الرأي العام

 ما وراء التسريبات: هل اقتربت ساعة محاكمة بشار الأسد؟

يظهر بشار الأسد منفصلًا عن الواقع السوري، مستاءً من أداء جيشه، ومستهزئًا بشكل مبطن بالثقافة المجتمعية للشعب الذي يحكمه

نوار الماغوط – العربي القديم

منذ أن بدأت المرحلة السياسية الجديدة في سوريا تتشكل ملامحها، برز الحديث المتواصل عن العدالة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، وكشف مصير المعتقلين والمفقودين، وبناء أرضية قانونية تُعيد شيئًا من الثقة بين السوريين ودولتهم المستقبلية. غير أن هذا الحديث، على كثافته وانتشاره، لم ينعكس بعد على الوعي العام بثقة حقيقية بإمكانية تحقيق العدالة، خاصة مع تضارب التصريحات، وتعدد الجهات المتداخلة، وتفاوت روايات الإعلام حول ما يجري خلف الكواليس. وبينما يتابع السوريون أخبارًا شبه يومية عن وفود دولية، وورشات حقوقية، ومحاكمات غيابية، وتصريحات عن “قرب المحاسبة”، فإنهم لا يرون في الواقع إلا مسارًا يتحرك ببطء شديد، وكأن العدالة تنتقل من منصة إعلامية إلى أخرى من دون أن تصل إلى قاعة محكمة حقيقية.

إصدار مذكرة التوقيف الغيابية بحق بشار الأسد في سبتمبر 2025 كان لحظة لافتة، ليس لأنها أنهت الجدل حول مسؤولياته، بل لأنها المرة الأولى التي يضع فيها القضاء السوري  رئيس الدولة السابق في دائرة الاتهام المباشر بجرائم قتل وتعذيب وحرمان من الحرية. ما حدث يومها اعتبره البعض نقطة تحول، ورآه آخرون مجرد خطوة رمزية في سياق سياسي مضطرب. وبين الرمزية والحاجة إلى خطوة فعلية، تبدو المسافة طويلة جدًا. فالمذكرة، على أهميتها القانونية، لم تتجاوز بعد حدود الإعلان الإعلامي، إذ لم يرافقها أي إجراء فعلي يضمن مثول المتهم أمام القضاء أو يفتح باب محاكمة مكتملة الأركان. وهنا تتداخل السياسة مع القانون، وتُصبح العدالة رهينة توازنات إقليمية ودولية، أكثر مما هي رهينة مؤسسات قضائية مستقلة.

مشكلة العدالة في سوريا اليوم ليست نقص الأدلة أو غياب الشهادات أو عدم وجود ملفات واضحة؛ فتوثيق الجرائم منذ عام 2011 يُعدّ من أكثر عمليات التوثيق اتساعًا في تاريخ المنطقة. عشرات المنظمات الدولية سجّلت، ووثّقت، وجمعت صورًا وتقارير وشهادات ومواد أرشيفية يصعب على أي قضاء تجاهلها. لكن هذه الثروة من الأدلة لم تُترجم بعد إلى إجراءات قانونية واضحة المعالم، لأن الملف موزع بين جهات متعددة داخل سوريا وخارجها، ولكل جهة أولوياتها ورؤيتها. ومع مرور الوقت، بات واضحًا أن غياب مركز واحد يقود عملية العدالة يجعل كل ما يتحقق شبيهًا ببناءٍ من دون تصميم نهائي.

ولعل أكثر الملفات إلحاحًا هو ملف المعتقلين والمغيبين قسرًا؛ ذلك الجرح المفتوح الذي يربط الماضي بالحاضر ويختبر صدقية أي حديث عن مستقبل عادل. آلاف العائلات السورية ما زالت تعيش حالة الانتظار القاسي، بين الأمل بأن يكون أبناؤها أحياء، والخوف من أن تكون الحقيقة أكثر قسوة مما يتصورون. ورغم كل ما بذلته منظمات محلية ودولية من جهود لجمع المعلومات وتوثيق الحالات وتحديد أماكن الاعتقال المحتملة، فإن الوصول إلى الحقيقة ما زال محدودًا إلى حد مخيب. السبب الرئيس هو غياب هيئة وطنية مستقلة تمتلك صلاحيات الوصول إلى الأرشيفات الرسمية والمواقع المغلقة، وقادرة على إدارة ملف بهذا الحجم والحساسية وفق معايير العدالة الانتقالية المعترف بها دوليًا. بدل ذلك، أصبح الملف أحيانًا مادة للتجاذب السياسي، وأحيانًا ورقة تفاوض، وأحيانًا موضوعًا إعلاميًا يتكرر دون تقدم فعلي.

