مَن هو أوَّلُ مَن كتب بالقلم... كوشيم أم إدريس عليه السَّلام؟
مهنَّا بلال الرَّشيد
يُمكننا أن نستهلَّ هذا المقال برأيٍ مهمٍّ للمؤمنين بالنَّظريَّة الدِّينيَّة، الَّتي يرى أصحابها أنَّ الله -سبحانه وتعالى- خلق آدم من الطِّين، وخلق حوَّاء -عليها السَّلام- من ضلع آدم، وأجلس آدم، وعلَّمه أسماء الأشياء كلِّها، كذلك يمكننا أن نشير إلى أنَّ الإيمان المطلق بهذه النَّظريَّة الدِّينيَّة قد يُغلق باب الاجتهاد في نشأة اللُّغة وتطوُّرها، ويُلقي بظلاله على اختراع الكتابة أيضًا؛ لأنَّ هذه النَّظريَّة تقرِّر -بشكل أو بآخر- أنَّ اللُّغة وحيٌ وإلهام مباشر من الله عزَّ وجلَّ، وتعاني أدلَّة أصحاب هذه النَّظريَّة من قصور ملحوظ في تفسير أسباب تطوُّر اللُّغات وتباعدها وتباعد قواعد النَّحو والصَّرف فيها برغم عودتها إلى أرومة آدميَّة واحدة لا تتجاوز مع هوامشها الزَّمنيَّة المريحة (7000) سنة على أبعد تقدير، كما تُدخِل الأمم المتباعدة في صراعات أيديولوجيَّة (انتمائيَّة-دينيَّة) حول لغة آدم -عليه السَّلام- الأولى ولغة أهل الجنَّة؛ لذلك لا بدَّ من التَّذكير بتطوُّرات مهمَّة مرَّت بها البشريَّة خلال (30000) سنة فصلت بين نطق اللُّغة وكتابتها، أو فصلت بين تطوُّر اللُّغة أو ظهور النُّطق العالي لدى الإنسان العاقل، الَّذي ننحدرُ منه، وكتابة أولى الكلمات الرَّمزيَّة بلغة أكديَّة وحروف مسماريَّة في العراق بين (3750-3250) قبل الميلاد، مع الإشارة إلى أنَّ أصحاب النَّظريَّة الدِّينيَّة يفضِّلون اللُّجوء إلى مبدأ الجمع على التَّواريخ؛ أي تقديم سلسلة بأسماء الأنبياء والملوك الَّذين تعاقبوا على حُكم الكرة الأرضيَّة منذ آدم -عليه السَّلام- حتَّى يومنا هذا، وقد قام القسُّ جيمس أوشر (1625-1656) رئيس أساقفة إيرلندا بمثل هذا الجهد، وبدا له أنَّ عُمْرَ الإنسان على سطح الأرض يبلغ حوالي (4004) أربعة آلاف وأربع سنوات فقط، وقد توصَّل لمثل هذه النَّتيجة بجمع أعمار الأنبياء والملوك المذكورين في الكتاب المقدَّس بعهديه: القديم والجديد مع جمع المراحل الزَّمنيَّة الفاصلة بينهم، ويبدو لي قصورٌ واضحٌ في نتائج هذه النَّظريَّة برغم منهجيَّتها المعقولة؛ لأنَّه ليس من الضَّروريِّ أن يحتوي الكتاب المقدَّس على معلومات تأريخيَّة مفصَّلة عن البشريَّة، وليس شرطًا على أيِّ كتاب مقدَّس أن يكون كتابًا مفصَّلًا في سرد أحداث التَّاريخ كلِّها، وكذلك يُثبت تحليل الأحماض النَّوويَّة مع تحليل نتائج ساعَتَي: الكربون والبوتاسيوم أنَّ عُمْرَ البشر على سطح الأرض يُقدَّر بمئات آلاف السِّنين، وهناك بعض الهياكل العظميَّة الَّتي يتجاوز عمرها مليون سنة، وتختلف في خصائصها عن خصائص الهيكل العظميِّ للإنسان العاقل؛ لذلك يجد بعض المؤمنين بنظريَّة داروين التَّطوُّريَّة في هذه الهياكل دعمًا لمعتقداتهم وآرائهم.
