العربي الآن

حزب البعث العربي الاشتراكي: من الإعلان المدوي للوفاة إلى صمت الوداع الأخير... ما الذي يجري في دمشق؟

العربي القديم – طارق قاسم:

صخب على غير العادة أثاره الرفاق البعثيون لمدة وجيزة، بدأ يوم السابع والعشرين من آذار/ مارس المنصرم، قبل أن يذبل ويبهت ويتم إسكاته بقسوة مفرطة بعد أربعة أيام من قبل رئيس النظام السوري نفسه.

البداية، من مهدي دخل الله، أحد أصنام الحزب المزمنة، الذي لامسته روح التغيير فانقلب على عقبه وأنتج مقالة مقلوبة في كل شيء من الشكل مروراً إلى المضمون؛ فلا مقدمة تجذب القارئ العادي، ولا أسباب متسلسلة مدعمة بالأدلة ولا استنتاج منطقي لنتيجة تعزز الفكرة الرئيسية للمقال. لكنها، تظل، على الرغم من ذلك بمضمونها المبشر، تليق، بمقام أصحاب الفكر الواحد الذين رقدوا في طويلا في توابيتهم المقفلة حتى تعفنوا، ثم استيقظوا بعنف على كوابيس الواقعية التي قضت نهائيا على أحلامهم بالخلود والابدية.

مهدي دخل الله: مقالة أقرب إلى نعوة

مقالة أقرب إلى نعوة تأخذ شكل بيان حزبي داخلي، تكمن أهميتها المباشرة بالإعلان الصادم الواضح من دون مراعاة للمشاعر  المتبلدة المتكلسة إعلان وفاة حزب البعث العربي الاشتراكي بشكله الذي نشأ بعد الثامن من آذار لعام ثلاثة وستين وجرى ترسيخه في دستور عام ثلاثة وسبعين، لينتهي على الورق بحذف المادة الثامنة في الدستور الجديد اخر نسخة معدلة.  

يفتتح النعوة بصيغة، آمرة، داخلية خاصة بالحزبيين وغير موجهة للعموم، وتأخذ في نفس الوقت شكل المقدمة “علينا أن نعترف، فوراً.” هكذا، بضربة واحدة، لا يترك فيها مجالا للدفاع والتبرير، أو حتى التقاط الأنفاس؛ علينا، وأنا منكم السمع والطاعة كما كنا دائما. أما النتيجة النهائية للمقال فتتبعها مباشرة “أن الوحدة العربية الحقيقية الموجودة اليوم صنعها الفن، بينما فشلت السياسية والشعارات والأيديولوجيا فشلا ذريعا في توحيد الأمة.” بمعنى آخر، شعار الوحدة الذي رفعناه لتحقيق الوحدة،  والذي كنا وظللنا نتشدق به طيلة عقود، هو شعار نظري لأن الوحدة العربية هي قائمة في الواقع، وقد صنعها الفن ولم تصنعها شعاراتكم اللفظية ولا سياساتكم الفاشلة ولا أفكاركم المتحجرة.

من ثم، وبمجرد اطمئنانه إلى توضيح النتيجة، يذهب إلى تعداد الأسباب والأسانيد بلغة قاسية يهاجم فيها الجميع، فعبد الناصر كان مجرد خطيب معسول الكلام، أما ساطع الحصري وزكي الأرسوزي فهما مجرد منظران بقيت أفكارهما مقتصرة على بضع من أفراد النخبة المثقفة؛ يرفع السقف عاليا لينتقل من الهجوم على الأفراد ليشمل جميع الأحزاب والحركات القومية واصفا إياها في أنها عمقت القطرية، من دون أن ينسى تخصيص حصة وازنة لحزب البعث من سهام الاتهامات المباشرة هذه، عندما اتهمه بالتفريق المتعمد بين بلدين متجاورين بخصوماته العقائدية الصبيانية، هما سوريا والعراق.