اللافت أن التغطية الإعلامية المكثفة للعدالة السورية لعبت دورًا مزدوجًا: فمن جهة ساهمت في إبقاء القضية حيّة وفي خلق ضغط مستمر على الجهات المعنية للتحرك، ومن جهة أخرى صنعت أحيانًا صورة غير دقيقة عن قرب المحاكمات وانفراج الملفات، ما أدى إلى رفع سقف التوقعات ثم خيبته عند عدم تحقق أي تقدم ملموس. الإعلام هنا لا يفتقر إلى النية الحسنة، لكنه يحتاج إلى خطاب قانوني أكثر دقة، وإلى وعي بأن العدالة الانتقالية ليست حدثًا سريعًا أو محاكمة طارئة، بل مسار طويل يحتاج إلى البنية القضائية، والشهود المحميين، والوثائق الرسمية، والبيئة السياسية المناسبة.

وحين ننظر إلى التداخل بين الجهات الدولية والمحلية في الملف السوري، يصبح المشهد أكثر تعقيدًا. فهناك المحاكم الأوروبية التي تعتمد الولاية القضائية العالمية، والتي حققت بالفعل تقدّمًا عبر محاكمة ضباط ومسؤولين سابقين، لكن هذه المحاكمات رغم رمزيتها لا تغني عن مسار وطني شامل. وهناك الأمم المتحدة بفرقها المتعددة، التي تُصدر تقارير وتوصيات، لكنها لم تستطيع المضي أبعد من ذلك . وهناك المنظمات الحقوقية الدولية التي تعمل على بناء ملفات متكاملة، لكنها لا تمتلك صلاحية التنفيذ. وفي الداخل، توجد جهود قضائية ناشئة لكنها تحتاج إلى وقت طويل لتثبت استقلاليتها وقدرتها على التعامل مع ملفات بهذا الحجم.

التشتت الحاصل لا يُفقد العدالة قيمتها، لكنه يجعل الوصول إليها أكثر بطئًا وتعقيدًا، ويجعل السوري العادي يشعر بأن كل هذه الجهود لا تؤدي إلى نتيجة. فحين ينتظر أب أو أم خبرًا عن ابن معتقل، لا تهمه المؤتمرات، ولا الورشات، ولا الوفود، ولا البيانات القانونية. ما يهمه حقيقة واحدة: معرفة المصير. وحين يسمع السوري عن محاكمات لمسؤولين سابقين، لا يسأله حجم التقرير الدولي، بل يسأل سؤالًا واحدًا مباشرًا: هل هذا يقربنا خطوة من موعد محاكمة الرئيس وأعوانه ؟ وهذا السؤال لم يجد إجابة واضحة بعد.

إن تحويل العدالة من ملف ضبابي إلى مسار حقيقي يتطلب إرادة سياسية واضحة قبل أي شيء آخر. يحتاج الأمر إلى إنشاء هيئة وطنية مستقلة لإدارة ملف المفقودين والمعتقلين، تمتلك الصلاحيات والمصادر والضمانات اللازمة للعمل بشفافية ومسؤولية. كما يحتاج إلى إطار قانوني موحد ينسق بين القضاء المحلي والجهود الدولية، بحيث تتكامل الأدوار بدل أن تتزاحم أو تتصادم. ويحتاج كذلك إلى قضاء مستقل، مدعوم من المؤسسات الدولية، وقادر على إدارة محاكمات تستوفي المعايير المطلوبة، لأن العدالة التي تُقام في بيئة هشة أو غير محمية تتحول إلى معركة أخرى بدل أن تكون خطوة نحو المصالحة.

ولا يمكن إغفال العامل الدولي، الذي يلعب دورًا حاسمًا سواء في التسهيل أو التعطيل. إذ لا يمكن لأي محاكمة كبرى أن تأخذ مسارها الطبيعي من دون توافق دولي نسبي، أو على الأقل من دون رفع العوائق السياسية عن طريق العدالة.

ولعلّ أكثر ما أثار الجدل خلال الأيام الماضية تلك التسريبات “الحصرية ” التي بثّتها قناة العربية، والتي قدّمت صورة نادرة لبشار الأسد أثناء جلسة مغلقة، يظهر فيها منفصلًا عن الواقع السوري، مستاءً من أداء جيشه، ومستهزئًا بشكل مبطن بالثقافة المجتمعية للشعب الذي يحكمه، بينما يرافقه مستشارته السياسية لونا الشبل. هذه اللقطات، سواء كانت كاملة أو مجتزأة، أضافت مزيد من الأسئلة حول مستقبل محاكمة رأس النظام السابق، وطرحًا ضمنيًا حول مدى قدرة المحاكم الدولية على التعامل مع شخص يبدو — وفق ما يوحي به محتوى التسريبات — في حالة عقلية مضطربة، كما جاءت تلك المقاطع لتشير إلى هشاشة السلطة الداخلية وقدرتها المحدودة على التحكم بمسار الأحداث

في النهاية، ما يحتاجه السوريون ليس المزيد من التسريبات “الحصرية “، ولا المزيد من التصريحات حول “مسار العدالة” أو “قرب المحاسبة”. ما يحتاجونه هو وضوح في الاتجاه، وخطة زمنية، ومؤسسات قادرة على التنفيذ، وما لم تتحول هذه القضايا من ملفات إعلامية إلى إجراءات قانونية، ستبقى سوريا معلقة بين الذاكرة والانتظار، بين الجرح والأمل بالشفاء ، وبين واقع لا يتغير وتصريحات لا تتوقف .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى