الغذاء والدواء والسلاح: المثلث الذهبي لسيادة الدول
السيادة لا تُمنح بل تُبنى. ومن لا يملك غذاءه ودواءه وسلاحه سيبقى تابعًا مهما علا صوته بالشعارات

بقلم: عدي شيخ صالح* العربي القديم
السيادة ليست شعارًا يرفع في المناسبات، ولا مجرد بنودٍ في الدساتير أو كلماتٍ تُردّدها الحكومات. إنما هي قدرة عملية على أن تعيش الدولة وتواجه الأزمات دون أن تُرغم على الركوع لإملاءات خارجية. وإذا أردنا أن نحدد جوهر هذه القدرة، فإنها تتجسد في مثلث ذهبي: الغذاء، الدواء، السلاح.
أولاً: الغذاء… سلاح البقاء قبل سلاح الحرب :
منذ فجر التاريخ كان الغذاء عاملًا أساسيًا في قوة الإمبراطوريات وضعفها.
الإمبراطورية الرومانية سُمّيت “سيدة البحر المتوسط” لأنها سيطرت على طرق القمح القادمة من مصر.
الاتحاد السوفيتي انهار في جزء منه بسبب ضعف منظومته الزراعية وعجزه عن توفير الغذاء بجودة وأسعار منافسة.
اليوم، الدول التي تستورد قوتها الأساسي (كالقمح مثلاً) تبقى رهينة لمن يملك مصادره. أي أزمة سياسية أو حصار اقتصادي يمكن أن يشلّ استقرارها الداخلي ويشعل اضطرابات اجتماعية.
الأمن الغذائي إذا ليس رفاهية؛ إنه ركيزة أمن قومي. فالدولة القادرة على إنتاج غذائها الأساسي تملك حصانة ضد الابتزاز والضغوط.
ثانيًا: الدواء… معركة الحياة اليومية
الدواء أكثر خطورة من الغذاء لأنه مرتبط مباشرة ببقاء الأفراد. في الأزمات الكبرى (كالحروب أو العقوبات)، يُستخدم الدواء كورقة ضغط، حيث تُمنع بعض الأدوية أو يُعرقل استيرادها.
كثير من الدول النامية تملك زراعة واسعة لكنها عاجزة عن تصنيع دواء بسيط كالأنسولين، فتجد نفسها رهينة للشركات العالمية.
تصنيع الدواء محليًا، ولو في نطاق محدود للأدوية الأساسية والمزمنة، يمنح الدولة قدرة على الصمود في أشد الظروف. الدول التي اهتمت بالصناعات الدوائية (مثل الهند) تحولت إلى لاعب استراتيجي عالمي، لا مجرد مستهلك خاضع.
ثالثًا: السلاح… ضمانة القرار المستقل
لا سيادة دون قوة عسكرية وطنية.
إذا كان سلاح الدولة مستوردًا بالكامل، فإن قرارها العسكري والسياسي يصبح معلقًا بيد من يبيعها السلاح.
تركيا مثال حديث: بعد أن وجدت نفسها تحت ضغط أمريكي في ملف تسليحها، اندفعت نحو تصنيع طائرات مسيرة ودبابات وصواريخ، ما منحها هامش استقلال أكبر.
إسرائيل مثال آخر: منذ بدايتها وضعت أولوية كبرى لصناعة السلاح، حتى أصبحت قوة تصديرية، وهذا منحها نفوذًا يتجاوز حجمها الجغرافي.
السلاح المحلي لا يعني الاكتفاء التام منذ اليوم الأول، لكنه مسار استراتيجي يبدأ ببرامج بحث وتصنيع تدريجية تنتهي إلى استقلالية نسبية.
رابعا: الدروس المستفادة من التجارب الدولية
- كوريا الشمالية: رغم فقرها وعزلتها، صمدت بفضل تصنيع سلاحها محليًا واعتمادها على الزراعة الذاتية بدرجة معينة.
- إيران: استطاعت التخفيف من أثر العقوبات لأنها ركزت على صناعة دواء محلي وأسلحة خاصة بها.
- ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية: جعلت الاكتفاء الغذائي والصناعي أولوية لإعادة بناء سيادتها.
- مصر في السبعينيات: حين رُفع عنها الدعم السوفيتي، وجدت نفسها في مأزق لأن اعتمادها كان شبه كامل على الخارج في الغذاء والسلاح.
خامسا: نحو مفهوم السيادة الحقيقية
يمكن القول إن الدولة ذات السيادة هي التي تستطيع أن تقول “لا” حين تُفرض عليها الإملاءات، ولا تكون هذه الكلمة مجرد شعار فارغ. وهذه القدرة على الرفض تتأسس على:
- أن تشبع شعبها بمواردها أو بقدراتها الإنتاجية.
- أن تعالج مرضاها بأدويتها.
- أن تدافع عن أرضها بسلاح صنعته أو تحكمت في إنتاجه.
هذا هو المثلث الذهبي للسيادة، الذي يجعل الدولة قادرة على مواجهة الضغوط دون انهيار أو تبعية.
خاتمة:
السيادة لا تُمنح بل تُبنى. ومن لا يملك غذاءه ودواءه وسلاحه سيبقى تابعًا مهما علا صوته بالشعارات.
إن الدول العربية اليوم، وفي مقدمتها سوريا الخارجة من حرب وانقسام، لا يمكن أن تحقق سيادة فعلية إلا بالتركيز على هذا المثلث:
- استصلاح الأراضي وبناء زراعة استراتيجية.
- دعم الصناعات الدوائية المحلية.
- تطوير منظومات دفاعية وعسكرية وطنية.
عندها فقط يمكن أن نتحدث عن دولة مستقلة القرار، حرة الإرادة، قوية السيادة.
_______________________________
*كاتب و باحث سوري مستقل في الفكر السياسي والاجتماعي، يهتم بقضايا الهوية السورية، وتحولات الدولة، وإشكالات الانتقال السياسي بعد النزاعات.