أرشيف المجلة الشهرية

زيت حلو... زيت كردي

العربي القديم – إيمان الجابر

في اللاذقية يُسمّى “زيت حلو”، وأهل أبي في ريف إعزاز يقولون عنه “زيت كردي”. لونه الذهبي المائل إلى الخضرة، وكثافته المحببة تزيده بهاءً عندما يتجلّى في طبق زجاجي صغير، وبقربه طبقٌ آخر للزعتر الحلبي، وقطعة صغيرة من خبز التنور الساخن الذي كانت تحضره عمتي فاطمة، تُغمس في الزيت، ثم في الزعتر. أكل الزعتر بهذه الطريقة كان اكتشافاً بديعاً!

بعد عدّة سنوات عملت في ورشة خياطة في حلب، قيل لي: تمرير الخيط من البكرة، ليصل الإبرة، في ماكينة الحبكة معقد جداً، وتحتاجين شهراً للتعلّم عليها. (أستطيع أن أعلمك ذلك في يوم واحد). قال الشاب الوسيم مقدماً نفسه (ولات). ثلاثة أيام مضت، كنت أحبك قطع القماش بمهارة أدهشت الجميع، وأتقنت تمرير الخيط بسهولة.

 ليس اسمه (ولات)! إذاً ليكن.

 ننسى الأسماء، ولا ننسى الأثر الذي يتركه أصحابها في الروح والوجدان.

بدا لي لحظتها فارساً  فوق صهوة جواده، يفعل أشياء تدوّخني، لولا أنه خلف ماكينته، يعمل بسرعة ومهارة فائقة، كأنه يحبك الريح، يمرّ القماش بين يديه، منسجماً، مع صوت (سامي كلارك) الذي يصدح في المكان، ليزيح  صوت الماكينات  من الطريق إلى مسامعنا. نعزف علي الماكينات بأيدينا وأرجلنا، كفرقة موسيقية  تتقن مهمتها، وكان (ولات) المايسترو، يلتفت إلي (قومي تا نرقص يا صبية) مؤدياً الكلمات همساً. لفتة صغيرة مني ارتبك، أعود للنظر أمامي خوفاً من أن تلتهم الماكينة أطراف القماش، فأنا لا أستطيع السيطرة عليها كما يفعل هو. 

 ذات مرة في استراحة الغداء قلت له: إنه يشبه (وليد توفيق)، وقلت في قلبي (لكنك أجمل)، أهداني شريط كاسيت لمجموعة اتذكريني، همس وهو يتلفّت حوله: “اشتاحزدكم”، ومضى مسرعاً.

لم أفكر قط أنني لن أراه ثانية، تركت العمل من أجل تقديم امتحان الشهادة الإعدادية.

صديقتي هيفين قالت لي: اقرئي رواية (ممو زين)، أسطورة الحب. خيّل لي أن (ولات)، هو (ممو)، وأنني هي (زين). استعرت قصة الحبّ هذه، وعشتها كلمة كلمة. دموعي تتساقط، تمسح  عن وجوه الكلمات الصوفية المقدسة الحزن، بقع زيت كردي، حلو، هربت من (قضوضة الزعتر) إلى كتبي المدرسية، لتصبح جزءاً من الحكاية يمتصّها الورق، لا يُمحى أثرها.

نسيت أن أقول لكم إنه اعترف لي ذات مرة إنه كذب علي، فكلمة (Ez hej te dikim) لا تعني شكرا، ولم أعترف له أنني سألت صديقه عن معناها.

في يوم جمعة من أيام الثورة السورية  تعلمت كلمة (Azadi) فقلت حينها، اللغة الكردية، أوّلها حبّ آخرها حرية.

___________________________

من مقالات العدد السابع من مجلة (العربي القديم) كانون الثاني/ يناير 2024

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى