح إحياء العشائر على خلفية انتشار العنف شكلاً من أشكال تكيف الهياكل الباقية للمجتمع التقليدي مع الأزمة المتعددة الأبعاد، في منطقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتي كانت مثالاً آخر على الانحطاط في المجتمعات العربية الحديثة.

* * *

في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وفي إطار النهج الكلاسيكي، تم توجيه انتباه علماء الأنثروبولوجيا والإثنوغرافيين، الذين درسوا البنية الاجتماعية التقليدية للمجتمعات غير الغربية، إلى علاقات القرابة، وآلية عمل الوحدات الاجتماعية المختلفة، والقواعد غير الرسمية التي تنظم سلوك أفراد مجتمع معين، وما إلى ذلك. ومع تسارع التحديث بعد انهيار النظام الاستعماري، لفت الباحثون انتباههم إلى مشكلة التفاعل بين التقليدي والحديث في الحياة الاجتماعية والسياسية. ونتيجة لذلك، وفي إطار التفسيرات “غير الكلاسيكية” للوحدات الاجتماعية، التي درسها علماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة، انتشرت على نطاق واسع رؤية العشائر، كتكوين اجتماعي خاص، والتي لا يُرى فيه أي أساس عائلي (أو لا يعتبر ذا أهمية قصوى)، الأمر الذي يجعلها شكلاً مستقراً من المساعدة المتبادلة في الظروف الاجتماعية غير المواتية الناشئة، خلال عمليات التحول المصاحبة لتحديث المجتمعات التقليدية [8: ص 121، وص 126].

إن نقطة الضعف في التفسيرات “غير الكلاسيكية” لمفهوم “العشيرة”، والتي لاحظها الباحث المحلي تش. ك. لاماجا، هي أن “الباحثين لا يميزون دائماً بين خصائص “العشائر” السياسية عندما يصنفون الفرق السياسية، والمجموعات الأوليغارشية، والزمر، والشركات على أنها عشائر، أي تلك الهياكل التي لا ينبغي تحديدها مع مجموعات من النوع التقليدي (المجتمعي) مثل (العائلات والقبائل، والطوائف والمجموعات العرقية) [8: ص 129].

في هذا الصدد يقترح لاماجا العودة إلى الفهم التقليدي للعشيرة، استناداً إلى تعريف عالم السياسة البريطاني أندرو هيوود، الذي يحدد، من بين المجموعات العامة في السياسة، مجموعات من النوع التقليدي (المجتمعي) مثل (الجماعات الطائفية)، “التي تنشأ على أساس هياكل المجتمع الطبيعية والثابتة تاريخياً: ببساطة، لا يتم إنشاء مثل هذه المجموعات لأي غرض من الأغراض، لا أحد يدعو، أو يقبل أي شخص فيها على وجه التحديد – فالإنسان يعيش فيها منذ لحظة ولادته…على عكس مجموعات المصالح العادية، التي يتم تحديد العضوية فيها، من خلال الاختيار الذاتي للشخص، فإن الجماعات الطائفية تعتمد على أصل مشترك وروابط ذات طبيعة تقليدية” [10: ص 335]. في مثل هذه المجموعات، تكون المساعدة المتبادلة والولاء ذات أهمية كبيرة، مما يخلق نظاماً معقداً من الالتزامات المتبادلة، عندما يتطلب من عضو العشيرة الذي حقق نجاحاً في المجال الخاص، أو في الخدمة العامة، الاستجابة لطلبات أولئك الذين يدين لهم بالدعم. كما تشير إيرينا دونوفنا زفياجيلسكايا “في أي مجتمع، حتى الأكثر حداثة وديمقراطية، يختار الشخص الذي حصل على السلطة مساعديه، ويشكل بيئته على أساس موثوقية مرؤوسيه أو شركائه. ومع ذلك، فإن الفرق يكمن:

أولاً: في حقيقة أنه ليس لديه التزامات تجاههم تؤثر بشكل أساسي على حريته في الاختيار. ثانياً: إنه أقل التزاماً بحمايتهم، في حالة عدم الكفاءة والأمية، وغيرها من الصفات غير المناسبة للقائد” [5: ص 181].

عند دراسة العمليات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي، يهتم الباحثون بليبيا القذافي، وعراق صدام، ودول الخليج العربي والأردن والمغرب، حيث ارتبطت المجموعات التقليدية بالنظام الإداري، والأجهزة العسكرية والأمنية، مما ضمن استقرار الدولة ودعم النظام، وعزز شرعيته من خلال توزيع الموارد، وتوفير الوصول إلى السلطة. تجدر الإشارة إلى أن مثل هذا النموذج يتمتع بهامش أمان محدود، كما يتضح من الحروب الأهلية في العراق وسوريا وليبيا واليمن، عندما عارضت الجماعات غير الراضية عن وضعها السلطات، في ظل ظروف نقص الموارد والنفوذ الخارجي.

غالباً ما يلاحظ علماء السياسة، ونشطاء حقوق الإنسان [13: ص 145-146؛ 32: ص 82] الجوانب السلبية للعشائرية السائدة، مع التركيز على حقيقة أن الانتماء إلى العشائر الأبوية يعيق تحرر المرأة، ويقيد الشباب، ويحد من المبادرة الشخصية، والمنافسة في سوق العمل، حيث تأخذ الصفات المهنية أهمية ثانوية مقارنة بالولاء لأبناء القبائل.. تستبدل العشائر مؤسسات الدولة والقانون الرسمي بأعراف غير رسمية، وتميل إلى اللاشرعية، معتبرة هذا النشاط مقبولاً تماماً، على الرغم من أنه ليس النشاط الرئيس، لأنه يتم تنفيذه لصالح المجتمع، ويساعد على تعزيز مكانته في ظروف المنافسة الشرسة على الموارد الاقتصادية المحدودة. وفي نهاية المطاف، فإن هذا يعيق تطور الديمقراطية، خاصة، وإن الحكومة تسعى إلى استخدام العلاقات بين الراعي والزبون، لتعزيز سلطتها.

ومن أجل اكتمال الصورة وموضوعيتها، من الضروري إضافة أن العشائر والقبائل التي تمر بأزمات وأوضاع ميئوس منها توفر لأفرادها الفرص اللازمة، للبقاء على خلفية المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي، وتبين أنها ذات أهمية حاسمة، بالنسبة لجزء كبير من السكان.

وأخيراً، تحمل مدونة قواعد السلوك التقليدية القيم الإيجابية المتمثلة في العلاقات الأسرية القوية، والروابط بين الأجيال، والمساعدة المتبادلة، واحترام الماضي التاريخي [2].

أما في ما يتعلق بفلسطين، وعلى الرغم من أن موضوع الجماعات التقليدية قد تم العمل عليه، إلا أنه ظل على مدى عقود محجوباً بمشاكل أخرى: الصراع العربي الإسرائيلي، وعملية السلام، واللاجئون الفلسطينيون، وتشكيل هوية قومية فلسطينية مشتركة، وأنشطة المنظمات الفلسطينية العلمانية والإسلامية.

يعد هذا الاختيار لموضوعات البحث رداً معقولاً على الأحداث التي تجري في منطقة المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية، حيث تمت دراسة المجموعات التقليدية في المجتمع الفلسطيني بشكل أكبر، على أساس مواد عرب إسرائيل، لأن الملاءمة والأهمية التطبيقية لدراسة الأقليات في دولة ذات طبيعة صهيونية يهودية أمر مفهوم تماماً [17؛ 22؛ 29].

وفي الوقت نفسه، تحتفظ البنية الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة بسمات تقليدية، باعتبارها ليست استثناء في الصورة الشاملة للعالم العربي.

تظل العشائرية أحد المكونات المهمة في هذا التسلسل الهرمي، فهي تعتمد على علاقات الراعي والزبون بين أفرادها، مفترضة أن يقدم الأشخاص الأدنى في هذا التسلسل الهرمي الاجتماعي الولاء لرؤسائهم، مقابل الحماية، وجميع أنواع المساعدة.

