العربي الآن

ليسوا “جماعة لأحد”: من سلطة رابعة إلى سلطة تابعة

ما يجهله عزمي بشارة ومن يشبهه هو أن السوريين، رغم الإنهاك والانقسام لا يمكن أن يُشتروا.

نوار الماغوط – العربي القديم

السيدة رولا حيدر المحترمة…
تحيّة طيبة وبعد،

أقدر ما تفضلتِ به من نصّ يعكس شعورًا بالتزامكم كمثقفين وإعلاميين سوريين، العاملين في مؤسسات أسّسها الدكتور عزمي بشارة، وحرصكم على تبيان أنكم لستم «جماعةً لأحد» بل كفاءات وطنية تسعى للعدالة والحرية، وترفض الاتهامات المتكررة التي تحاول النيل منكم…. إلا أنني، أودّ أن أشارككم بعض الملاحظات والتساؤلات حول هذه المشاريع الإعلامية والبحثية، لاستجلاء الصورة وفهم الدور الذي تلعبونه.
ما نشهده اليوم في المشهد الإعلامي السوري، ولا سيما في المؤسسات التي تُدار أو تُموَّل عبر مشاريع الدكتور عزمي بشارة، هو حالة نموذجية لما يمكن تسميته بـ «الاستلاب عبر المال السياسي» — أي توظيف رأس المال في توجيه الخطاب العام، وشراء الولاءات الثقافية والإعلامية تحت شعارات «الحرية» و«التحرر» و«الديمقراطية»… وهذا الأمر يا سيدة رولا وإن لم يكن ينطبق على بعض الأفراد، إلا أنه ينطبق على المناخ الولائي الذي يجعلكم جميعا بلا استثناء، معجبين بكل ما يقوله ويقدمه عزمي بشارة بلا استثناء أيضا.

 رولا حيدر: هو مشروع يشبهنا ونشبهه بتنوّعه وتعدّده وتضادّه وتناقضاته في بعض الأحيان

دخل المال القطري، عبر بوابة بشارة ومراكزه البحثية، إلى الفضاء السوري تحت لافتة «دعم النخب المثقفة والإعلاميين السوريين الأحرار» خلال الثورة… وبالتالي الوقوف مع ثورة الشعب السوري، لكن مع مرور الوقت، بات واضحًا أن هذا الدعم لم يكن مفتوحًا على التنوع، بل انتقائيًّا دقيقًا، يُكافئ الولاء الفكري والسياسي لا الكفاءة المهنية. ومن لم ينسجم مع الخطاب المرسوم، أو حاول نقد المنهج أو التساؤل عن التمويل، جرى تهميشه أو فصله.

لقد جرى شراء النخب السورية بالرواتب والمناصب والفرص الإعلامية، وفرص توظيف الأزواج، وتحويلها تدريجيًا إلى أدوات ناعمة لإعادة صياغة وعي السوريين بما يتماشى مع أجندة سياسية إقليمية محددة — أجندة تُعيد إنتاج الاصطفافات القديمة تحت عنوان جديد اسمه “الليبرالية العربية” أو “التحول الديمقراطي”.

ما يُسوَّق اليوم من خلال قنوات مثل تلفزيون (سوريا) أو( العربي) أو (العربي الجديد)، ليس إعلامًا حرًّا بقدر ما هو خطاب موجَّه، لا أثر فيه لأي رأي آخر يختلف مع طروحات عزمي بشارة، حتى لو من باب النقاش، فكل ما يقوله صواب، وكل آرائه لا يأتيها الباطل من أمامها أو خلفها… ولهذا نجد إعلاما يخلط بين الواقعة الصحفية والموقف الأخلاقي والمصلحة السياسية.
وللوهلة الأولى يُنتج خطابًا يبدو عقلانيًا وحداثيًا، لكنه في العمق يخلق وعيًا زائفًا لدى المتلقي السوري، يحصر الثورة والحرية في قوالب ناعمة تناسب الممول، ويقصي أي صوت وطني مستقل خارج معادلة «القبول السياسي».

لقد تمكّن هذا النمط من الإعلام من تحييد القضايا الجوهرية: العدالة الانتقالية، المساءلة، الاستقلال الوطني، وحتى سؤال الهوية السورية. كلها ذابت في خطاب تجميلي يُعيد إنتاج فكرة “المواطن المعولم” بدل المواطن السوري الحرّ.
إنّ أخطر ما فعله عزمي بشارة عبر مؤسساته أنه خلق طبقة من الإعلاميين والمثقفين المنفصلين عن نبض الشارع السوري، المندمجين في بنية خطاب عربي–قطري لا يرى في سوريا سوى مادة تحليل أو ساحة نفوذ.
أصبح بعض المثقفين الذين صدّقوا أنهم «شركاء في مشروع فكري» مجرّد موظفين في ماكينة ضخّ إعلامي، تسوّق الوعي كما تُسوّق البضائع، وتُبرمج الوجدان السوري ضمن حدود ما هو مسموح به سياسيًا.

تجربة عزمي بشارة ليست فريدة؛ هي استمرار لمنظومة أوسع من الوصاية الفكرية على الشعوب العربية، ولكن بصيغة “مُثقّفة”.
بدلًا من احتلال الأرض، صار يُحتل العقل. وبدل أن يُفرض الطغيان بالسلاح، صار يُفرض بالمنحة البحثية، والراتب الشهري، وبرامج التدريب.

إنّ ما يحدث هو تحويل الإعلام من سلطة رابعة إلى سلطة تابعة. سلطة تابعة لرأس مال يريد إعادة تشكيل المشهد السياسي السوري في صورة تتلاءم مع مصالح الدول الراعية، لا مع مصالح السوريين الذين قدّموا كل شيء من أجل حريتهم.

ما يجهله عزمي بشارة ومن يشبهه هو أن السوريين، رغم الإنهاك والانقسام، لا يمكن أن يُشتروا.
الشعب الذي ثار على الاستبداد العسكري لن يخضع لاستبداد ناعم بلون الفكر والتمويل.

إن معركة السوريين اليوم لم تنتهي بسقوط النظام الطائفي الامني ، بل هي مستمرة ضد كل من يحاول مصادرة صوتهم باسم الحرية. الإعلام الذي يُموَّل ليقول ما يُراد له أن يقول، ليس إعلامًا حرًا  يريد خيرا لسوريا

ما نحتاجه ليس «مؤسسات عزمي بشارة» ولا «تمويلات فكرية مشروطة»، بل إعلام سوري مستقلّ فعلاً، ينشأ من الأرض لا من المكاتب المكيّفة في الخارج، يتغذّى من همّ الناس لا من رغبات المموّل، ويقول الحقيقة لا ما يُطلب منه أن يقوله.

لكي يُستعاد وعي السوريين، لا بد من كسر هذه الحلقة المفرغة من المال السياسي والتضليل الإعلامي والنخب المأجورة. فالثورة التي دفعت دمها ثمنًا للحرية، لن تُختصر في منحة، أو مشروع بحثي، أو استوديو تلفزيوني.

زر الذهاب إلى الأعلى