أرشيف المجلة الشهرية

سعيد فريحة يكتب عن "خوازيق إدلب" واللاذقاني يعقب: لماذا لم يحب إدلب؟

في ثلاثينات القرن العشرين زار الصحفي اللبناني الشهير سعيد فريحة إدلب، فكتب عنها هذا النص الذي يتهم فيه أهالي إدلب بتنجير الخوازيق… ويعلن انتقاده لأجواء المدينة وحوادثها وأهلها… هنا نص سعيد فريحة كاملاً، وتعقيب الأديب السوري د. محيي الدين اللاذقاني عنه في زاويته (لعبة الأيام) التي تفيض بالسخرية اللاذعة والحنكة في الاستقراء والتحليل.  (العربي القديم)

جولة صحفية في سيارة عرجاء

حلب – سعيد فريحة

تبعد بلدة إدلب عن حلب مسافة ساعة في السيارة، هذا إذا كانت سيارة ابنة حلال، أما إذا كانت مثل التي ركبناها، فلا تعجب إذا رأيت شروق الشمس ثلاث مرات أثناء الطريق!

لقد كانت سيارتنا قريبة الشبه ببعض النساء، ظاهرها فتنة وداخلها لعنة… مالبثت السيارة أن أصيبت بخلل في إحدى عجلاتها، فأخذت تمشي مشية عرجاء، وتقطع مسافة اثني عشر كيلومتراً في الساعة، مجارية في ذلك أحقر حمار قبرصي.

وهكذا كانت مصيبتنا في هذه السيارة، أشبه بمصيبة الطليان في الحرب الحبشية، لا الرجوع ممكن، ولا مواصلة السير بالأمر اليسير!

***

عرجنا أثناء الطريق على قرية من القرى الكثيرة المنتشرة في مضارب العربان، في هاتيك السهول الواسعة، فرأينا فيها العجب.

منازل كأنها رؤوس الأفاعي أو قبور أولياء الله الصالحين، صنعت من الطين ولها نوافذ يقال لها أبواب. لا تدخلها الشمس ولو هبطت إلى علو عشرة أمتار عن مستوى الأرض! وهذه المنافذ لا تسد لا في الصيف ولا في الشتاء، فتسري الرياح والسيول إلى داخلها وتغمر سكانها دون أن تؤثر في صحتهم أو تسبب لهم نوبة رشح على الأقل.

***

ولقد قال لنا أحدهم إن أصغر قروي أو بدوي في البادية، يستطيع أن ينام ملء جفنيه تحت وابل من الأمطار… وعندئذ قلنا له: وأما نحن معشر سكان المدن، فلا تعجب إذا إصبنا بذات الرئة أو بداء الجنب، عندما تتسرب الرياح إلى أجسامنا من خلال ثقب الباب… وكما أن الأخلاق والضمائر تنشأ حسب ما تعتاد كذلك الأجسام.

***

فقد رأينا امرأة قروية تغسل طفلتها بالماء البارد في الهواء الطلق، وعلى مجرى الرياح الشمالية، كما رأينا بدوياً صغيراً كأنه من نسل إمام العبد، يسرح ويمرح في البادية عارياً تماما.

وهكذا يعتاد القرويون وسكان المضارب، على تحمل جور الطبيعة منذ الصغر، فينشؤون بأجسام جبارة، كأنها صنعت من “ترابة شكا” لا من الطينة المعلومة! وهذه الأجسام الصلبة الجامدة، تبعد الطبيعة عنها الأمراض بقدر ما تبتلى بها سكان المدن. ومن النادر جداً أن يصاب أحد هؤلاء الآدميين العائشين في الهواء الطلق، وتحت أشعة الشمس المطهرة، بمرض ما أو بعلة من العلل، التي انتشرت في المدن انتشار الصهيونية في فلسطين المسكينة!

وهب أن زار المرض بدويا في خيمة، أو قروياً في كوخ؛ فإن العلاج الشافي موجود في رجس الحيوانات أو في حشائش وتراب الأرض!

وبعد أن قضينا بضع ساعات بين القرى والخيام، عدنا إلى السيارة العرجاء، بل عدنا إلى عملية الدفع إلى الأمام وإلى الوراء. وأخيرا وصلنا إلى إدلب، ونزلنا في ضيافة صديقة السيد إلياس براك، وهو شاب لبناني فجعه القدر مع عقيلته مثلما فجعنا نحن…  أي بالنزوح عن الأهل والأصحاب، والابتعاد عن أرض الآباء والجدود، التي جن بجمالها سليمان الحكيم، وتمناها مدفناً له أخونا لامارتين.

وسكان إدلب هم عبارة عن ثمانية عشر ألفاً من خلق الله، يمتازون بحسنات لا تجدها عند سواهم، ومن حسناتهم إتقان شك المقالب وتنجير الخوازيق. والخازوق الذي نجروه “للعبد لله” إثر وصولنا إلى إدلب، يكاد يكون كالخازوق الذي نجره بروتس ليوليوس قيصر… وتفصيل الحكاية أن سكان إدلب ناقمون على القائمقام السيد صفوح المؤيد. وبين القائمقام وكاتب هذه السطور عداء سببه دفاعنا عن أهالي إدلب ضد القائمقام. وبدلا من أن يرحب بنا هؤلاء الأهالي، عمدوا إلى إرسال شخصين يعتديان علينا، حتى نعتقد ويعتقد سكان الأرض والسماء معنا، أن القائمقام هو الذي دفع للاعتداء علينا بقصد الانتقام!

واتصل الخبر بالسيد صفوح المؤيد فأرسل قوة تحمينا وتحمي سمعته من شر الاعتداء! ولم يسعنا إلا أن نشكره على ما بدر منه ولكن… أهالي إدلب يقسمون بأن في المسألة لعبة مدبرة من القائمقام نفسه!  

فمن نصدق الأهالي أم القائمقام؟

وعلى كل فإن الاعتداء كاد يقع، وإظهار الحقيقة تهم الأهلين أكثر منا. أما نحن فنكتفي بسرد الواقع، وننصح كل والد في هذا العالم، أن لا يعلّم ابنه مهنة الصحافة، وننصح كل صحافي حر في حلب ألا يضع في عنقه حجاباً يقيه شر الاعتداءات، وإلا خسر حياته بين مؤامرات حلب، و”خوازيق” إدلب!

***

ولأهالي إدلب ثلاثة مواسم مهمة، موسم الزيتون وموسم القطن وموسم الحبوب. وهناك موسم رابع ظهر مؤخراً، وهو موسم المظاهرات والهجوم على السجون!

لقد خسرت إدلب في الموسم الأخير عشرة قتلى، وقدمت إلى المحاكم والسجون أشخاصاً كثيرين. أما الحكومة فلم تخسر سوى عشر رصاصات، وثلاثين قفلاً حطمها المتظاهرون أثناء هجومهم على السجن لإخراج المعتقلين.

والمعتقلون وضعوا في السجن على إثر خلاف سببته راقصة، أراد بعضهم مقاطعتها، وأراد البعض الآخر التمتع برؤية سيقانها فوق المسرح، فنشب الخلاف! وفي النهاية اتفق الأهالي على تناسي الأحقاد، ومطالبة القائمقام بإطلاق المعتقلين.

ولما أبى القائمقام تحقيق طلبهم “حالاً بالاً” ثاروا وهاجموا السجن، وبدأ التحطيم وضرب الرصاص، وانكشفت الفاجعة عن عشر ضحايا وعشرين جريحاً. شيء محزن!

ألم يكن بإمكان القائمقام أن يمنع وقوع الشر من الأساس؟ وهل كان وضع تلك الراقصة مع سيقانها في سيارة، وإبعادها عن إدلب من الأمور الصعبة؟! كلا، ولكن هكذا شاء القدر أن يسقط عشرة قتلى من أجل سيقان راقصة!!

***

رأينا الأنظار تحدق بدهشة واستغراب في عقيلتنا وهي تتخطى بعض شوارع البلدة!

والسر في ذلك أنها سافرة وتلبس قبعة. وهذا شيء غريب جداً في بلدة كإدلب، لايزال الحجاب يشمل وجوه المسلمات والمسيحيات فيها على السواء. وجاء أحدهم يقول لنا: إذا عزمتم على سكن إدلب فينبغي أن تراعوا شعور السكان.

– يعني؟!

– يعني أن تلبس زوجتكم الحبرة.. وتضع الحجاب!

وقبل أن يكمل عبارته، أسرعنا إلى السيارة وقلنا للسائق: عد بنا إلى حلب حالاً…

وهكذا عدنا إلى حلب في سيارتنا العرجاء، ولكن بعد أن حملنا معنا ما يمكن حمله، من الخبز والزاد والماء، خوفاً من الجوع والعطش والمبيت لبضع ليال أثناء الطريق!

مجلة (المعرض) العدد (46) شباط/ نيسان 1936

فريحة في مصنع تنجير الخوازيق

بقلم: د. محيي الدين اللاذقاني

لا يضير إدلب ألا يحبها سعيد فريحة، فبعده لم يحبها سفاح سوريا حافظ الأسد، وأهمل أي مشروع تنموي فيها؛ لأن المجند عبد الحميد الدامور أحد أبنائها، حاول اغتياله في قلب دمشق، أثناء وداعه للرئيس النيجيري، وقد وقعت حادثة الاغتيال الفاشلة تلك التي شارك فيها مجندون، وضباط صغار، قبل مجزرة حماة بسنتين ونيف، وأعقب تلك المحاولة صدور سيئ الذكر القانون “تسعة وأربعون” الذي جرّم كل من ينتسب للإخوان المسلمين، وخرب الحياة السياسية في سوريا الحديثة، وفتح باب المجازر، والتهجير المستمر ليومنا هذا.

أما لماذا لم يحب سعيد فريحة إدلب البلدة التي كادت أن تخربها راقصة؟ فلابد أن نعترف أنه معذور في أحكامه تلك، إذ يصعب على الإنسان، مهما كان أريحياً، ومتسامحاً أن يحب بلدة تستقبله باللكمات، وتودعه بدرس أخلاقي، طالبة منه أن يحجب زوجته، إذا قرر أن يسكن فيها، أو يزورها مرة أخرى، لكن لنعترف أنه من علامات تسامحه النسبي معها، لم يشتمها بالتهمة الجاهزة التي صارت شبه يومية أيام الثورة، حيث كلما اغتاظ الثوار من شبّيح طالبوا بإرساله الى إدلب؛ لتتم عقوبته فيها.

ومع عدم حبه لإدلب، فقد حفظ لنا سعيد فريحة نصاً جميلاً عنها كتبه من حلب في مجلة “المعرض”، قبل أن يؤسس إمبراطوريته الصحفية في لبنان في ثلاثينات القرن الماضي، وكان حينها في زيارة ثقيلة على قلبه، بمناسبة اجتماعية تخص أحد المهاجرين اللبنانيين بإدلب، إضافة لعلاقة غير طيبة كانت تربطه بقائمقام المدينة نصوح المؤيد الذي ربما كان هو شخصياً، وراء إرسال بعض البلطجية؛ لتأديبه فور وصوله إلى إدلب الخضراء محافظة الزيتون، والكرز والفستق الذي تنتجه هي، وينسبونه لحلب التي سلبتها أيضاً حقها في أغنية “درب إدلب ومشيته كله شجر زيتوني” التي يغنونها الآن منسوبة لحلب، مع أن الزيتون كله في إدلب وجبالها، وقراها التي تضم أربعة عشر مليون زيتونة، حسب الإحصاء الذي سبق الثورة بعام واحد.

وقد حرص عميد الصحافة اللبنانية أن يصحبنا في رحلته من أول طريقه الذي بدأ من حلب، ومع أن المسافة ساعة بالسيارة، إلا أنها استغرقت معه يوماً أو بعض يوم، ومن وصفه للطريق، وثنائه على صحة البدو، والقرويين الذين قابلهم نظن أنه سار من طريق ريفي فرعي، أخذه عبر خان العسل إلى أورم الصغرى، ثم الكبرى مروراً بقرى أخرى، وخلال ذلك الطريق الطويل المتعرج، لم يتوقف الكاتب عن الحديث عن هواء إدلب العليل؛ الأمر الذي يدفعنا لترجيح نظرية العلّامة خير الدين الأسدي الذي يعتقد أن اسم ادلب جاء من اللغة الآرامية ف “إد” تعني عندهم الهواء و”لب” معناها قلب، وبذا يكون اسم ادلب “هواء القلب”، بحسب ذلك العلّامة الرصين.

وطبعاً هناك من يخالفه الرأي في هذا الاشتقاق، فإدلب كمحافظة من المناطق الضاربة في القدم، وآثارها تشهد بذلك، وهناك من يعيد الحضارات التي قامت بها الى الألف الخامسة قبل الميلاد، ويُعتقد أن اسمها القديم كان “لوبان”، وقد ظلت تحمله، حتى ظهور مملكة إيبلا بأوابدها الباقية في عين الكرخ، وسبيل الكرخ، وتل مرديخ، أما إدلب الحديثة، فقد بدأ ازدهارها في القرن السادس عشر مع الصدر الأعظم محمد باشا الكوبرلي الذي استطاب هواءها كسعيد فريحة، وخطط لبناء الجزء الحديث منها.

ومن الطبيعي أنك حين لا تحب مكاناً ما، أن تلصق بأهله كل ما في قاموسك من سلبيات، وهذا بالضبط ما فعله فريحة الذي استهل حديثه، قبل الوصول لقصة الراقصة التي فتنت المدينة بالقول: “وسكان إدلب هم عبارة عن ثمانية عشر ألفاً من خلق الله، يمتازون بحسنات لا تجدها عند سواهم، ومن حسناتهم إتقان شك المقالب، وتنجير الخوازيق”.

ولا نعرف مدى دقة قصة الراقصة، ولا حجم مسؤولية ساقَيها وردفيها عن وقوع عشرة قتلى في المدينة، لكن فريحة يزعم إن فريقين من الأدالبة اختلفوا بسببها، بعضهم يريدها أن ترحل، وفريق آخر يود التمتع بغنجها، ومرجها؛ الأمر الذي أدى إلى قتال، أعقبه اعتقال العشرات من الفريقين، وأثناء وجود أعداء الراقصة، وعشاقها في الزنازين جرى تبويس الشوارب على الطريقة العربية، وتصالح أهل المعتقلين، وطلبوا من قائمقام المدينة أن يطلق سراحهم فرفض، وعندها قام الأهالي بمهاجمة السجن للإفراج عن المعتقلين، واشتبكوا مع الحراس، فسقط منهم عشرة قتلى وعشرون جريحاً، أما الحكومة، فلم تخسر سوى عشر رصاصات، وثلاثين قفلاً حطمها المهاجمون الهائجون في المدينة التي كانت، وما تزال تحب المظاهرات، لكنها هذه الأيام تتظاهر لقضايا لا علاقة لها بالرقص الشرقي.

__________________________________________

من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024

زر الذهاب إلى الأعلى