تاريخياً، شكل نظام المحسوبية جزءاً لا يتجزأ من العلاقات الاجتماعية والسلطوية في فلسطين، التي كانت واحدة من الأجزاء المتخلفة في العالم العربي، في ظل الإمبراطورية العثمانية، ومن ثم أثناء حكم الانتداب البريطاني.

تمثلت الهياكل الاجتماعية التقليدية الفلسطينية بالقبائل البدوية (القبائل)، والعائلات الحضرية البارزة ذات النفوذ (العائلات)، والعشائر الجماعية (الحامولة). ويمكن تعريف هذه الأخيرة بأنه تكتل من عشرات ومئات الأسر الكبيرة. ويختلف تأثير كل عنصر من عناصر البنية الاجتماعية التقليدية الثلاثة على الوضع في فلسطين ومناطقها، ويتغير دورها في الحياة الاجتماعية والسياسية باختلاف المراحل.

وهكذا، فإن البدو الرحل الذين سكنوا المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية في جنوب فلسطين، كانوا على الهامش لعدة قرون. فمن ناحية، ارتبطوا بالسكان الفلسطينيين الزراعيين المستقرين، من خلال علاقات تجارية وتبادلية متبادلة المنفعة، ومن ناحية أخرى كانوا، وهم المولعون بالحرب والمحبون للحرية عاملاً محتملاً لزعزعة الاستقرار، بالنسبة للعثمانيين، ولسلطات الانتداب البريطاني في ما بعد.

كانت العائلات المعروفة في المدينة، بمثابة دعم للسلطات، لكن تراجع نفوذها إلى حد ما خلال فترة الانتداب، حيث باتت السيطرة البريطانية على الوضع في فلسطين أكثر إحكاماً، مما هو عليه في السنوات التي كانت فيها فلسطين جزءاً من ولايتي دمشق، وبيروت، وسنجق القدس التابع للإمبراطورية العثمانية.

أما العنصر الثالث –  الحامولة – فهو ذو أهمية كبيرة، سواء من حيث اتساع نطاق تغطية السكان الفلسطينيين، أو في ما يتعلق بتعزيز تأثيرهم على الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في نهاية القرن العشرين، وأوائل القرن الحادي والعشرين.

المجموعات التقليدية الطرفية: البدو والعائلات النبيلة

على الرغم من أعدادهم الكبيرة (25% من السكان)، فإن وجود البدو في قطاع غزة لا يكاد يكون ملحوظاً في الساحة السياسية. تتحد القبائل المحلية في ستة اتحادات، وتحتل بشكل رئيسي الأجزاء الجنوبية والوسطى من المنطقة. وتعتبر أكبر القبائل هناك الخناجرة والترابين، وأضعفها هي قبيلتا (أبو حجاج وأبو ظاهر)، اللتان فقدتا أراضيهما، عندما نزح أفرادهما من إسرائيل عام 1948.

تاريخياً، كان بدو قطاع غزة جزءاً من مجموعة بدوية واسعة غطت شبه جزيرة سيناء وجنوب فلسطين، وأراضي شرق نهر الأردن. كانت المهنة الرئيسية للبدو الرحل في الماضي هي تربية الماشية، أو السرقة، أو مرافقة القوافل التجارية والحجاج المتجهين إلى الحج مقابل أجر.

اعتبرت السلطات العثمانية حب البدو للحرية تهديداً لسلطتها واستقرارها في المنطقة. اتخذ السلطان عبد الحميد (1876–1909) في نهاية القرن التاسع عشر عدداً من الإجراءات، لوضعهم تحت سيطرة السلطات. بدأ بإعادة توطين الشراكسة الموالين للإمبراطورية في فلسطين، مما خلق ثقلاً موازناً للبدو الرحل، وبعد ذلك عمل على نقلهم إلى نمط حياة مستقر من خلال تأسيس مدينة بيروسيبي (الآن بئر السبع) في صحراء النقب عام 1900.

