فنون وآداب

(رحلة في عوالم الإبل والإنسان): لعبد الله ميزر: صور السينما وحكايات الحياة

كثيرة هي القراءات التي رصدت سلوك الإنسان ومشاعره، وردود أفعاله، حول ما يعيشه، وما يحيط به، أمّا المخلوقات الأخرى، فإن حظّها من الدراسة، والبحث والتقصّي كان قليلاً بالمقارنة. من هنا تأتي أهميّة الكتاب الذي ألّفه الأستاذ عبد الله ميزر (رحلة في عوالم الإبل والإنسان)، والذي صدر عن دار المحيط للنشر في مطلع هذا العام 2023، هذه الأهميّة التي يعزّزها، ويكرّسها لجوء الكاتب إلى أسلوب غير تقليديّ، في معالجة بحثه، فهو لم يكتفِ بالجانب العلميّ التوثيقيّ فحسب، بل تعدّاه إلى الجانب الأدبيّ الشعوريّ (المؤنسن)، صحيح أنّ مفهوم الاستعارة في الأدب قائم في قسم كبير منه، على تحميل المخلوقات الحيّة والجمادات أفعالاً، وسمات إنسانيّة، ولكنّ هذا التحميل لم يتجاوز مرحلة التشبيه والمقاربة، بينما عمد الكاتب إلى قراءة السلوك الإنساني عند الإبل، هذه القراءة ـ كما أرى ـ هي ما يُضفي على الكتاب فرادته وتميّزه، ولكي يتناغم موضوع الكتاب مع مضمونه، شاء الكاتب أن يلجأ إلى لغة سلسة، بعيدة عن الغرابة والتعقيد، ليخلق علاقة رهيفة ذات تناغم بين المعلومة والقارئ.

يشتمل الكتاب على أربعة أجزاء:

1-      صور الإبل في السينما

2-      حوارات

3-      حكايات عن الإبل والبشر

4-      قراءات في كتب عن الإبل

في سياق الجزء الأول من الكتاب، يستعرض الكاتب تسعة أفلام اتّخذت من الإبل موضوعاً رئيسيّاً لها، غالبيّة هذه الأفلام ينتمي إلى السينما الوثائقيّة، والباقي يجمع بين الدرامي والوثائقي، وثمّة فيلم هو عبارة عن سيناريو دراميّ تمّ إعداده عن كتاب بعنوان (مسارات) للكاتبة الأستراليّة: (روبن ديفدسون)، كتاب يحكي قصّة حقيقيّة، تورد الكاتبة من خلالها جانباً من سيرتها الذاتيّة يدور حول رحلة قامت بها في العشرينيّات من عمرها، عبر صحاري غرب أستراليا القاحلة، برفقة أربعة جمال وكلب.

دموع الناقة

وبما أنّني أحاول الإضاءة على أهميّة هذا الكتاب، بطريقة لا أقع من خلالها في شرك نزع الدهشة، عن تلقّي القارئ لمضمونه ـ أقصد مضمون الكتاب ـ فسأكتفي ببيان طريقة الكاتب في معالجة العلاقة بين الإبل والإنسان، حسب تحليله لفيلمي (دموع الناقة) و (فاتنة بلوشستان):

تدور أحداث الفيلم الأوّل حول ناقة تُدعى: (إنجن تيمي) تعاني صعوبة في وضع أحد مواليدها الذي يبصر النور أبيض اللون، على عكس البقيّة، ممّا يراكم مشاعر نفور تجاهه، دون بقيّة المواليد، فتمتنع عن إرضاعه، أو حتّى إيلائه الحدّ الأدنى من الاهتمام، ممّا يجعل (الدموع تظهر في عينيه، ويكتوي قلبه حرقة وأسى، بسبب جفاء أمّه) ص17 من الكتاب.

هذا الحُوار الذي يطلقون عليه اسم: (بوتوك) يستقطب اهتمام الجميع وتعاطفهم، فيحاولون كسر الجليد بينه وبين أمّه الناقة.

(تظهر ملامح التوتّر، والحركة غير الطبيعيّة على الناقة، عندما يقترب صغيرها الجائع المنهك، لكن بتأثير الموسيقا على أسماع الأم، والحنان الذي لمسته من أصحابها، وتحديداً من الشابّة التي تمسّدها بابتسامة لطيفة، تستسلم لصغيرها، وتنهمر الدموع من عينيها، وكأنّها كانت ترغب في أن تُطعم رضيعها منذ ولادته، إلّا أنّ شيئاً ما في داخلها كان يمنعها، ويبعدها دون إرادة منها).

بهذه الكلمات، وهذه اللغة عبّر الكاتب عن المشاعر ذات الصبغة الإنسانيّة التي تكنّها (إنجن تيمي) للبشر، وللحُوار رضيعها، فأجاد في إيصال فكرته، وأبدع في الوصف.

فاتنة بلوشستان

أمّا الفيلم الثاني (فاتنة بلوشستان)، فإنّه يرصد علاقة تتجلّى عبرها الشفافيّة والدفء في أبهى صورهما، بين راعي إبل يُدعى (كنار) الذي يعني في اللغة البلوشيّة (لغة أهل البلاد): الذكيّ والقويّ، وناقة  جميلة ذات عينين كبيرتين تدعى (آسكو)، بمعنى الغزال في اللغة البلوشيّة.

آسكو التي تتمتّع بخصائص إنسانيّة فريدة، والتي أنقذت كنار، من أن يتوه في الصحراء أربع مرّات على التوالي، هي ذاتها آسكو التي تعاقب صاحبها وراعيها، لأنه باع حُوارها الصغير، وأرسل زوجها إلى المسلخ، ليتمكّن من تسديد نفقات زواجه.