 وبعد أن يدعم النتيجة التي وصل إليها بالمقلوب، من أن الوحدة المتحققة واقعياً هي لأسباب تتعلق بالفن، لا ينسى تعظيم الأنا البعثية التي يظهر أنها لم تفارقه بإبداء رأي استشرافي مستقبلي في تنظير فلسفي قل نظيره إلا من مربعات ومخمسات خالد العبود، من أن ” ما سوف يوحد العرب هو ثقافتهم الراسخة.” أما الدليل القاطع على رؤيته العظيمة فلأنها “واحدة من أهم الثقافات.” أما الفن فهو ابن الثقافة، من غير أن يوضح هل هو ابن شرعي أم لا.

تظل المقالة، رغم سطحيتها ومحدودية تأثيرها على الرفاق الحاليين، مهمة، في تأسيسها. كونها نسفت داخليا. أحد الضروريات الثلاث التي يقوم عليها حزب البعث ألا وهو مبدأ، الوحدة العربية، حين أقرت بوجودها الواقعي؛ أما مبدأ، الحرية، فعدا عن ان الرفاق القبضايات لا يعترفون به أصلاً، فقد تكفلوا هم أنفسهم بتحطيمه خلال فترة الحرب السابقة، أما مبدأ، الاشتراكية، فسيتكفل الأمين العام للحزب بتحطيمه لاحقاً.

تناص الرفاق الأخير في رئاسة ما تبقى من الجمهورية!

خبر انفردت سيادة اللواء الركن لون الشبل بنشره، ومن ثم جرى تعميمه بنفس الصيغة في سانا، الوكالة العربية السورية للأنباء، مع فيديوهات قصيرة مختارة بعناية لا تنبع عن فحوى المضمون، من أن “الرئيس بشار الأسد يلتقي مجموعة من أساتذة الاقتصاد البعثيين في مختلف الجامعات الحكومية.”

بدأ الخبر للوهلة الأولى، غريبا بعض الشيء، لماذا يلتقي الأسد بأساتذة في الاقتصاد (وبعثيين حصرا)، ومن (الجامعات الحكومية فقط)، غرابة ازدادت مع الفيديوهات القصيرة المرافقة التي عمقت من التساؤل أكثر من كونها أضاءت على إجابات مقنعة.

وحدها، صحيفة البعث، انفردت في نسختها الإلكترونية الصادرة في نفس اليوم وكشفت عن تفاصيل ما قبل الاجتماع التي إن أضيفت إلى مقالة مهدي دخل الله عن فشل الحزب في تحقيق الوحدة وعن ما سرب عما ما دار في الاجتماع، بدقة مبالغ فيها، تكتمل الصورة.

العناصر المؤسسة للمشهد.

من الجلي، حسب صحيفة البعث الناطق الرسمي باسم الحزب، أن الاجتماع كان محضرا قبل مدة ليست بالقصيرة، حيث تورد الصحيفة:

“يذكر أن “البعث” قد مهدت لهذا الحوار بطرح خمسة محاور اقتصادية أساسية تم التداول فيها مع الأكاديميين البعثيين على مدى الأسابيع الماضية، قبل أن تتوج ذلك بمجموعة من الحلقات النقاشية التي خلصت إلى صياغة ورقة مشتركة حول المحاور لخمسة جرى تقديمها للرفيق الأمين العام للحزب.”

إذن، فالأسد، كان على موعد مسبق مع (أساتذة الاقتصاد البعثيين)، ومستوعبا لما سوف يطرح في الاجتماع، ومنزعجا على ما ظهر لاحقا من تقليل شأن الاجتماع لاحقاً من المضمون، فأوعز إلى مهدي دخل الله بالتمهيد لعدم الرضا على أن يتكفل هو بإزالة ورقة التوت الأخيرة عنهم.

أساتذة الاقتصاد البعثيين في الجامعات الحكومية… بداية التشكيل!