لقد أثمرت أنشطة السلطات العثمانية، وتم تجنب مقاومتهم بشكل جاد، فخلال الحرب العالمية الأولى، شاركت القوات البدوية في المعارك ضد البريطانيين، إلى جانب الأتراك الذين حاولوا السيطرة على قناة السويس. واصلت سلطات الانتداب البريطاني سياسات أسلافها، ولكن دون ضغوط كبيرة [18: ص 5-7، وص 13].

البدو بعد 1948

ترك معظم البدو مواطنهم خلال الحرب العربية الإسرائيلية الأولى 1948-1949، مثل غيرهم من العرب الفلسطينيين، وانتقلوا إلى الأردن بما في ذلك الضفة الغربية، وإلى شبه جزيرة سيناء في مصر، وإلى قطاع غزة الذي سيطرت عليه الإدارة المصرية، حيث تبين أن نسبة اللاجئين بين البدو مرتفعة للغاية، فمن بين 70-90 ألف بدوي، الذين كانوا السكان الوحيدين تقريباً في صحراء النقب، خلال فترة ما قبل الحرب، بقي حوالي 10 آلاف شخص منهم في وطنهم [30: ص 108-109].

إن عزل البدو في غزة عن أماكن تواجدهم البدوية، إلى جانب التدفق الهائل للاجئين الفلسطينيين، حوّل القطاع إلى منطقة مكتظة بالتحضر الزائف، مما جعل من المستحيل استمرار العيش في أسلوب الحياة البدوية.

في الوقت الحاضر، لا يعمل سوى جزء صغير من البدو في تربية الماشية، ويحتفظون بالإبل بشكل أساسي كرمز لهويتهم، ولأن حليبهم يمتلك قيمة كبيرة لخصائصه العلاجية [11].

أدى الانتقال المفاجئ لنمط حياة مستقر إلى إضعاف الروابط الاجتماعية التقليدية، وتقليص دور القبائل في الاقتصاد، وانخفاض وزنها السياسي الضعيف أصلاً. وفقاً لهذه المعايير، فإن البدو الفلسطينيين هم أدنى بكثير من نظرائهم في البلدان المجاورة، كالمملكة العربية السعودية والأردن وسوريا [27: ص 1-2].

وعلى الرغم من تضاؤل ​​الاختلافات في نمط الحياة بين البدو السابقين، وبقية سكان قطاع غزة، ظل هناك عامل مهم من عوامل الاغتراب تمثل في الاعتقاد السائد بين الفلسطينيين بأن البدو متعاونون [33]. ويستند هذا التحيز إلى حقيقة أن البدو، الذين بقوا في إسرائيل يخضعون للخدمة العسكرية التطوعية في جيش الدفاع الإسرائيلي، بما في ذلك كجزء من كتيبة التعقب البدوية التابعة لـ “لواء جفعاتي” المتمركز في المنطقة العسكرية الجنوبية، والذي شارك في العمليات القتالية ضمن قطاع غزة [1]. وبالتالي، فإن دور البدو في الحياة الاجتماعية والسياسية لقطاع غزة لا يذكر، ولكن لا يمكن تجاهل حقيقة أن عزل وانفصال ربع سكانه عن السياسة هو أحد العوائق أمام احتكار “حماس” للسلطة في القطاع.

تحتفظ عائلات النخبة بنفوذ وسلطة معينة في فلسطين، يعود تاريخها إلى زمن المماليك والعثمانيين، عندما ظهرت طبقة من النخبة المحلية في مدن المحافظات: أصحاب العقارات الحضرية، والتجار، وملاك الأراضي الأثرياء الغائبين، ورجال الدين، والقادة العسكريين، الذين عملوا كوسطاء بين العثمانيين، وبعدهم سلطات الانتداب، وبين السكان المحليين. وتشمل هذه عائلات الحسيني، النشاشيبي، الدجاني، عبد الهادي، طوقان، النابلسي، خوري، التميمي، الخطيب، الجعبري، كنعان، الشكعة، البرغوثي، الشوا، الريس وغيرهم… كان ممثل عائلة الحسيني يشغل تقليدياً منصب مفتي القدس!

لعبت عائلات النخبة هذه دوراً بارزاً خلال فترة الانتداب، عندما قاد الحاج أمين الحسيني مقاومة الهجرة اليهودية والحركة الصهيونية، وكذلك السلطات البريطانية التي تغاضت عنهما.

الحسيني، الذي أثار الانتفاضة العربية في 1936-1939، طُرد من فلسطين، ودخل في خدمة سلطات ألمانيا النازية. بعد عودته من أوروبا إلى مصر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، دعا إلى إنشاء دولة عربية فلسطينية موحدة ومستقلة.

أدت إخفاقات القوات الفلسطينية، خلال الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، وإحجام المجتمع الدولي عن التعامل مع شريك هتلر السابق إلى تقويض تأثير عائلة الحسيني بشكل خطير.. هذا لا يعني انسحاب الوجهاء من السياسة الفلسطينية، بل على العكس من ذلك، دعمت عائلات النشاشيبي وطوقان والخالدي أمير شرق الأردن، الذي ضم الضفة الغربية والقدس الشرقية في عام 1950. لكن بشكل عام، انخفض تأثير القادة السابقين الذين قاتلوا ضد الصهيونية دون جدوى، إضافة إلى فقدهم بعض ممتلكاتهم نتيجة للاحتلال. ومع ذلك، ظلت خبرتهم وسلطتهم وعلاقاتهم مطلوبة.

خلال الفترة 1948-1967 التحق العديد من الوجهاء الفلسطينيين بالخدمة الملكية الأردنية، وبعد عام 1967 تمتعوا بمعاملة تفضيلية من إدارة الاحتلال الإسرائيلي، وحافظوا على علاقاتهم مع الهاشميين الأردنيين بنفس الوقت.

تواجد عدد قليل من عائلات النخبة في غزة، التي كانت قبل تدفق اللاجئين الفلسطينيين منطقة ضئيلة مقارنة بمناطق أخرى من فلسطين. كانت عائلات الشوا والريس الأكثر تأثيراً، حيث شكلتا جزءاً من النخبة الإدارية في الخمسينيات والستينيات عندما خضع القطاع لسيطرة مصر. وبعد حرب 1967، واصلت إسرائيل الاعتماد عليهم، لكن منذ أواخر السبعينيات، أدت السياسات المتناقضة لسلطات الاحتلال، التي صادرت أراضي مملوكة للعائلات لبناء المستوطنات اليهودية، إلى تراجع نفوذها. وقد لعب الدور الحاسم في إضعاف مواقف العائلات حقيقة أنه في الستينيات، حل نشطاء المنظمات القومية الفلسطينية للمقاومة المناهضة للصهيونية محل الجيل القديم من القادة شبه الإقطاعيين. وكان الممثلون النموذجيون لجيل الشباب هم مؤسسو فتح (ياسر عرفات، صلاح خلف، أبو جهاد، محمود عباس، وغيرهم)، الذين تلقوا تعليماً حديثاً، وتبنوا الأفكار العلمانية للقومية العربية، وفي الشتات فقدوا إلى حد كبير الروابط الاجتماعية التقليدية.

تحسن وضع الوجهاء في التسعينيات، بعد إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث قررت السلطات الجديدة، مثل كل السلطات السابقة، حشد دعمهم، خاصة وإن ياسر عرفات كان بحاجة إلى نوع من التوازن أمام نشطاء “فتح” المحليين الشباب الذين ظهروا خلال سنوات الانتفاضة المناهضة لإسرائيل. ومع ذلك، في بداية القرن الحادي والعشرين، وعلى خلفية أزمة الحكم الذاتي الفلسطيني، حلت أوقات عصيبة على تلك العائلات مرة أخرى.

 القسم الثاني والأخير غدا

  • نشر هذا البحث في العدد الثاني من مجلة “الدين والمجتمع في الشرق” الروسية الصادر عام 2018 ، ص 14-46.
  • _________________________________________

ملف العدد الخامس من صحيفة (العربي القديم) تشرين الثاني/ نوفمبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى