دلالات وقضايا | التَّطوُّر الدَّلاليُّ في لغة الجسد
مهنا بلال الرشيد – العربي القديم
لغة الجسد خليط من الدِّلالات التَّوقيفيَّة والدِّلالات العرفيَّة الاصطلاحيَّة، وهي بذلك تشبه لغة الكلام إلى حدٍّ بعيد، ويرى نفرٌ من علماء النَّفس أنَّ لغة الجسد أهمُّ من لغة الكلام في معظم المواقف الحسَّاسة، وتتفوَّق عليها في كثير من المواقف المهمَّة؛ كالمناظرات والخطب الدِّينيَّة والخطابات السِّياسيَّة والمقابلات المصوَّرة وجلسات التَّحقيق واختبارات كشف الكذب وغيرها؛ لأنَّها تنقل ما يقرب من 60 بالمئة من مقاصد المتكلِّم، ويبقى أربعون بالمئة فقط للغة الكلام. وتشير الدَّلالة التَّوقيفيَّة في مستهلِّ هذا المقال إلى ارتباط بعض الحركات وتعابير الجسد بدلالات قطعيَّة؛ لأنَّها تكشف عن مشاعر فطريَّة أصيلة في النَّفس البشريَّة وحالات غريزيَّة لا يمكن تجاوزها؛ كاصفرار لون البشرة عند الخوف، والارتجاف وتصبُّب العرق وظهور بعض الحركات اللَّاإراديَّة عند الانفعال والغضب والارتباك؛ فهذه دلالات توقيفيَّة أصيلة لدى البشر جميعهم، وموقف خبراء لغة الجسد من تفسير الحركات في هذه المواقف يشبه رأي علماء لغة الكلام القائلين بتوقيفيَّة لغة الكلام؛ أي إلهاميَّتها وغريزيَّتها؛ لأنَّ الله-سبحانه وتعالى-عندما خلق آدم علَّمه اللُّغة وأسماء الأشياء كلَّها، وانطلاقًا من هذه التَّوقيفيَّة تحدَّدت معانيها بخلق الله لا بعرف البشر واصطلاحهم، فقد قال سبحانه وتعالى: (وعلَّم آدم الأسماء كلَّها ثمَّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) [البقرة 31].
أمَّا الدَّلالة الاصطلاحيَّة فتشير إلى دور البشر واتِّفاقهم على تسيمة شيء ما بكلمة محدَّدة؛ كتسمية جهاز الإذاعة بالرَّاديو في الإنكليزيَّة وتسميته بالمذياع في العربيَّة، وكلَّما أنتج البشر شيئًا، أو اخترعوا آلة جديدة وضعوا لها اسمًا اتَّفقوا عليه، أو تعارفوا فيما بينهم عليه، وبمثل هذه الطَّريقة تتحدَّد دلالات القسم الثَّاني من لغة الجسد؛ لأنَّ القسم الأوَّل توقيفيٌّ غريزيٌّ محدَّد بطبيعة الإنسان منذ خلقه الأوَّل؛ كدلالة التَّلعثم على الخوف، ودلالة تصبُّب العرق على الاضطراب، وكَشْفِ زلَّات اللِّسان عن مكنونات النَّفس، ودلالة الإسراف في الأتيكيت على بعض العُقد النَّفسيَّة، ودلالة إسراف بعض المحاضرين في توظيف طبقات الصَّوت ولغة الجسد على الرَّغبة برفع قيمة الكلام الَّذي يشعرون بعدم قيمته أو أهمِّيَّته؛ لأنَّ تأثير لغة الجسد في المتلقِّي السَّاذج يفوق تأثير لغة الكلام فيه بخمس مرَّات وفقًا لتقدير خبراء لغة الجسد؛ فهل تحافظ لغة الجسد على دلالاتها الأصليَّة أو تتطوَّر دلالاتها باستمرار؟
التَّطوُّر الدَّلاليُّ في معجم لغة الجسد
برغم الدَّلالة الغريزيَّة الرَّاسخة في معاني بعض الحركات الجسديَّة يشهد معجم لغة الجسد تطوُّرات دلاليَّة كبيرة بتأثير الوسوم التَّعبيريَّة أو الصُّور والأيقونات التَّعبيريَّة (الإيموجي) الَّتي تكرِّس دلالات عالميَّة محدَّدة وموحَّدة بين شعوب العالم كلِّها من خلال مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ وتطبيقاتها الحديثة، بالإضافة إلى سعي صانعي المحتوى إلى الاستفادة من دلالات هذا المعجم بعد هيمنة الصُّورة على البثِّ الإعلاميِّ في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ. وحين يستعين صانعو المحتوى بالنَّقد السِّيميائيِّ لتطوير مهاراتهم في هذا المجال يحاول النَّقَّاد مساعدة صانعي المحتوى على تكريس دلالات عرفيَّة تواضعيَّة اصطلاحيَّة جديدة في بعض حركات الجسد بناء على بعض الدَّلالات الغريزيَّة الرَّاسخة؛ فوضعُ المتكلِّم يدَه على رقبته خلال الحديث يدلُّ على حيرته خلال نقلِ رسالته وعدم قدرته على التَّنبُّؤ بردَّة فعل المتلقِّي، ولمسِهِ وجهه يدلُّ على كذبه، ولمسه أنفه أو أذنه يدلُّ على شكِّه بالمخاطب أمامه؛ ولهذا يعمل صانعو المحتوى-لا سيَّما منتجو الدَّراما-على تكريس بعض الدِّلالات العرفيَّة الاصطلاحيَّة؛ فيطلب المخرج من الممثِّل أن يبالغ بحكِّ وجهه عندما يؤدِّي دور المحتال الكذَّاب كما بدا ذلك على شخصيَّة النِّمس في مسلسل باب الحارة على سبيل المثال.
تدلُّ استقامة جسد الرَّجل أو عدم انحائه خلال المشي مع خطواته الواسعة على ثقته الكبيرة بنفسه، ويعِّزز هذه الثَّقة بالنَّفس ثباتُ القدمين على الأرض مع انفتاح متوسِّط بين الرُّكبتين خلال الجلوس مع شخص آخر أو مجموعة أشخاص آخرين، وتدلُّ قدرة الشَّخص على وضعه رجله الأولى فوق رجله الثَّانية دلالة غريزيَّة على الرَّشاقة، وتشير إلى عدم معاناة هذا الشَّخص من السُّمنة، كما تكشف على الارتياح والودِّ الكبيرين إن لم تكن هذه الحركة في اجتماع رسميٍّ؛ لأنَّ مثل هذه الحركة قد توحي ببعض الاستعلائيَّة، وتوصل دلالات عرفيَّة اصطلاحيَّة مصطنعة وغير محبَّبة في الاجتماعات الرَّسميَّة، الَّتي تحكمها مجموعة من قواعد الأتيكيت والأعراف الدِّبلوماسيَّة الصَّارمة؛ ولكن هل يمكن الإحاطة بمعجم لغة الجسد ودلالاته في مقال واحد؟
معجم أصابع اليد ودلالاتها
كفُّ اليد الواحدة وأصابعها الخمس من أقدم ألفاظ اللُّغات العالميِّة وأعرق مصطلحات لغة الجسد والإشارة كلِّها؛ لذلك كانت لوحة كهف الأيدي في دي لاس مانوس في الأرجنتين واحدة من أقدم لوحات البشر الفنِّيَّة. وتحتوي أصابع اليد على بصمات الإنسان، الَّتي تميِّزه من البشر جميعهم؛ ولهذا يعدُّ كفُّ اليد وبصماتها بمثابة الهويَّة الشَّخصيَّة. وتدلُّ اليد الكبيرة مع أصابعها الخمس الطَّويلة على قوَّة الرَّجل، ويبدو ذلك جليًّا في كفوف الملاكمين وحرَّاس المرمى في كرة القدم، أمَّا أصابع الأنثى الطَّويلة فتدلُّ على جمالها، وتعكس شيئًا من أناقتها، وبالمحصَّلة تعكس المصافحة بكفوف الأيدي شيئًا كبيرًا من الودِّ، ويدلُّ هزُّ الأيدي بشيء من الصَّلابة خلال المصافحة على المحبَّة والعلاقات الوثيقة، ولا يقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل حملت الإشارة بإصبع واحدة أو إصبعين اثنتين أو مجموعة من الإصابع دلالات كثيرة، وتطوَّرت هذه الدِّلالات بتطوُّر المجتمعات، واختلفت في بعض الأحيان دلالة الإشارة الواحدة من مجتمع إلى آخر!
