عاش 103 أعوام: دمشق تودّع إبراهيم حقّي أكبر أطبائها وعاشق سيرتها
عن عمر ناهز المائة بثلاثة أعوام، وعن مسيرة طبية وعلمية حافلة، رحل في دمشق مساء يوم الأحد في الرابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر الجاري، الطبيب والباحث الدمشقي البارز د. إبراهيم حقّي، أسطورة البحث العلمي، والتأليف الطبّي، والعمر المديد المُكتنز بصحة الذاكرة، وأكبر المعمرين من الشخصيات الثقافية والعلمية السورية المعروفة.
دار الفكر تنعى أحد علماء الأمة
وقد نعت دار الفكر، أعرق دور النشر السورية، في بيان لها على موقعها مساء أمس، الدكتور إبراهيم حقي، وكانت الدار قد اختصّت بنشر مؤلفاته الضخمة، التي احتلّت مكانة الصدارة، بين إصداراتها في السنوات الأخيرة، وقد جاء في بيان النعي:
“أسرة دار الفكر آلمها رحيل الأستاذ الدكتور إبراهيم حقي أحد كبار الأطباء الرواد في دمشق، والمؤلفين المتميزين، وأحد كبار الشخصيات المتألقة بتخصصه، وبمكانته العلمية، والاجتماعية، والثقافية، والفكرية.
دار الفكر، مع حزنها على افتقاد علماء الأمة تقدّم خالص تعازيها ومواساتها إلى أهله، وأصدقائه ومحبيه، وتسأل الله أن يلهم ذويه الصبر والسلوان على فقده، وأن يعوّض الأمة عنه. غفر الله له، وأنزله عنده منزلة العاملين، إنه سميع الدعاء. إنا لله، وإنا إليه راجعون”
سطور من سيرة حافلة
لأسرة دمشقية تعمل في تجارة الحبوب، ولد إبراهيم حقي في دمشق عام 1920 كان والده موظفاً عثمانياً أنجب من زوجته الحلبية 11 طفلاً، وفي الثلاثينيات انتقل والده، للعمل في حلب، وهناك سكنت العائلة قرب القلعة القديمة ودائرة الحكومة، وقد عادت العائلة لاحقاً إلى دمشق، والتحق الشاب في فترة الثانوية بمدرسة مكتب عنبر.
انتسب إلى كلية الطب في الجامعة السورية في العام الدراسي 1939-1940 وأثناء دراسته في السنة الخامسة 1944 اجتاح وباء الملاريا سورية، فأُرسِل في صيف ذلك العام إلى الجزيرة السورية، وعاش فترة من الزمن هناك، ودوّن تفاصيل هامة واستثنائية عن واقع مدنها في كتابين:
الأول: (رحلة الشتاء والصيف) الذي يتضمّن كل الرسائل التي كتبها لصديقه، في كلية الطب راتب كحالة، يوم زار محافظتَي الجزيرة، ودير الزور، وفيها يظهر الأسلوب الأدبي الساخر، راسماً مظاهر التأخُّر والأسى في تلك المنطقة.
الثاني: (الجزيرة الباكية: محافظة الحسكة في أربعينيات القرن العشرين)، وهو تأريخ اجتماعي، وخدمي وثقافي، لواقع المحافظة الشمالية النائية، وقد صدر عام 2019.
حصل إبراهيم حقي على شهادة الدكتوراه بالطب التي كانت تحمل توقيع رئيس الجمهورية، في صيف عام 1946 وفي عام 1947 عاد حقي، للعمل في عيادة صغيرة في دمشق التي شهدت موجة من وباء الكوليرا، وانشغل بحملات التلقيح في أحياء دمشق، ثم انخرط في اختصاص توليد النساء، لمدة ستة عقود، وقد عمل مديراً لدار التوليد التي تأسست في عام 1961، ما أتاح له فرصة الاقتراب أكثر من واقع القطاع الحكومي الصحي، والذي كتب الكثير عن فساده وبيروقراطيته، وخصوصاً في ظلّ حكم البعث، حيث بدأت (علونة) جهاز التمريض في المشافي الحكومية.
عميد كلية الطب، ونقيب الأطباء
إلى جانب عمله كأستاذ في كلية الطب في جامعة دمشق، تولّى الدكتور إبراهيم حقي رئاسة قسم التوليد، وأمراض النساء لمدة عشرين عاماً، بين عامي 1962- 1982، وشغل منصب عميد كلية الطب بدمشق، بين عامي 1971- 1973 بالتوازي مع انتخابه نقيباً لأطباء دمشق، بين عامي 1971-1974 قبل أن يبطش حافظ الأسد بالنقابات المهنية في الثمانينيات، ويقوم بحلها وسجن رموزها، بعد احتجاجها على القمع الذي كان يمارسه في البلاد.
كما ترأس د. إبراهيم حقي مجلس الاختصاص الطبي (البورد العربي)، بين عامي 1980-1983 واُعتمد خبيراً، في الموسوعة العربية، ثم الطبية بين عامي 1984- 2011 إلى جانب عضويته لعدد من الجمعيات الطبية الدولية، أبرزها جمعية الخصوبة الفرنسية.
أصدر الدكتور إبراهيم حقي العديد من المؤلفات الطبية، منذ خمسينيات القرن العشرين، كان أولها: (الصحة المدرسية) عام 1955 بالاشتراك مع سهيل بدورة وجودت الإمام، و(فن التوليد) في جزأين 1983، و(أمراض النساء) في ثلاثة أجزاء 1989، كما ألّف معجماً عربياً إنكليزياً فرنسياً، لمصطلحات التوليد وأمراض النساء عام 2010 وكان قد بلع التسعين من العمر.
إلا أن مؤلفاته الاجتماعية والتراثية التي وضعها لا تقلّ أهمية عن مؤلفاته الطبية، وفيها برز توجه د. حقي الإسلامي المسكون بأسئلة العصر، وتحديات مسلمي هذا العصر، ولهذا جاء كتابه الأول في هذا السياق ( هذا هو الإسلام، فأين المسلمون) الصادر عام 2003 كصرخة، لتجديد روح الانتماء للإسلام المعتدل والمتنور لدى أبنائه، وقد أتبعه عام 2010 بكتاب آخر (هذا هو الإسلام، وهؤلاء هم المسلمون)، ثم سلسلة أدركوا الدعائم التي أصدر منها ثلاثة أجزاء: (اللغة) 2011 (الأخلاق) 2011، (القوة) 2013
آلاف الصفحات من الحنين
وابتداء من عام 2016 انصرف الدكتور إبراهيم حقي، وقد تجاوز السادسة والتسعين إلى كتابة سيرته الذاتية، وسيرة مدينة دمشق التي انتمى إليها روحاً وسكناً ومعماراً، وهوية، فجاء كتابه (دمشق في ثمانين عاماً) الصادر في طبعته الأولى عام 2017، جهداً بارزاً وباذخاً، في أكثر من ألف ومائة صفحة من القطع الكبير، أما كتابه التالي (سيرة مواطن دمشقي) الصادر عام 2021 وكان قد تجاوز مؤلفه العلّامة المائة من عمره، فقد صدر في جزأين تجاوزا الألف صفحة من القطع الكبير، وفيه دوّن حقي كل كبيرة وصغيرة، في سيرة حياته، منذ ميلاده، إلى نسبه العائلي وسنوات دراسته الثانوية، ثم الجامعية، وليس انتهاء بممارسته للطب، لأكثر من ستين عاماً. قدم لنا في ثنايا سيرته الذاتية البالغة الثراء هذه صورة عن تبدّل واقع هذه المهنة، في ظل حكم البعث والأسد، حيث عمل لمدة تنوف على أربعين عاماً، من أصل مسيرته المهنية. وإذا أضفنا إلى ما كتبه من سيرته الذاتية، وسيرة مدينته دمشق، المؤلفات الهامة التي ألّفها عن الحسكة، ومنطقة الجزيرة في أربعينيات القرن العشرين، وتكاد تكون غير مسبوقة في مجالها، لأمكن لنا أن نتصوّر حجم الإضافة الهامة التي قدّمها هذا الطبيب العلّامة، لمجمل التاريخ الاجتماعي السوري المعاصر.
رحل إبراهيم حقي، وقد عاش تاريخ سورية المعاصر كله، فقد عاصر الانتداب الفرنسي والجلاء، ثم الوحدة مع مصر، ثم الانفصال، ثم انقلاب البعث، وزمن حكم الأسدين، ليكون في ما تركه من مؤلفات ذاكرة سورية المعاصرة، وإن آثرت هذه الذاكرة الابتعاد عن الخوض العميق في السياسة، لإدراكه أية عصابة همجية متوحشة استولت على الحكم في سورية، وأمّمت كلّ مجالات الحياة السياسية العامة، وداستها بالبسطار الأمني، فكمّمت أفواه البشر وأسكتتهم بالحديد والنار.