فنون وآداب

في مقال له نشر قبل 100 عام: طه حسين يقارن بين مصر وسوريا!

في مقال له نشر عام 1923، يقارن طه حسين بين حال مصر وحال بلاد الشام، في الوقت الذي كانت سورية تحت الانتداب الفرنسي، وفي الوقت الذي كانت فيه دمشق تضم أول مجمع للغة العربية تم تأسيسه في الوطن العربي على يد السوريين، وجامعة بارزة تدرس الطب والعلوم والحقوق هي الجامعة السورية التي صدر مرسوم إعادة تأسيسها عام 1923،  لكن طه حسين يرى في النهضة في مصر حالة أكثر اكتمالا، بسبب الاستقرار والوحدة الموفورة التي تمتعت بها،  بينما يرى أن سوريا واجهت أهوالاً وضروبا من العناء، وفي ما يلي نص المقال (العربي القديم)

                                                                                     ***

متى تتحقق نهضة الشرق العربي؟

بقلم: طه حسين

متى تتحقق نهضة الشرق العربي، وما موقفه بإزاء المدنية الغربية؟ أفهم جداً أن تلقى مثل هذه الأسئلة في هذه الأيام إلى كمين فيها؛ لأن الشرق العربي كله مضطرب اضطراباً شديداً لم يكن لنا به عهد من قبل، فمن المعقول أن نسأل: عن مصدر هذا الاضطراب وعن قيمته وعن نتيجته. ولسنا في حاجة إلى أن نتعرف مصدر هذا الاضطراب فهو معروف، فالشرق يستيقظ من نومه وينهض بعد انحطاطه ويتحرك بعد هذا السكون الطويل. لسنا في حاجة إلى أن نطيل البحث عن مصدر هذا الاضطراب ولكنا مضطرون إلى أن نتعرف قيمة هذا الاضطراب وخطر هذه النهضة.

أحق أن الشرق العربي ينهض وأن نهضته قيمة صحيحة قوية تستطيع أن تقاوم الخطوب وأن تؤتي من آتته النهضات في أوروبا وأمريكا من الثمرات؟ أما أنا فلا أشك في ذلك بالقياس إلى مصر وسوريا. ولكني لا أستطيع أن أجيب بنفي أو إثبات في أمر غير مصر وسوريا من البلاد، لأن علمي بأمر هذه البلاد قليل.

 لا أشك في أن النهضة المصرية والسورية صحيحة قوية منتجة. ولا أستدل على ذلك إلا بشيء واحد وهو أن هذه النهضة ليست بنت اليوم ولا أمس وإنما مضت عليها عشرات السنين، بل مضى عليها أكثر من قرن وهي تزداد في كل يوم قوة وثباتاً ونمواً وتناولاً لطبقات الشعب على اختلافها. ولو أنها نهضة متكلفة لما عاشت هذا الدهر الطويل، ولما استطاعت أن تقاوم منتصرة حرب الأجنبي التي لم تخمد نارها لحظة منذ ابتدأ القرن الماضي.

هذه النهضة صحيحة إذن.

وهي عامة تتناول فروع الحياة جميعًا فهي تتناول الحياة السياسية والاجتماعية والعقلية، كما تتناول حياة المواطن والشعور: ومصر وسوريا في تجميع هذه الفروع من الحياة تذهب مذهباً واضحاً بيناً هو مذهب الاتصال المتين بالحضارة الأوربية.

فسواء أراد المصريون والسوريون أم لم يريدوا فسيتصلون اتصالا قويًّا متينًا بأوروبا في كل فرع من فروع الحياة. هم يفكرون كما يفكر الأوربيون ويشعرون كما يشعر الأوروبيون ويسعون إلى نظام سياسي كنظام الأوروبيين. ولا بد من أن يتم هذا كله وأن تعمر الحضارة الغربية مصر والشام حتى يصبح هذان البلدان جزأين من أجزاء أوروبا.

وفي الحق أن مصر والشام ليستا من هذه النهضة في منزلة واحدة، فقد تكون مصر أرقى من الشام نهضة سياسية وقد تكون أرقى من الشام من الوجهة الاجتماعية والاقتصادية لأن وحدة مصر قد بقيت دائماً موفورة لم ينلها فساد ولا تقسيم، فكانت النهضة عليها أسهل وأيسر، بينما لقيت سوريا أهوالاً وضروباً من العناء، أفسدت عليها أمرها غير مرة، واضطر السوريون إلى جهاد عنيف مؤلم لم يضطر إليه المصريون. فلعلنا لا ننسى أن الحضارة الأوروبية قد عرضت نفسها على مصر فقبلتها مصر، وأن أهل الشام قد هاجروا إلى أوروبا وأمريكا يخطبون الحضارة ويتحايلون في اجتذابها إلى بلادهم وقد تكلفوا في ذلك خطوباً وصروفاً، وظفروا آخر الأمر ولكن بعد عناء شديد.

مصر إذن أرقى من سوريا من الوجهة السياسية والاجتماعية والاقتصاية، ولكن سوريا أرقى من مصر من وجهة الحياة المادية الجديدة. فالسوريون أحرار من هذه الجهة. والمصريون محافظون بينما يستطيع السوري في سهولة ويسر أن يقطع كل ما بينه وبين القديم من صلة وأن يصبح أوروبياً في حياته المادية والمعنوية يجد المصري في ذلك عسراً شديداً.

زر الذهاب إلى الأعلى