الرأي العام

نظريَّة الطَّهي: كيف تؤثِّر النَّار أقدم الاكتشافات البشريَّة في أجسادنا؟

بقلم: د. مهنا بلال الرشيد

تحدَّثنا عن تأثير ضوء نور الشَّمس في أقاليمنا المناخيَّة ونموِّ نباتاتنا وحيواناتنا وتأثيره في طعامنا وأجسادنا، وشبَّهنا لهب الشَّمس المُحْرِق بالنَّار مجازًا؛ لنصل بعد هذا كلِّه إلى سؤال مهمٍّ آخر يقول: هل للنَّار المشتعلة أو الموقدة بمعناها الحرفيِّ تأثير في طباعنا وسلوكنا وأجسادنا؟ ولن نتفاجأ كثيرًا إن قلنا: نعم، للنَّار تأثير في أجسادنا وطباعنا وسلوكنا وخصائصنا الوراثيَّة والمناعيَّة أيضًا! ولكن كيف وصل هذا التَّأثير إلى أجسادنا وسلوكنا؟

كانت الملاحظة الدَّقيقة أوَّل أدوات البحث العلميِّ، ودفعت هذه الملاحظة إنسانَ الهومو إيريكتوس إلى اكتشاف النَّار من خلال محاكاة الطَّبيعة أو تقليد احتكاك أغصان الأشجار اليابسة، الَّتي أشعلت النَّار وحرائق الغابات، وبالتَّقليد هذا استطاع إنسان الهومو إريكتوس إشعال النَّار، وراح يضرب حجارة الصَّوَّان، ويحكُّها؛ وأسفرت نتيجة التَّقليد عن معرفة مذهلةٍ؛ مكَّنته من التَّحكُّم بإشعال النَّار وإطفائها وتوظيفها في التَّدفئة والطَّبخ والدِّفاع عن النَّفس؛ انطلاقًا من محاكاة الطَّبيعة وتقليد مِثالها أو نموذجها؛ وبذلك صارت نظريَّة المُثُل الأفلاطونيَّة-بعد أزمنة طويلة جدًّا-أقدم نظريَّة فنِّيَّة اجتماعيَّة متكاملة؛ فسرَّت فنون البشر ومعارفهم الأولى بتقليد عالم المُثُل، وتفتَّقتْ عنها نظريَّة المحاكاة عند أرسطو؛ تلميذ أفلاطون، وما زالت هذه النَّظريَّات الفنِّيَّة تتوالد حتَّى يومنا هذا.

عُصورٌ حجريَّة أم عصورٌ خشبيَّة؟

حلَّ القحط والجفاف في جُزر الهومو إيريكتوس الأولى، وأحرقت النَّار كثيرًا من السُّهول والأشجار اليابسة؛ فرحل إنسان الهومو إيريكتوس من جزيرته، والتقى على أطرافها بأنواع أخرى من البشر، تختلفُ طينتهم الأولى عن طينته؛ تعارف عليهم، وتبادل معهم ما لديه من معارف؛ كاستخدام النَّار وبعض الأدوات الحجريَّة والخشبيَّة؛ كالقسيِّ والسِّهام والرِّماح والنِّبال وغيرها، وإن صمدت الرَّحى والسَّكاكين الحجريَّة عبر الزَّمن؛ فقد التهمت النِّيران رِماحَ هذه الشُّعوب وحِرابَها وأقواسها وأدواتها الخشبيَّة الأخرى، وتعفَّنت بعض أدواتها الخشبيَّة الأخرى بتأثير الرُّطوبة والأمطار المتلاحقة، وتفتَّتَ آخرُها بعد الطُّوفان؛ ولذلك يبدو لنا أنَّ تسميَّة العصور القديمة بالعصور الخشبيَّة أصدقَ من تسميتها بالعصور الحجريَّة؛ حتَّى وإن اعتمد علماء الدَّلالة على مصطلح العصور الحجريَّة تسمية رسميَّة لها نظرًا لكثرة ما عثروا عليه من أدوات حجريَّة ترجع إلى تلك العصور؛ لكنَّ استخدام النَّار والتَّحكُّم بإشعالها وإطفائها؛ بنورها ودفئها وحرارة لهبها ظلَّ أعظم معرفة قدَّمها الهومو إيريكتوس لشعوب الهومو الأخرى، وقد ورَّثها لنا نحن أبنائه الجُدُد من أجيال الإنسان العاقل (الهومو سابينيز) القادمين من تَزاوجِ أعراقٍ مختلفة؛ كالهومو إيريكتوس والهومو نياندرتال.

نظريَّة الطَّهي وتأثير النَّار في أجسادنا:

حين وظَّفت أجيال الهومو الجديدة النَّارَ في التَّدفئة انعكس أثرها مباشرة في الجسد البشريِّ، فلم تعد أجساد الأجيال الجديدة ممَّن اعتادوا على دفء النَّار قادرة على تحمُّل البرد الشَّديد برغم اختلاف درجات التَّحمُّل بين سُكَّان الأناضول وأوروبَّا وسيبريا وغيرها، وحين طبخت أجيال الهومو الجديدة طعامها بالنَّار تأثَّرت مباشرة خصائص أجساد الأجيال الجديدة بطعامها المطهيِّ؛ فصغرت أسنان الأجيال الجديدة، وصارت عظام الوجه والفكَّين أصغر وأجمل وأقلَّ بروزًا، وضعفت عضلات الوجه والفكَّين، ولم يعد الإنسان بحاجة إلى قوَّة شديدة في عضلات الوجه؛ ليتمكَّن هذا النَّوع من العضلات من مضغِ اللُّحوم النَّيِّئة والخضروات الصُّلبة أو القاسية؛ لأنَّه صار يشويها، ويسلقها، ويقليها، ويأكلها طريَّة مطبوخةً مستفيدًا من وجود النَّار في المطبخ وتحت الأثافي، ولم يعد جِدار المعدة سميكًا كما كان عند الأجداد، ولم تعد عُصارة المعدة شديدة الحموضة؛ لتُذيب الطَّعام القاسي، وصار الكبد والبنكرياس أقلَّ نشاطًا، وهذا ما يُفسِّر ضعف أجساد الأجيال الجديدة المتلاحقة جيلًا بعد جيلٍ مقارنة بقوَّة أجساد أجدادنا النَّاتجة عن طعامهم الصِّحِّيِّ وقدراتهم العالية على تناول كميَّات كبيرة من اللَّحم المسلوق مع السَّمن الحيوانيِّ، ثمَّ التَّحلية بوجبة من العسل الطَّبيعيِّ بعد ذلك كلُّه، ولا أعتقد أنَّه بإمكان شخصٍ من جيلنا؛ جيل الأندومي والبسكويت أن يتناول نصف ما كان يأكله أجدادنا من اللَّحم والسَّمن والعسل دون أن يصاب بالدُّوار أو الغثيان أو السُّكريِّ والكبد الدُّهنيِّ مع جملة أمراض العصر المزمنة برغم تطوُّر الطِّبِّ الكبير في وقتنا الرَّاهن، وكذلك لا تتمتَّع أجسادنا بنصف ما تتمتَّع به أجساد أجدادنا من قوَّة ولياقة بدنيَّة عالية.

في الجذر السُّوسيولوجيِّ لعبادة الشَّمس والنَّار:

كانت الشَّمس مصدر الطَّاقة والدِّفء لدى الإنسان في جزيرته الأولى؛ فأحبَّها، واهتدى بنورها؛ فشكرها، وعبَّر عن امتنانه لها، وتحوَّل هذا الامتان إلى نوع من التَّأمُّل في شروقها وغروبها ودفئها، ثمَّ حمل هذا التَّأمُّل جذور عبادتها بعد مرور أجيال متعدِّدة. وفي ليالي برد الشِّتاء الطَّويلة تمسَّك بأمل الحياة من خلال نور الشَّمس في النَّهار، وأشعل النَّارَ في كهفه وخيمته ليلًا؛ فصارت صديقته وفاكهته في ليالي الشِّتاء الباردة، وراح يعبِّر عن عظيم امتنانه لها، وصارت بعض جماعات البشر ترقص حولها في ليالي السَّمر، وتخرج عند انتهاء الشِّتاء وبدايات الرَّبيع، وتُشعل نارَ النَّيروز في أعالي الجبال، وتحوَّل هذا الطَّقس الاحتفاليُّ إلى عقيدة لدى الأجيال البعيدة من الأبناء والأحفاد، وارحوا يعبدون النَّار، أو يقدِّسونها عند زرادشت وأتباعه، وتروي الأخبار أنَّ أعرابيًّا أَنِسَ بناره في ليلة من ليالي الشِّتاء الباردة؛ فقال: ليتَكِ أيَّتها النَّار في قبر أمِّي وأبي! أمَّا خالتي زوجةُ أبي فَلْتَعِشْ وحدَها في صقيعِ الماء والثَّلْجِ والبَرَد!

وفوق هذا كلِّه لم يقتصر تأثير النَّار على الطَّبخ والتَّدفئة بل دخلت مجال التَّطبيقات الحربيَّة والصِّناعيَّة لدى الأجيال اللَّاحقة؛ فظهرت النَّار الَّتي أراد النَّمرود أن يحرق بها إبراهيم عليه السَّلام، ثمَّ ظهرت النَّار الإغريقيَّة والمناجق قاذفات اللَّهب بجوار برج بابل وبرج (آي ساجيلا/ سِجِّيل) جنوب العراق؛ وهنا أعتقد أنَّ طيور أبابيل الَّتي تحدَّث القرآن الكريم عن تدميرها فيلةَ الأحباش الأثيوبيِّين عندما غزوا مكَّة المكرَّمة لم تَكن إلَّا الثِّيران الآشوريَّة المجنَّحة، الَّتي تجرُّ العربات والمناجق المجوقلة، والتَّي مسرعة للدِّفاع عن بيت إبراهيم عليه السَّلام وأحفاده من أبناء إسماعيل-عليه السَّلام-القُرشيِّين، وينحدر إبراهيم؛ جدُّ البابليِّين-عليه السَّلام-من مدينتي أور وبابل، ويُعزِّز هذا الاعتقاد عندي اسم البرج (آي ساجيلا) ومعرفة البابليِّين بالنَّار وتوظيفهم لها في الحروب منذ أن حاول النَّمرود إحراق إبراهيم-عليه السَّلام-قبل غزو الأحباش مكَّة المكرَّة بـ (2500) سنة، وقد احتار الطَّبريُّ وابن كثير وباقي المفسِّرين في معنى (أبابيل) الَّتي يشبه اسمها اسم (بابل) أيضًا، وقدَّموا تأويلات غريبة إلى حدٍّ بعيد، وقد عدَّ كثير من مفسِّري القرآن الكريم سورتي (قريش) و(الفيل) سورة واحدة، وتتحدَّث هاتان السُّورتان عن وحدة القُرشيِّين وطُرق قوافلهم وتجارتهم القديمة، وتصوِّران طيور أبابيل وحِجارة سجِّيل؛ قال الحقُّ تبارك، وتعالى: (لإيلاف قريشٍ. إيلافهم رحلة الشِّتاء والصَّيف. فليعبدوا ربَّ هذا البيت. الَّذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف) [سورة قريش]. وقال في سورة الفيل: (ألم ترَ كيف فعل ربُّك بأصحاب الفيل. ألم يجعل كيدهم في تضليل. فأرسل عليهم طيرًا أبابيل. ترميهم بحجارة من سِجِّيل. فجعلهم كَعَصفٍ مأكول) [سورة قريش].

ولسنا في صددِ تفسير هاتين السُّورتين ونِقاش آراء المفسِّرين حولهما نقاشًا واسعًا؛ لكنَّنا عرضنا ما يرتبط من هذه الآراء بموجز تاريخ النَّار؛ أوَّل اكتشاف مهمٍّ ومؤثِّر للغاية في تاريخ البشريَّة، ثَّم ظهر فيما بعد الفحم والمراجل والقطارات والمصانع النَّاريَّة أو البخاريَّة، ثمَّ تطوَّرت المناجق إلى مدافع وبنادق ومسدَّسات ودرَّاجات وأسلحة وتطبيقات ناريَّة في حروب العصر الحديثة، وقد دعا سبحانه وتعالى إلى التَّأمُّل في هذه النَّار؛ فقال: (أفرأيتم النَّار الَّتي تورون. أَأَنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون. نحن جعلناها تذكرة ومتاعًا للمُقْوِين. فسبِّح باسم ربِّك العظيم) [الواقعة 71-74].

وفي نهاية هذا المقال: هل عرفتَ عزيزي القارئ: لماذا عبد البشرُ الشَّمس والنَّار زمنًا طويلًا؟ لماذا أحبُّوهما كثيرًا، واحتفلوا بهما في طقوسهم، ووضعوا صورها على أعلامهم أيضًا؟! ربَّما أضأت بعضَ الشِّيء على الأسئلة الكثيرة الواردة في هذا المقال؛ لكنَّنا حكمًا سنتذكَّر بين آونة وأخرى في المقالات القادمة تأثير النَّار في أجسادنا وفنونا وكثير من تحوُّلات العالم بعد تزاوج بعض الأعراق المتباعدة من بعضها الآخر؛ ولكن كيف سيُهاجر البشر من جُزُرُهم الأصليَّة؟ كيف سيلتقون من بشرِ الجُزرِ الأخرى؟ وماذا سيحدث بعد هذه اللَّقاءات؟ سوف نعرف كثيرًا من الأجوبة عن هذه الأسئلة في مقالاتنا الأسبوعيَّة القادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى