نوافذ الإثنين: كفرو وحلم العودة إلى الوطن
بقلم: ميخائيل سعد
”كفرو“ وحلم العودة إلى الوطن
يؤمن المسيحيون بأن المسيح قد أقام ”أليعازر“ من الموت، وهذا يتكرر مرة أخرى عندما يموت المسيح على الصليب، ثم يعود إلى الحياة بعد ثلاثة أيام، معلنا انتصار الحياة على الموت. ورغم أن أعجوبة السيد المسيح بإقامة الإنسان من الموت لم تتكرر، إلا أنها بقيت ممكنة الحدوث في سيكولوجية الإنسان المسيحي، وهذا ما سنراه في ”اعجوبة كفرو“.
”كفرو“ كلمة سريانية تعني قرية، وقرية كفرو التي نتحدث عنها هي من قرى طور عابدين، وهو هضبة عالية في جنوب شرق تركيا، وقد كانت موطن السريان الأساسي. في تسعينيات القرن الماضي أصبحت القرية خالية من السكان بسبب الصراع العسكري بين الجيش التركي والمسلحين الأكراد، ثم تحولت القرية إلى منطقة عسكرية ممنوع الدخول إليها، وقد هاجر أغلب سكان القرية إلى أوروبا. مع بداية عام 2006 سمحت السلطات التركية للسكان بالعودة إلى قريتهم، فعاد بعضهم وبدأوا في إعمار القرية من جديد، وحرصوا أن تكون قرية سريانية نموذجية في طراز عمارتها، أو كما يتخيلونها.
قبل عامين كنت قد زرت القرية بصحبة أحد الأصدقاء السريان من سكان ماردين، وهو على اطلاع كامل بتطورات أوضاع السريان في طور عابدين، لذلك كانت زياتنا مفيدة؛ فقد التقينا بعض أوائل العائدين، وزرناهم في بيوتهم. وكانت الملاحظة الأولى التي التقطها هي أن العائدين هم من المهاجرين إلى أوروبا، وقد عادوا بعد حصولهم على التقاعد، ولم يكن بينهم أي شاب أو صبية، وأن الذين بدأوا في عمارة القرية هم من الأثرياء نسبيا، بحكم فارق سعر العملة أيضا. كان في القرية محل بيتزا معروف على مستوى المحافظة، فصاحب البيزيرية كان في ألمانيا، وكان يملك مطعما ضخما هناك، وبعد تقاعده عاد إلى ”كفرو“ بدافع الحنين إلى الوطن الذي حُرم منه، فقرر بناء منزل فخم، وافتتاح محل البيتزيا، وكان صديقي على معرفة به فذهبنا إلى بيته، وقد استقبلنا وزوجته استقبالا كريما ما شجعني على التمادي في أسئلتي، ومنها مثلا: لماذا هذا الإسراف الكبير لبناء منازل فخمة لا يسكنها أحد أكثر من شهر في العام، أو لفترة الإجازة فقط؟ وهل تعتقدون أنكم تستطيعون إحضار أولادكم الذين ولدوا في الغرب إلى هذه القرية؟ وهل تعتقد أن الاستثمار في البيتزا أو غيرها يمكنه أن ينجح ويشجع على مزيد من الاستثمارات ”الغربية“؟
كان الرجل يتكلم كمن يرى حلما، كان يتخيل أن أبناء القرى الأخرى من طور عابدين سيغارون من ”كفرو“، ”عندما يرون ما نفعله، وسيقلدوننا، إننا نريد أن يزدهر طور عابدين ومدنه، ويعود السريان جميعا إلى قراهم وبيوتهم.“
ناقشته باستحالة تحقيق حلمه، فأنا في كندا، وأعرف أننا لا نستطيع إجبار أولادنا على العودة إلى وطن أهلهم، وهذا واقع جميع المهاجرين، فالجيل الأول يفكر بالعودة للوطن لوصل ما انقطع من سيرورته، ولكن بعد مرور السنوات، سيكتفي، حتى أبناء الجيل الأول من المهاجرين، بزيارة الوطن الأم، في فترة الإجازة، أو في الصيف، ثم يعود إلى الوطن البديل. كنت قد اطلعت، قبل ثلاثين عاما، على تقرير كندي رسمي، يؤكد أن نسبة العائدين إلى بلدانهم، بعد مضي خمس سنوات على وجودهم في كندا، لم تتجاوز الخمسة في المئة، وسألت الرجل: هل المهاجرون أو اللاجئون إلى أوروبا يختلفون عن الذين في كندا؟
قلت للرجل: يا سيدي كل الوقائع والدراسات تقول إن التاريخ لا يمكن استعادته وإنه يسير دائما نحو الأمام رغم بعض الانتكاسات بين الحين والآخر، وأن الميت لا يمكن إعادته إلى الحياة. أنا أثمن ما تقومون به من جهد، وأراه جميلا ولكنه بلا جدوى، سيبيع أولادكم هذه البيوت بعد وفاتكم للاستفادة من ثمنها في حياتهم ”الغربية“. وهذا ينطبق على كل الشعوب، وآخرها الشعب السوري، الذي هُجّر إلى كل بقاع العالم، ويحمل الحلم نفسه.
البارحة عدنا إلى قرية ”كفرو“، وأول ما فاجأنا أن محل البيتزا كان مغلقا، وصاحبه عاد إلى ألمانيا للعلاج الطبي، ولكن وجدنا البناء مستمرا، عدد السكان كان قليلا كما هو واضح من الشوارع الخالية.
كان فريقنا مكونا من كندي من أصل سوري، وأمريكي من أصل سوري وزوجته الأمريكية، وفتاة كردية-تركية، وسيدة سورية تقول إن أصلها كردي، وشاب سوري، كردي، تركي في الوقت نفسه، وشابين سوريين من إدلب. وهناك رمزية واضحة في التكوين العفوي للفريق.
كان الجميع تقريبا يعيش حلم الرجل السرياني بالعودة إلى وطن الآباء والأجداد، ولكن بنسب مختلفة، حتى عند من لم يكن مسيحيا ويؤمن بإمكانية إحياء الموتى. ودليل ذلك أننا قررنا الذهاب إلى مدينة نصيبين القريبة، كي نشرب القهوة ونحن نتأمل أضواء الكهرباء المشعة في الجانب الآخر من الحدود التركية-السورية، إنها أضواء مدينة القامشلي، التي كانت تبعد عنا ”مرمى حجر“، وسألنا بعضنا: هل سنعود يوما؟
ماردين في 6-11-2023