كيف ظهرت اللُّغة وكيف ظهرت الكتابة؟
يعتقد أصحاب النَّظريَّة الدِّينيَّة أنَّ لغتنا البشريَّة العالية، الَّتي نتحدَّثها اليوم وُجدت مع آدم -عليه السَّلام- حين علَّمه الله أسماء الأشياء كلَّها، ثمَّ عرض الأسماء على الملائكة بعد ذلك، وأعتقد بقصور أدلَّة علماء اللُّغة من أصحاب النَّظريَّة الدِّينية، لا سيَّما فيما يتعلَّق بعجزهم عن الاستدلال العقليِّ على لغة آدم الأولى ولغة أهل الجنَّة، فالعبرانيُّون يعتقدون أنَّها لغة عبرانيَّة، والسِّريان يعتقدون أنَّها سريانيَّة، والعرب يعتقدون أنَّها لغة عربيَّة، ولا يمكن البتُّ العلميُّ في مثل هذا النَّوع من الخصومات ذات الظِّلال القوميَّة والدِّينيَّة معًا؛ لذلك أميل إلى نظريَّة (تعارُف البشر) ووجود أكثر من آدم؛ لا سيَّما أنَّ كلمة آدم في اللُّغة العربيَّة مشتقَّة من أديم التُّراب؛ وهذا يعني أنَّ كلمة آدم لا تدلُّ على شخص بعينه بقدر ما تدلُّ على الإنسان المخلوق من الطِّين؛ فإنسان النِّياندرتال (آدم)، وإنسان الهومو إيريكتوس (آدم)، وعندما تدافعت هذه الأنواع البشريَّة، واقتتلت على مصادر المياه في المجالات الحيويَّة، وتعارَف بعض منها على بعضها الآخر، وتزاوج بشر من طين متباعد وُلد إنسان الكلام، أو جدَّنا العاقل المعروف باسم (الهومو سابينيز) أو إنسان الكلام، وهكذا تكلَّم البشر لغتهم الأولى قبل (35000) سنة نتيجة طفرة وراثيَّة بسبب تعارُف البشر؛ ومن هنا راح البشر يعبِّرون عن أغراضهم بشيفرات صوتيَّة أو برموز صوتيَّة تدلُّ على مقاصدهم الَّتي يفكِّرون بها؛ ومن هنا فقد تجاوز علم اللُّغة المعاصر تعريف ابن جنِّيٍّ (934-1002.م)، الَّذي يرى أنَّ اللُّغة أصوات يعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم؛ إلى تعريف اللُّغة على أنَّها توظيف الأصوات ومخارج الحروف البشريَّة وتحويلها إلى رموز وشيفرات دالَّة على الأغراض والمعاني من خلال عمليَّات منطقيَّة محدَّدة؛ ومن هنا تجاوز علم اللُّغة المعاصر رأياً مهمّاً آخر لأستاذنا الدُّكتور محمود السَّعران، الَّذي اعتقد أنَّنا نفكِّر في جُمل، والحقيقة أنَّنا لا نفكِّر في جمل، وإنَّما نفكِّر في عمليَّات منطقيَّة؛ مثل: أريد، ولا أريد، ويجوز، ولا يجوز، وأكبر مِن، وأصغر من، والجمع والطَّرح والتَّقسيم وغيرها، ونعبِّر عن هذه العمليَّات المنطقيَّة أو نُخرجها للعلن بالشِّيفرات اللُّغويَّة؛ فرموز اللُّغة وأصواتها أدوات إخراج وتعبير وكشف عن عمليَّات التَّفكير وليست هي أداة التَّفكير ذاتها.
