يوميات || في 8 كانون الأول نجونا من الإبادة
الشرط اللازم لتبقى أي قضية حية أن يبقي بشرها أحياء في أرضهم.

د. ثائر دوري – العربي القديم
-1-
حمص _ آذار 2018
بعد أن اجتاز البولمان جسر “تلبيسة”، الذي يبعد عن مدينة حمص عشر كيلومترات أحسست بحرقة في القلب .بعد أقل من عشر دقائق سيدخل البولمان مدينة حمص التي لم أرها منذ ثماني سنوات.
قبل ساعة تغير الجو بشكل مفاجئ وهذا أمر معتاد في آذار، رياح شديدة مع أمطار غزيرة. حتى أن سقف البولمان، الذي لم تتم صيانته منذ سنين طويلة، سرّب بعض الماء مما اضطر قسم من الركاب لتغيير أماكن جلوسهم ولحسن الحظ كان هناك أماكن فارغة.
دخلنا حمص فبدأت مظاهر الدمار، بنايات مدمرة وأخرى محروقة بالكامل وثالثة متداعية بفعل القصف ورابعة… وخامسة….. قطرات المطر المنسابة على زجاج النافذة تتجمع على شكل خيوط وكأنها دموع تجري على شغاف قلبي. أمد يدي لأمسح بخار الماء المتكاثف على الزجاج الداخلي كي تبقى الرؤيا واضحة. الكراجات القديمة مدمرة بالكاملة. البرج الشاهق بجانبها تهاوى لكنه لم يسقط. بدا في الصور الملتقطة يشبه الجمجمة. بعدها خراب القرابيص. المشفى الوطني زال بالكامل وكذلك مشفى الأمل……
قبل أيام من هذه الزيارة كنت اقرأ شعراً في رثاء حمص. يقول الشاعر:
وأين (حمص) وما تحويه من نزه ونهرها العذب فياض ملآن
قواعد كن أركانا البلاد فما عسى البقاء إن لم تبق أركان
ليصل إلى القول :
يـا غـافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ إن كـنت فـي سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ
ومـاشياً مـرحاً يـلهيه مـوطنهُ أبـعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ؟
تـلك الـمصيبةُ أنـستْ ما تقدمها ومـا لـها مع طولَ الدهرِ نسيانُ
أكوام من الاتربة تغلق الشوارع. كلما توغلنا أكثر باتجاه جنوب المدينة تبدأ بعض مظاهر الحياة. محل حلويات السواس أعاد ترميم دكانه لكن الخراب ما زال يحيط به. حركة خفيفة في الدبلان.
يأتيني صوت فيروز من الذاكرة
” سكروا الشوارع …عتموا الشارات
زرعوا المدافع …. هجروا الساحات
……….
رجعت على بيتي ما لقيتوا لبيتي
يا هوى بيروت …. يا هوى الأيام
ارجعي يا بيروت ترجع الأيام.
كنت أستبدل بيروت بحمص وأسأل نفسي:
- هل ترجع حمص؟ هل ترجع الأيام
كان الدمار أكبر من أن يحيط به وصف. كيف سيتم اعادة اعمار كل هذا الدمار. وإذا تم إعمار الباطون والجدران المتهدمة من سيعيد الناس الذين تفرقوا في كل أصقاع الأرض؟
في طريق العودة كان الظلام قد حل. وسط مشهد الظلام الدامس الذي يغلف الدمار شاهدت أضواءً قليلة متناثرة لبيوت قام سكانها بترميمها. تزيد هذه الأضواء من قسوة مشهد الدمار بدل أن تخفف منه. تماماً كما يزيد وشاح أبيض ملقى على كتف امرأة ترتدي ملابس سوداء من احساسنا بالسواد. تحسست صدري بيدي بعد أن أحسست حرقة مكان القلب. ليتني أستطيع البكاء. تابعت خيوط المطر انسيابها على زجاج النافذة من الخارج وازداد غبش الزجاج من الداخل لكني لم أمسحه هذه المرة لم أعد أحتمل أكثر؟
-2-
الطريق إلى حلب شتاء 2021
في عام 2021 ذهبت إلى حلب للمرة الأولى بعد أن احتلتها قوات النظام عبر الطريق الدولي النظاميM5 . قبل ذلك كان الذهاب إلى حلب يتم عبر طريق خناصر الطويل الذي يخترق بادية بلاد الشام. لكن النظام استطاع عبر الحملة العسكرية الضخمة التي جردها على منطقة خفض التصعيد في ادلب وريفها وريف حماة الشمالي عام 2019 م. استطاع إعادة احتلال المدن والقرى التي تقع على الطريق الدولي وأهمها المدن التاريخية، سراقب، معرة النعمان، خان شيخون، وبالتالي استطاع إعادة فتح هذا الطريق.