من خلال هذه الحكاية المدهشة، ينقل الكاتب الحوارات والمونولوجات الأكثر عذوبة في الفيلم، ليعبّر من خلالها عمّا تمتلكه الإبل من صفات الإنسان المتناقضة، والتي تتراوح ما بين الوفاء، والرغبة في الانتقام.

وعلى الرغم من أنّ كنار يعلم جيّداً، ومنذ البداية أنّ آسكو تعمّدت أن توقعه عن متنها ليلة زفافه عقوبة له على ما فعله بحُوارها وزوجها، فإنّه ينتقي أعذب الكلمات في مهامستها:

(أتتذكّرين ـ آسكو ـ عندما وضعت اللجام عليك، وجعلتك جاهزة للسباق؟ لقد أزعجتني كثيراً، وحينها قرّرت إرسالك إلى المسلخ.. أليس كذلك؟ لكنّي عندما أتذكّر السباقات التي حقّقنا فيها الانتصارات معاً، لا أستطيع الإقدام على تلك الخطوة، ما منعني من ذلك هو صداقتنا) ص 41 من الكتاب.

حكايات وحوارات

في الجزء الثاني، الذي يحمل عنوان: (حوارات)، يلجأ الكاتب إلى أسلوب مختلف في قراءة عالم الإبل، ممّا يمنح بحثه هذا تنوّعاً ممتعاً، فهو ينحو منحىً علميّاً بحتاً، مستخدماً المادّة الإعلاميّة كمحّرك لبحثه بشكل محوريّ، ويستعرض بعض الكتب التي تناولت الفوائد الاقتصاديّة، والسياحيّة والطبّيّة للإبل، وهو بذلك يُكسِب رسالته في الكتاب قيمة مضاعفة تكمن في استهداف شريحتين من القرّاء:

ـ الشريحة الشغوفة بالقراءات الأدبيّة، والتي تمتلك ذائقة أدبيّة متطلّبة؛ تلك الشريحة التي ستجد ضالّتها في الكتاب، من خلال قراءة الجزء الأوّل.

ـ والشريحة المهتمّة بالقراءات العلميّة، التي تقدّم المعلومة والفائدة، بطريقة مباشرة، بعيداً عن الاستعارات البلاغيّة، والمجاز الأدبيّ.

ينتقل الكاتب ـ في الجزء الثالث ـ المعنون: (حكايات عن الإبل والبشر)، إلى تأثيث فكرته بحكايات تأخذ شكل (فلاشات قصيرة)، من مصادر بشريّة تتوزّع على مساحة جغرافيّة أكثر اتّساعاً موسّعاً بذلك دائرة التقصّي، شأنه في ذلك شأن كلّ كاتب متشبّع بهاجس إيصال فكرته، بطريقة تحقيقيّة محكمة، لا تقبل الالتباس، أو الوقوع في المغالطات التي يمكن أن تنخفض بسويّة الكتابة أدبيّاً، أو معرفيّاً، إذ يعمد إلى رصد قصصٍ شيّقة مؤثّلة المصادر، من الولايات المتّحدة الأمريكيّة (كاليفورنيا)، والهند، وكينيا والصين.

وجبة الكتب الدسمة

يقفل الكاتب دائرة بحثه في الجزء الرابع الذي أطلق عيه تسمية: (قراءات في كتب عن الإبل) مستعرضاً تجارب كتابيّة، عن الإبل تبدأ بكتاب للكاتب الأمريكي جورج مارش (GEORGE MARSH) صدر عام   1856وصولاً إلى كتاب (كارما الإبل) للباحثة الألمانيّة (إلز كويلر رولفسون) الذي صدر عام 2014 .

في سياق استعراض ما كتبه المؤلّفون، حول الإبل يقدّم المؤلّف تنوّعاً ثريّاً يبدأ بالوظائف الحيويّة، والفوائد الطبّيّة، مروراً بعلم الباراسيكولوجيا، وصولاً إلى علم الأنساب، ليكون قد أغنى بحثة، بكلّ ما هو شيّق ومفيد.

لقد قدّم المؤلف وجبة دسمة، حول هويّة الإبل، بطريقة سلسة ممنهجة، ولن أجد طريقة أختم بها هذه القراءة خير، ممّا نُشِر على الغلاف الخلفيّ للكتاب:

(هذا الكتاب يحاول أن يعمّق من فهمنا لذواتنا، ويعزّز من إنسانيّتنا في فهمنا لعالم الإبل، المشاعر والعواطف التي يمكن أن تتشكّل خلال علاقتنا بمحيطنا بكلّ ما تحتويه.

أبطال هذا الكتاب شخصيّات إبليّة بالدرجة الأولى مثل: (إنجن تيمي، وبوتوك، وآسكو وسارا وغيرها، لكن لا يقف الكتاب عندها فحسب، بل يتّخذها معبراً لإضاءة جوانب إنسانيّة معتمة في دواخلنا، ولا تظهر إلّا في ظروف معيّنة. نحن أمام شخصيّات تتبادل الأدوار التفاعليّة، لتكشف عن عوالم نفسيّة جديدة، وتتخلّل صفحات الكتاب مشاعر السخط، والحزن، والفقدان والإرادة، والخوف، والشجاعة والحبّ والسكينة، مشاعر لمخلوقات أليفة رسمت تاريخنا البشريّ، في حقبة

من الحقب الزمنيّة، وما تزال تؤدّي هذا الدور في بقاع جغرافيّة مختلفة).

زر الذهاب إلى الأعلى