أمَّا الكتابة فهي شيء مختلف تمامًا عن اللُّغة، وإن عبَّرت حروف الكتابة عن رموز اللُّغة وأصواتها في مرحلة الكتابة الأبجديَّة المعاصرة، فإنَّ هذا الطَّريقة التّعبيريَّة أو التَّرميزيَّة اختراع بشريٌّ مكَّن الإنسان من استثمار موهبة الصَّوت ومخارج الحروف ومركز تخزين المعلومات في الدِّماغ للنُّطق، أو بمعنى آخر نحن الآن أمام عمليَّة مُدمجة ومعقَّدة، وقد تحدَّث العالم الأمريكيُّ المعاصر نعوم تشومسكي وأصحاب النَّظريَّة الأحيائيَّة ومنهج النَّقد الحيويِّ عن نظريَّة الدَّمج هذه، واللُّغة في تعريفها الحديث: أصوات أو شيفرات صوتيَّة منطوقة؛ للتَّرميز الصَّوتي المسموع عن الأشياء والمقاصد، والكتابة هي عمليَّة التَّرميز الشَّكليِّ المرئيِّ للمعاني والدِّلالات والكلمات والمقاصد بلوحات فنِّيَّة أو صور فوتوغرافيَّة أو رموز أيقونيَّة؛ ولهذا مرَّت الكتابة البشريَّة بمراحل تطوُّريَّة كثيرة قبل وصولها إلى مرحلة الكتابة الأبجديَّة الرَّاهنة في معظم لغات العالم المعاصرة، وهناك مَن يطلق على مرحلة الكتابة المعاصرة اسم الكتابة (الألفبائيَّة) على طريقة النَّحت اللُّغويِّ من (ألف، باء، تاء..)، وهناك مَن يُسمِّيها الكتابة (الأبجديَّة) على طريقة النَّحت اللُّغويِّ من (أبجد، هوَّز)؛ لذلك يمكننا القول: إنَّ فنون الرَّسم والكتابة والنَّحت والتَّصوير قد كانت فنًّا تعبيريًّا واحدًا يعتمد على المحاكاة أو تقليد الأشياء الموجودة في الطَّبيعة؛ فرسْمُ لوحة على جدار كهف هو كتابة تصويريَّة قديمة، ونحتُ تمثال على بوَّابة معبد هو كتابة نحتيَّة، وإن اختلفت مقاصد الكتابة وأغراضها وأدواتها من نصٍّ إلى آخر، ثمَّ انفصل بعض هذه الفنون عن بعضها الآخر مع مرور الزَّمن، عْبر تطوُّرٍ تدريجيٍّ طويل نحتَ فيه الإنسان، ورسمَ، وصوَّرَ، وكتبَ، وراح يطوِّر كتابته، ويختزل رموزها؛ لزيادة مساحة التَّخزين على الجدران، ومن أجل التَّعبير عن المعاني الكثيرة في ألواح الطِّين الصَّغيرة تخلَّى عن التَّشابه الأيقونيِّ أو التَّشابه الشَّكليِّ بين الشَّيء ودلالته أو معناه؛ ففي مرحلة الكتابة الأولى كان لا بدَّ من رسم الرَّجل للتَّعبير عن هذا المعنى، وبعد ذلك صار بالإمكان أن نرسم رأس الرَّجل فقط للتَّعبير عن هذا المعنى، ويمكن رسم رأس المرأة للتَّعبير عن هذا المعنى أيضًا.
