رسالة مقتضبة إلى الشام: أي عالم افتراضي يمكن أن يعوضنا عن غيابك؟
هبة عز الدين – العربي القديم
عزيزتي الشام… صباح الخير:
منذ دقائق كنت أمشي من بيتي إلى عملي و عشت حلماً أود أن أخبرك إياه، ألا يقولون بأن الأحلام الجميلة إن بحنا بها تحققت؟ حسناً، كنت أسمع أصالة نصري، أصالتنا، تعرفيها جيداً، و كانت تصدح:
هي هي ياشام، ياشام يا أم الضفاير!
يرقص الفرح على و جنتيها، و تنطط السعادة في حبالها الصوتية كطفلة في ساحة الألعاب صباح عيد الفطر السعيد. لا شك بأن من لم يزرك يوماً، لكنه و رأئ أصالة تغني سيحبك حكماً. أتقصد أن أقول يرى لا يسمع، لأن الغبطة المرافقة للصوت حرام ألا ترى، و من ثم يأتي صوتها، و من سمع ليس كمن رأى. لقد جعلتني أصدر فتاوى ياشام، ما اعظمك.
أضع سماعات في أذني و أسمع للأغاني العربية كنوع من المقاومة السلمية للعنصرية في تركيا ضد العرب عموماً، هكذا هي أسلحتنا نحن دعاة السلمية و المجتمع الأهلي، بدأنا المسيرة بورود حمراء قدمناها للجيش السوري بدايةَ و لم تتنته حكايتنا عند الأغاني العربية. من أغنية لأخرى، فتأتي عبارة ” هي هي” كإنذار لجولة صاخبة من الفرح. و أقول في نفسي : ” أي لا صار لازم نشيل السماعة و نشوف و نسمع سوى”.
أصبح الحزن ثقيلاً يسكن في قلوبنا، نحن الذين طردتنا رياح الحرب خارج أسوارك. أضحينا كالأشباح، نعيش بين الأمكنة بلا هوية، نحمل في صدورنا ذكرياتك كعبء لا نستطيع التخلص منه. نسير في شوارع الغربة وعيوننا تبحث عن طيف يشبهك، عن صوت ينادينا بلغتك، عن وجوه تشبه تلك التي تركناها خلفنا، لكن عبثاً نحاول.
يقول صديق: “الشام كانت أحلى ، حتى أصالة كانت أحلى من هلق”
أعلم يا شام أن الزمن قد غير ملامحك، وأن ما كنتِ عليه لم يعد كما هو الآن. حتى أصواتك تغيرت، وأصبحت تغني بألم الفقد، بألم الذاكرة التي أثقلها الحنين. ولكن، هل تعلمين؟ نحن أيضاً تغيرنا، لم نعد أولئك الذين تركنا كل شيء ورائنا ورحلنا. لقد أخذت منا الغربة أكثر مما يمكن أن تعيده الأيام. لم نعد نحمل سوى ذكريات ممزقة، وقلوب تتوق للعودة إلى مكان لم يعد كما كان.
أغمض عيني وأتخيل أنني أمشي في شوارعك يا شام، كما كنت أفعل في الماضي، قبل أن تفرقنا المسافات وتعصف بنا الرياح إلى منافي بعيدة. أرى نفسي أمشي في حاراتك القديمة، تلك الحارات التي حفظت تفاصيلها عن ظهر قلب. أستنشق عبق الياسمين الذي كان يتسلق الجدران، يتسلل إلى أرواحنا ويبعث فيها حياة جديدة. أشعر بملمس حجارتك تحت قدمي، تلك الحجارة التي شهدت على كل لحظة قضيناها معك، فيك.
أمشي بين زحام الناس، أسمع أصواتهم تتداخل مع بعضها البعض كأنها سيمفونية عفوية تعزفها الحياة. أرى الوجوه التي كانت مألوفة لي، وجوه كانت تعكس دفء المحبة والألفة. أبحث عن عينيّ طفل يركض بين الأزقة، يحمل في يده قطعة حلوى اشتراها من البائع المتجول، وضحكته تنساب كالنغم في سماء المدينة.
أتوقف عند أحد المقاهي، ذاك الذي كنا نجتمع فيه لنرتشف القهوة، ونتبادل أطراف الحديث عن كل شيء ولا شيء. أسمع صوت فيروز ينبعث من الراديو القديم، يملأ الأرجاء بحنين لا يُحتمل، ويزيد من ثقل الذكريات التي نحملها في قلوبنا. أنظر إلى الطاولات الفارغة، فأرى أشباحنا جالسين هناك، نتحدث، نضحك، ونتجاهل المستقبل الذي لم يكن في الحسبان.
أمشي في سوق الحميدية، حيث كانت الألوان تختلط مع الروائح في مشهد لا يمكن أن ينسى. أرى البائعين يعرضون بضائعهم، وأسمع أصواتهم ينادون الزبائن بصوتٍ مليء بالأمل في يومٍ جديد. تمرّ أمامي امرأة مسنة تحمل في يديها أكياساً ممتلئة، وهي تتحدث إلى البائع وكأنها تعرفه منذ زمن بعيد. في عينيها أرى تلك الحكمة التي لا تأتي إلا من سنوات طويلة عاشتها في قلب المدينة.
أستمر في المشي، وأصل إلى الجامع الأموي. أقف أمام بواباته الضخمة، أنظر إلى مآذنه التي تحاكي السماء بعظمة وروعة. أسمع صوت الأذان يرتفع، يدعو الناس للصلاة، وأشعر بروحي تهدأ، كأنها عادت أخيراً إلى موطنها الحقيقي. أرى الناس يدخلون ويخرجون، وكلٌّ منهم يحمل في قلبه أمنية، دعاء، أو ربما مجرد رغبة بسيطة في السلام.
أكمل طريقي داخل الجامع، وأتوجه نحو ساحة واسعة تغمرها أشعة الشمس. أقف هناك، أراقب العابرين الذين يتوجهون نحو أماكنهم المعتادة للصلاة، وأشعر وكأن الزمن توقف للحظة، يتيح لي فرصة استعادة كل تلك الذكريات التي تراكمت في قلبي. أسمع خرير الماء من نافورة الوضوء، وأتذكر كيف كنت أغسل وجهي وأمسح بيدي على شعري وكأنني أغسل هموم الدنيا كلها، مستعداً للوقوف بين يدي الله في هذا المكان المقدس.
أنظر حولي، إلى النقوش التي تزين جدران الجامع، تلك النقوش التي حكت قصصاً عن ملوك وأمراء، وعن شعب كان يجتمع هنا يوماً بعد يوم، يتبادل الأمنيات ويتشارك الهموم. أفكر في كل تلك الأرواح التي مرت من هنا، في كل تلك الأيدي التي لمست هذه الحجارة، في كل تلك الدعوات التي صعدت إلى السماء من بين هذه المآذن.
أغادر الجامع الأموي وأعود إلى الشوارع المحيطة به. أشعر بخفة في روحي، كأنني تخلصت لبعض الوقت من ثقل الحنين. أواصل السير، وأصل إلى باب شرقي، ذلك الباب الذي كان يوماً ما شاهداً على دخول وخروج الأحلام والطموحات. أتخيل نفسي أعبر منه، كما كنت أفعل دائماً، وأتجه نحو الطريق الطويل الذي يصلني بالمدينة القديمة، حيث البيوت متلاصقة والناس كالعائلة الواحدة.
أتخيل نفسي أمرّ بين تلك البيوت، أسمع ضحكات النساء يتبادلن الحديث من فوق الأسطح، وأرى الأطفال يلعبون في الساحات الضيقة، لا يعرفون من الدنيا سوى الفرح. أستمر في السير حتى أصل إلى سوق البزورية، حيث تتداخل روائح البهارات مع عبق العطور الشرقية.
أخرج من السوق، وأتجه نحو نهر بردى، أجلس على ضفافه، أستمع إلى صوت الماء يتدفق بهدوء، وأتذكر كيف كان الناس يجتمعون هنا في ليالي الصيف، يروون حكاياتهم و يحلمون بمستقبل أفضل.
أغمض عيني مرة أخرى، وأفتحها لأجد نفسي عائدة إلى واقع الغربة، بعيدة عنك. ولكن، رغم البعد، سأظل أحمل في داخلي صورة الشام التي أحببتها، الشام التي كانت تسكن في قلبي، وستظل دائماً ملاذي، حتى وإن لم أتمكن من العودة إليها مجدداً.
ناديتينا ونحنا جينا على موعدنا
حبيتنا .. وحبك فينا بيجددنا
ما بتنضام ريشة من طيرك هالطاير
والحوام .. نسرك حامي هالعماير
يا شام
أستمر بالسمع و أفتح عيني وأبتسم بحزن، وأخاطبك يا شام في سري: “لقد طوروا الذكاء الاصطناعي، وجعلوا من المستحيل ممكناً، استطاعوا أن يبنوا عوالم افتراضية تجعلنا نعيش في واقع بديل، لكنهم فشلوا في أن يجعلونا نزورك افتراضياً. فكيف يمكن لذكاء مصنوع أن يستحضر روحك، أن ينقل لنا عبق الياسمين الذي يملأ حاراتك، أو أن يجعلنا نسمع خفقان قلوبنا ونحن نسير في أزقتك؟
يا شام، لقد صنعوا عوالم جديدة، لكن لم يستطع أي منها أن يأسر قلوبنا كما فعلتِ أنتِ. حاولوا أن يجسدوا المدن والذكريات، أن يعيدوا إلينا ما فقدناه، ولكن مهما كانت الصور والرسومات متقنة، تظل باردة بلا روح، بلا حرارة الماضي الذي عشته بين جدرانك. لا يستطيع أي ذكاء اصطناعي أن يلتقط دفء الشمس على حجارتك القديمة، أو أن ينقل إلينا صوت الأذان وهو يتردد في أرجاء جامعك الأموي.
مهما تطور العلم والتقنية، لن يتمكنوا أبداً من خلق ذلك الشعور بالانتماء، ذلك الارتباط الذي يكون بين الإنسان ومدينته. فالشام ليست مجرد مكان، إنها ذاكرة، إنها حلم حي، إنها جزء من أرواحنا. لا يمكن لأي آلة أن تعيد لنا ذلك الشعور، لا يمكن لأي عالم افتراضي أن يعوضنا عن غيابك.
يا شام، حتى لو بنوا لنا عالماً نستطيع أن نعيش فيه كل شيء من جديد، سيبقى ما بيننا وبينك أعمق من أن تحيط به خوارزميات، وأسمى من أن يلامسه افتراض. ستظلين دائماً تلك الحقيقة التي لا يمكن أن تخلقها الآلات، وستظلين في قلوبنا حلم العودة الذي لا ينطفئ، مهما طالت الغربة وابتعدت المسافات.
كنتي معنا لما طلعنا كنتي معنا بهالليالي
وجهك معنا عم يزرعنا بيرق عالي
والأعلام خضرا من لون البشاير
يا هالشام ما بيتغبرلك ضفاير
نعم ياشام، يا أم الضفائر، سنعود إليك يوماً، وسيظل صوتك يردد في أذاننا، وستظل أغانيك ترافقنا في كل خطوة، حتى نلتقي من جديد.
أستمحيك عذراً علي العودة إلى الواقع البائس على أمل حلم جديد أخاطبك به.
سأشتاقك
هبة
شكراً لأنكم جعلتمونا ندخل الشام ونمشي في أزقتها