كانت صدمتي لا توصف بالخراب الموجود. كل المدن والقرى على جانبي الطريق كانت خربة خالية من سكانها. لقد باتت قاعاً صفصفاً. ما إن تغادر حماة وتبتعد أقل من 20 كم شمالاً حتى يبدأ الفراغ. لا شيء سوى الريح تعوي في البيوت المهجورة المدمرة. يمتد هذا الفراغ السكاني حتى ناحية سنجار ، التي تقع شرق المعرة بعشرات الكيلومترات . أما غرباً فيمتد حتى قرى سهل الغاب الواقعة على سفح جبل الزاوية فقد اجتاح النظام قرى سهل الغاب السنية وهجّر سكانها ودمر بيوتها في تلك الحملة. وهذه المدن والأرياف تشكل القلب التاريخي لسوريا فهي الأكثف سكانياً على طول الطريق الدولي من دمشق إلى حلب. كما أنها سلة غذاء بلاد الشام. حيث تمتد الأرض الصالحة للزراعة من حماة إلى حلب وبعرض قد يصل إلى 100 كم في بعض النقاط . كل هذه المناطق باتت بدون سكان، قلة من سكانها موجودون في مناطق سيطرة النظام في كل من حماة وحلب واللاذقية. أما غالبيتهم الساحقة فهي محشورة في مساحة صغيرة فيما تبقى من منطقة خفض التصعيد في مدينة إدلب وما حولها. يصبحها النظام ويمُسيها بالقصف والقتل متوعداً باجتياحها في أقرب فرصة. وهو لا يسمح للسكان بالعودة إلى بيوتهم وأراضيهم. رغم أن ذلك انتقاص من ثوب الدولة التي يُصر آل الأسد على ارتدائه. فالدولة تتكون من أرض وشعب وسلطة، و يشكل الشعب أهم ركن من هذه الأركان .كم كانوا حقودين . مستعدين لتدمير كل شيء، بما فيها سلطتهم، في سبيل إرواء حقدهم الذي لا يرتوي و لا يوجد طريقة معروفة ليرتوي بها! سلوكهم أشبه بسلوك العلق تمتص الدماء من الجسد البشري فوق احتياجها وطاقتها فتنتفخ و تنتفخ حتى تسقط ميتة بسبب شرهها الذي لا يشبع للدم.
كانت أغنية صباح فخري ترافقني طيلة الطريق.
“ما لعيني أبصرت أرضنا قد اقفرت. وغدا الظبي بعيد وبكائي لا يفيد”
كنت أبكي بصمت متذكراً وصف منير العكش لمدن الهنود الحمر، التي دمرها المستوطنون الأنغلوساكسون عندما اجتاحوا أمريكا. كانت أرواح أهل خان شيخون ومعرة النعمان وسراقب وقلعة المضيق وسنجار والغاب الشرقي ترفرف في المكان أما أجسادهم فقد صارت مكان آخر …….
امتد هذا المشهد على مسافة تزيد عن 120 كم، من شمال حماة حتى مدخل مدينة حلب، حيث لا تسمع على الطريق سوى صفير الريح التي تعبر البيوت الخربة. ولا أثر لبشر سوى بعض العساكر الذين يرتدون الثياب المبرقعة منتشرين على الحواجز يبحثون عن شيء يسلبونه من العابرين. أما الخراب داخل مدينة حلب فحكاية لم أتعمق بها إذ اكتفيت بالتجول في بعضه قرب فندق الشيراتون.
“ما لعيني أبصرت أرضنا قد اقفرت وغدا الظبي بعيد و بكائي لا يفيد”
-3-
التهجير الصامت
تزامناً مع التهجير القسري بالقوة العسكرية العارية. كان هناك تهجير صامت يجري على قدم وساق في مناطق سيطرة النظام. في حديث مع أحد أصحاب مكاتب السياحة والسفر في حماة عام 2022 م . أخبرني أن شريحة جديدة بدأت تهاجر. في السنوات السابقة كانت الهجرة تقتصر على شريحة الشباب هرباً من الخدمة الإلزامية أو الاحتياطية وجهتها دبي أو أربيل أو ليبيا محاولين الوصول إلى أوربا عبرها. أما الآن فقد انضم إلى نزيف الهجرة رجال في الأربعينيات من عمرهم. سبق لهن أن أسسوا أعمالاً ناجحة. متزوجون وأسسوا عوائل ويملكون بيوتاً و سيارات. بدأوا بيع البيوت والسيارات وتصفية أعمالهم ومغادرة البلد إلى دبي بشكل اساسي وأيضاً الى وجهات أخرى. كل من لديه طريق مفتوح إلى الخارج يترك البلد ويمشي. أما الأسباب فمعروفة الأزمة الاقتصادية القائمة فقد انهار سعر الدولار إلى 15 ألف ليرة سورية للدولار الواحد. حواجز الفرقة الرابعة التي دمرت الحركة التجارية عبر النهب بطرق متعددة: الضرائب، المصادرة، الترفيق…. مما يضاعف كلفة السلع عدة مرات. فرع الخطيب الذي بات يعتقل على شبهة التعامل بالدولار. وكيف لتاجر يبيع ويشتري ويستورد ويصدّر. كيف له أن لا يتعامل بالدولار! مع الاشارة إلى ان ضحايا التعامل بالدولار من كل الشرائح. فمن أجل بيع أو شراء مائة دولار قد تُسجن وتدفع مائة مليون سوري. وأيضاً هناك التموين فقد صار أي ضبط تمويني يتضمن السجن وغرامات بأرقام فلكية تترك المصاب كسيحاً. دمرت الضبوط التموينية حياة أسر كاملة . أسر كان معيلها ينتمي إلى الطبقة الوسطى وبضبط تمويني واحد تحول إلى سجين لعدة أشهر يخرج بعدها باحثاً عن مصدر رزق كعامل بالأجر عند الآخرين لأن الضبط التمويني امتص كل رأس ماله وأغرقه بالديون. وبات عدد المطلوبين للاعتقال بسبب الضبوط التموينية أكبر من عدد المطلوبين للفروع الأمنية. لم تكن سياسة النظام عفوية بل كانت مصممة لتدمير قطاعات واسعة في المجتمع، وإحلال القبضة التموينية بدل القبضة الأمنية. وهي نفس السياسة التي اتبعها في الأعوام التي تلت مجزرة حماة عام 1982م. كان النظام ينسخ سياساته من دفتر الماضي.
-4-
حمص الأندلس
لم تكن أبيات رثاء حمص لشاعر معاصر، ولم تكن لرثاء نكبة حمص الراهنة و لا لرثاء إحدى نكباتها القديمة، رغم أن تاريخ مدن بلاد الشام حافل بالنكبات. كما أن النهر العذب المذكور ليس نهر العاصي.
الأبيات هي للشاعر الأندلسي الشهير أبي البقاء الرندي من قصيدته الشهيرة في رثاء الأندلس التي يكتفي أغلبنا بحفظ مطلعها ” لكل شيء إذا ما تم نقصان / فلا يُغّر بطيب العيش إنسان ………”. أما حمص المرثية في هذه الأبيات فهي مدينة إشبيلية “حمص الأندلس” التي سقطت بيد الفرنجة عام 1248م على يد مملكة قشتالة ، و النهر هو الوادي الكبير …..
في عام 125 هـ استلم ولاية الأندلس “أبا الخطّار، حسام بن ضرار الكلبي” بعد اضطرابات بين العرب (القيسية واليمانية). رأى هذا الوالي أن قرطبة وما حولها غصت بالجند و القبائل . فوزعهم على مدن الأندلس, وهكذا أرسل جند قنّسرين “حلب” إلى “جيّان” فاستوطنوا هناك وتتابعت أجيالهم. وأطلق أبو الخطّار على جيّان تسمية “قنّسرين”
كما أنزل جند حمص في إشبيلية، وأطلق عليها اسم “حمص”. وجند دمشق أو ” جند جلّق” كما ترد في المراجع العربية أنزلهم في ”البيرة ” التي حلّت محلها غرناطة، وأنزل جند فلسطين في ”شذونة” وجند مصر في ”تدمير” وأطلق على هذه المدن تسمية أجنادها. مع احتفاظها بأسمائها الأصلية.
سقطت إشبيلية، حمص الأندلس، على يد مملكة قشتالة بعد حصار طويل عام 1248 م بعد أن استمرت عربية مسلمة خمسمائة عام وكان من أبرز من تولى حكمها الشخصية الشهيرة المعتمد بن عباد
خلال السنوات الممتدة بين عامي 2018 _ 2024 كان يلح عليّ سؤال واحد لا يفارقني منذ رأيت دمار حمص، وبعدما شاهدت المدن المدمرة على طريق حلب وبعد أن استمعت لحديث صاحب مكتب السفريات.
هل تكون بلاد الشام هي أندلس العصر الحديث؟ وهل تلقى مدن حمص وحماة وحلب ودمشق مصير جيان وإشبيلية وقرطبة وغرناطة. كنت أقول لنفسي كل شيء يمكن تعويضه إلا البشر. الشرط اللازم لتبقى أي قضية حية أن يبقي بشرها أحياء في أرضهم. لو كانت هناك أعداد كافية من الهنود الحمر في أمريكا اليوم لكانت قضيتهم تتصدر مسرح الأحداث العالمية. لكنهم أبيدوا وبقيت منهم عينات تصلح للعرض في المتاحف فقط. لو لم يتم تهجير أهل القوقاز لكان لهم قضية يكافحون من أجلها. الديموغرافيا هي الأساس. في السنة الأخيرة قبل سقوط النظام انتابني شعور أن سكان سوريا أشبه بمسبحة فرطت فالأرض هي الخيط الذي يضم الحبات ويستحيل أن يعود أحد إلى أرضه في ظل هذا النظام الذي اقترب احتمال سقوطه من الصفر بعد أن اعادت الجامعة العربية تأهليه. ومع مرور السنين ستنشأ بعد حين أجيال لا تعرف عن حماة وحمص ومعرة النعمان شيئاً. أما إدلب وما حولها فقد باتت تذكرني بوضع جزيرة قبرص المقسمة دون تواصل بين قسميها منذ أكثر من خمسين عاماً.
سألت نفسي مراراً وتكراراً: هل كان دمار إشبيلية وغرناطة وجيان مقدمة لدمار حمص وحماة ودمشق وحلب؟ هل كانت مشاعر الحزن و انقباض القلب وغصة الحلق التي تعتري كل شامي عندما تُذكر الأندلس أمامه هي حزن على النفس مثلما هي حزن على شمس الأندلس الغاربة / أمر باسمك إذ أخلو إلى نفسي كما يمر دمشقي بأندلس– محمود درويش / هل كنا نحن أهل بلاد الشام نحدق طوال الوقت بماضينا في الأندلس دون أن ندرك أننا ننظر إلى مستقبلنا في بلاد الشام.
– 5-
أعلّل النفس بالآمال أرقبها …………… ما أضيق العيش لولا فسحة الأملِ
بأي آمال كنت أعلل النفس في هذا النفق المظلم؟
كنت أقول لنفسي إن حلب وحماة وحمص ودمشق هي جذع الشجرة التي انغرست جذورها عميقاً في الأرض، أما غرناطة وقرطبة وإشبيلية وجيان فكانت الأغصان. قد تتأذى الفروع، قصاً وتكسيرا، لكن جذع الشجرة الراسخ في الأرض سرعان ما يعوض ما خسره. كنت أعلل النفس أننا ملح هذه الأرض لأننا منبتين فيها منذ الأزل، وهذه الأرض لم تعرف وجهاً غير وجهنا لتبدلنا به. أُعلل النفس أننا هنا ماء الكأس أما هناك فكان الماء الذي فاض عن الكأس بعد أن امتلأ. كانت تأتيني رؤيا أن حمص قد نهضت و مدت ذراعيها من بحر طرابلس إلى بغداد، وحلب مدت ذراعيها من الأناضول واسكندرون إلى الموصل. أما دمشق “جلق” فهذه حكاية أخرى. دمشق لا يليق بها إلا أن تكون الدنيا ملحقة ببستان هشام. لا يليق بدمشق إلا أن تمد ذراعيها من الأندلس إلى الهند، وأن ينام بيت المقدس في أكنافها وأن تكون بوابة مكة المفتوحة.
-6-
8 /12/ 2024 طائر الفينيق ينبعث
في ذلك اليوم رن في أذني صوت المتنبي
كم قَد قُتِلتُ وَكَم قَد مُتُّ عِندَكُمُ ثُمَّ اِنتَفَضتُ فَزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ
قَد كانَ شاهَدَ دَفني قَبلَ قَولِهِمِ جماعَةٌ ثُمَّ ماتوا قَبلَ مَن دَفَنوا
لقد مزقنا الكفن و زال القبر .
من يذهب إلى حمص اليوم سيرى كيف دبت الحياة و عاد الناس يرممون بيوتهم . كما عادت الفوضى إلى طريق حماة حلب فبات السير عليه مستمراً كالسيل متدفقاً ليلاً نهاراً. في الصيف الماضي كنت عندما أصاب بالاكتئاب أو التعب أركب سيارتي وأذهب صوب الغاب فما إن أشاهد ورشة الاعمار الكبيرة التي تحولت إليها المنطقة وبجهود فردية حتى أشعر بسعادة غامرة. أصرت العائلة أن يلتقطوا صورة لي في باب الطاقة وسط الماء. افتر ثغري عن ابتسامة كبيرة. قالت زوجتي انظروا اليه هو لا يبتسم هكذا إلا هنا في قلعة المضيق.
أجبت:
- لقد نجونا من الإبادة فكيف لا أفرح؟