تعود بداية خلق وتشكيل الكوادر التعليمية، الجديدة نوعيا، في مختلف الجامعات الحكومية المحدودة في العدد أصلا، إضافة إلى الأطر الجديدة في النقابات المهنية الفكرية للفترة التي تلت تاريخ 9-5-1980، حين صدر مرسوم جمهوري بحلها؛ الفترة التي قام قبلها العميد علي دوبا، رئيس شعبة المخابرات العسكرية، بالاتفاق مع بعض قادة الإخوان المسلمين في دمشق بالتمهيد لاحقا لمجزرة حلهم وعزلهم لمدة ثمان سنوات لمن أبدى مقاومة ورفض الانصياع؛ في تناغم وقتي بين مصالح الإخوان الضيقة، في إبعاد القوى اليسارية المهيمنة على صدارة المشهد، ومصالح السلطة؛ الإخوان المسلمين الذين رأت فيهم السلطة الطرف الأضعف الذي يمكن استغلاله، ورأى فيه الاخوان فرصة لتضخيم هالتهم الفارغة والخالية من المضمون لتدفع بهم الى الواجهة وتحطم الجميع بضربة واحدة.

أرسلت خلال هذه الفترة بعثات دراسية مكثفة، جرى انتقاء أفرادها بعناية فائقة من حيث مدى قربها وولائها وتوزعها المناطقي، والأهم مستواها العلمي المشكوك فيه على أمل خلق نخب بديلة موالية تماما للفكر الأمني البعثي؛ عادت أغلبية هذه البعثات حاملين شهادات جامعية أجنبية في مختلف الاختصاصات، لم يعلموا مضمونها، إلا بعد أن تمت ترجمتها إلى اللغة العربية؛ هذه الدفعات، وما بعدها، تسنمت التدريس الجامعي وأصبحت تمنح شهادات الدكتوراه لاحقا في فترة الأحداث الأخيرة، بصورة ملفتة للنظر.

الورقة المشتركة

 تنقسم هذه الورقة إلى خمسة محاور قسمت على الشكل التالي:

 المحور الأول، الحزب والموقف الطبقي.

 المحور الثاني، الحزب والنهج الاشتراكي.

 المحور الثالث، سياسة الدعم.

 المحور الرابع، الخط العام ودور الدولة الاقتصادي.

 المحور الخامس دور الدولة والمواطن. (Mutually Incompatible)

من دون الغوص في تفاصيل هذه المحاور، فإنه يمكن اختزالها جميعا بمبدأ (التناقض التام) وهوما يمكن شرحه ب (التناقض والتعارض بين المبادئ والمتغيرات المختلفة في السياق العام)، أفكار هجينة تعبر ببساطة وسلاسة ووضوح تام عن التحجر الفكري للرفاق البعثيين الذي اقتضى من الأمين العام للحزب قيامه بشرح ما استعصى عليهم بداية استيعابه في تبيان الفروقات الأساسية ما بين البيضة التي تأتي من الدجاجة والحجر الذي يأتي من الصخرة.

في عينة مختارة من هذه المحاور، وتحديدا المحور الثاني. الحزب والنهج الاشتراكي تذهب الورقة للشرح في تجليات تنظيرية ملفتة، أنه ليس هناك منهج اشتراكي في سوريا، فلا هو شبه اشتراكي، ولا هو اشتراكي بالكامل، كما جاء عليه النص في أدبيات الحزب، بل هو حالة استثنائية خاصة بسوريا، غير منصوص عليه علميا! هو اختراع بعثي سوري خاص، فلا هو رجل ولا هو امرأة، هو جنس ثالث يتوالد ويتكاثر ذاتياً؛ منهج يقوم على مشاركة الرفاق البعثيين للمواطنين في أموالهم أرزاقهم من قبل وبعد أن تدخل بيوتهم وجيوبهم ..

الملاحظ أيضاً في المحور الثالث المتعلق بالسياسة، الدعم، تركيز الرفاق أساتذة الاقتصاد الجهابذة على موضوع توفير السلع الأساسية بما يضمن دورهم ودور الدولة في (بيع السكر والرز والزيت والشاي والمحروقات)، أمر يضمن لهم السيطرة الاقتصادية على قوت المواطنين، وبقاء جيش من الموظفين العاطلين عن العمل في مئات العقارات المستأجرة، ووفود لجان الشراء، كل هذا يدفع تكاليفه المواطن الذي يجب أن تختصر أولوياته على سكر وزيت وشاي، وفي بعض الأحيان يضاف إليها الشراء الإجباري لعلبة منظفات أو محارم.

 لكن الملفت حقا هو المحور الرابع الذي يهدف أساسا فيما انتهى إليه، إلى اقتراحات تأخذ شكل صيغ الاحتكار وترسيخ القطاع العام، الذي ثبت فشله في كل شيء.

 رغم ذلك تظل اللفتة الكريمة من الرفاق البعثيين، واضحة، في المحور الخامس. الخاص بدور الدولة والمواطن. فقد حظي المواطن السعيد بأربعة اقتراحات (أخلاقية)، تتعلق بدوره في الانصياع. مقابل 18 ثمانية عشرة دورا للدولة.

غير خاف اقتصار هذه المحاور على ما يناسب النظرة، القديمة والجديدة والمستقبلية الدائمة للرفاق البعثيين الذين أغفلوا عن عمد وترفعوا عن ذكر صغائر المطالب الثانوية الهامشية المتعلقة بمبدأ فصل السلطات؛ بل أنهم  تجاوزوا ذلك للإقرار بسلامة القوانين الموجودة المفصلة على قياسهم حصرا والتي تضاهي، حسب وجهة نظرهم الصحيحة دائماً، تلك الموجودة في البيئات الديمقراطية العالمية، واختصرت مطالبهم المتواضعة في : “إيجاد البنية القانونية التشريعية والمؤسساتية التي تضمن بيئة تنافسية، وتعزز الشفافية حصرا، تلك المتعلقة. بجودة المعلومة بين الحكومة والمواطن.”، كرم حاتمي قل نظيره.

الأسد من الاجتماع إياباً إلى طرطوس… تصفية حساب قديم!

لا ريب ولا جدال في امتلاك الأسد متسع هائل من الوقت ليخصصه لأساتذة الاقتصاد البعثيين أصحاب نظرية الطريق الثالث وامتلاكه إضافة لترف الوقت ميزة المماحكة والجدال البيزنطي العقيم حين حاول إقناع هذه النخبة المختارة بعناية، عبثية ولا جدوى، إحياء الميت الذي ولد أصلاً بشكل مشوه، لكن هل اقتصر الامر على ذلك أم يتعداه لما لم يُقَل؟

لا شك أن الأسد في نقاشه قد استحضر في ذاكرته رحلته إلى طرطوس عام 2005، أثناء التحضير للمؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي، يومها جلس حاضراً، أغلب نقاشات الرفاق في النسق الأخير، يراقب من دون أن يتدخل في المجريات أو يبدي رأيه في النقاشات إلى أن اكتملت الصورة لديه؛ في اليوم الأخير وقف ليراجع معهم، ويقترح مجرد اقتراح التوسع بالمشاركة مع باقي أطياف الشعب، وتخفيف وتلطيف الجو العام، بما فيها إعطاء مزيد من الحريات الاقتصادية والسياسية، ولو شكلية. انبرى الرفاق والقبضايات يومها من ذوي الرؤوس الحامية لإعلان الرفض باستعراض فائض من القوة المتخيلة، ليجيب بعدها: لقد طرحت ما لدي، وعليكم تحمل المسؤولية، لكن كان لمحمد مخلوف رأي أخر.

ربما تولد لديه شعور داخلي بضرورة العودة إلى طرطوس ليذكر نفس المجتمعين بعد تسعة عشر عاماً ودمار سوريا بشراً وحجراً، وتشريد شعبها بأن العالم تغير وعليهم تحمل المسؤولية المباشرة عما حصل؛ وصلت الرسالة على ما يبدو وأعلن تجمع العمل الوطني في الساحل السوري عن (إعلان الساحل السوري). يعلن فيها في مصادفة غريبة، في يوم السابع من نيسان، عن وفاة الحزب، في يوم عيد ميلاده.

زر الذهاب إلى الأعلى