مَن هو أوَّل مَن كتب بالقلم كوشيم أم إدريس عليه السَّلام؟
طوَّر كُتَّابُ العراق الكتابة التَّصويريَّة والكتابة الأيقونيَّة إلى كتابة رمزيَّة مسماريَّة، وسُمِّيت كتابتهم مسماريَّة لأنَّهم كانوا يكتبون بأقلام ذات رؤوس مدبَّبة مثل رؤوس المسامير، ويحفرون الرُّموز الدَّالَّة على المعاني فوق ألواح الطِّين على شكل رؤوس المسامير؛ تشبه لغة لويس برايل (1809-1852) النَّافرة، الَّتي اخترعها للعُميان أو المعاقين بصريًّا؛ كي يتمكَّنوا من قراءة الحروف النَّافرة باللَّمس؛ ولأنَّ الحاجة أمُّ الاختراع فقد وصلتنا أقدم الحروف المسماريَّة في نصوص الكتابة العراقيَّة، الَّتي دوَّنها كوشيم؛ أقدم كاتب عراقيٍّ نعرف اسمه إلى حدِّ هذه اللَّحظة، وقد كان كوشيم كاتبًا وجابيًا للضَّرائب، وكان عليه أن يُقدِّم كشوفه للجَّرد والمراجعة والتَّدقيق والتَّفتيش، وكان عليه أن يرمز لاستلام رطلٍ واحد من الشَّعير بمسمار واحد على دفتره؛ أي على لوحه الطِّينيِّ، وأن يرمز لاستلام كيسين من القمح بمسمارين، ورَمَزَ للعدد ثلاثة بمثلَّث أو ثلاثة مسامير؛ فصارت الأرقام والأعداد أقدم كلمات مكتوبة بصيغتها الرَّمزيَّة، وظلَّ كوشيم وأبناؤه وورثته من الكُتَّاب يُطوِّرون نظام الكتابة، لكنَّ الجهود العظمى في تطوير الكتابة واختراع الأبجديَّة ترجع إلى كلٍّ من مملكة إيبلا في إدلب ومملكة أوجاريت في اللَّاذقيَّة شماليَّ سوريا، وسنتحدَّث عن ذلك في مقال الأسبوع القادم، وقبل أن نختم مقالنا هذا سنشير مجدَّداً إلى رأي أصحاب النَّظريَّة الدِّينيَّة، الَّذين يعتقدون بما جاء في تفسير القرطبيِّ من أنَّ نبيَّ الله إدريس -عليه السَّلام- كان أوَّل من خطَّ بالقلم، وقد أقام في الأرض (800) سنة، ويعتقدون أنَّ اسمه: أخنوخ بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، وسمِّي إدريس لكثرة درسه كتاب الله تعالى، وقد ورد عن ابن إسحاق أنَّ إدريس عليه السَّلام عاش في عهد آدم عليه السَّلام، والتقى به، وروي أنَّ إدريس كان يتكلَّم (72) لغة كان يتحدَّثها النَّاس في عصره؛ لذلك يمكننا أن نسأل: كيف تشتَّتِ الألسن بسرعة إلى (72) لغة برغم القرب الزَّمنيِّ بين عهدي آدم وإدريس عليهما السَّلام؟ وما حاجة الأخوة من أبناء آدم وإدريس -عليهما السَّلام- إلى اختراع اللُّغات الجديدة؟ ونحن اليوم نجد صعوبة كبيرة في التَّخلِّي عن لُغتنا الأمِّ أو تعلِّم لغة أخرى جديدة دون أسباب موضوعيَّة؟!
ويمكننا أن نطرح تساؤلات أخيرة نقول فيها: هل يمكن مقارنة شخصيَّة إدريس -عليه السَّلام- بشخصيَّة كوشيم كاتب العراق القديم، مثلما قارن المؤرِّخون شخصيَّة سرجون الأكديِّ بشخصيَّة موسى عليه السَّلام، أو مثل مقارنة شخصيَّة جوديا الحكيم بشخصيَّة لقمان الحكيم؟ هل يمكن أن يكون كوشيم هو إدريس -عليه السَّلام- ذاته؟ لا شكَّ أنَّني أطرح في هذه التَّساؤلات موضوعاً تاريخيّاً وفيلولوجيّاً مقارناً يستحقُّ الدِّراسة بغضِّ النَّظر عن رأي القارئ الكريم إن مال إلى الاعتقاد بأنَّ إدريس عليه السَّلام هو أوَّل مَن كتب بالقلم، أو إن رجَّح أـنَّ كوشيم هو أوَّل من كتب؟ لذلك يبقى هذا السّؤال مفتوحًا على إجابات كثيرة؛ ننتظر من المهتمِّين أن يبحثوا في هذا الموضوع المثير، وأن يُدلوا بدِلائهم وبعض أفكارهم وآرائهم حول هذا الموضوع في بحوث ومقالات قادمة!