دلالة الإبهام: يصعب على الإنسان الإمساك بشيء ما إذا فقد إبهامه، فهي تدلُّ على الإمساك والتَّحكُّم والسَّيطرة، وتدلُّ بصمة الإبهام على التَّنازل كذلك؛ ولمثل هذا التَّنازل اُعتمدت بصمة الإبهام في عقود التَّنازل عن الملكيَّة والبيع والشِّراء أو التَّأييد المطلق انطلاقًا من فرادة العَنَم أو تميُّز خطوط البصمات في أطراف الأصابع واستحالة تطابقها بين شخصين؛ ومن هنا تبدو لنا دلالة الإبهام دلالة رمزيَّة متطوَّرة في الزَّمان والمكان معًا، وعندما يضع المتكلِّم إبهامه أمام فمه في دول مثل الهند وباكستان؛ فهذا يعني أنَّه يشتم عائلة المخاطب، أو يسبُّ أصوله وأقرباءه، وعندما يُشير المتكلِّم بإبهامه للمخاطب بعد أن يُخرجها من وسط أصابعه في دول مثل روسيا وأندنوسيا؛ فهذا يعني أنَّه احتال عليه، أو أوقعه في مقلب كبير، وترتبط هذه الإشارة بدلالات جنسيَّة تقع في دائرة الـ (Taboo) أو المحظور اللُّغويِّ في بعض الدُّول العربيَّة مثل سوريا. ويدلُّ رفع الإبهام على الإعجاب والموافقة والشُّكر والثَّناء، ويدلُّ عكسها نحو الأسفل على الشَّماتة في كثير من دول العالم، وتكاد تتوحَّد هذه الدَّلالة بين شعوب العالم كلِّها بتأثير واضح من لغة (الإيموجيِّ) أو الأيقونات والوجوه التَّعبيريَّة في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ.
دلالة السَّبَّابة: تعدُّ دلالة السَّبَّابة المرفوعة على التَّهديد من أكثر الدَّلالات شيوعًا في العالم؛ لذلك يبتعد الماليزيُّون عن هذه الإشارة لدلالتها على الإساءة الوقحة. ولأنَّ رفع السَّبَّابة والإبهام معًا يعطي شكلًا شبيهًا بشكل على (صحِّ) في أيقونات الوتساب دلَّت الإشارة بالسِّبَّابة والإبهام على هذا المعنى أيضًا.
الإصبع الوسطى: رفعُ الإصبع الوسطى واحدة من أكثر العلامات شيوعًا، ويدلُّ رفعها على السُّباب والشَّتمية والإهانة لدى معظم شعوب العالم، ويشبه رفعها إطلاق الشَّتيمة الإنكليزيَّة (Fuck you) بترجماتها العربيَّة الحرفيَّة أو المجازيَّة، ويوحي رفعها ببعض الألفاظ الجنسيَّة المحظورة، ومن الطَّريف أنَّ رفع الإبهام في إيران يحمل معنى رفع الوسطى عند معظم شعوب العالم. غير أنَّ ارتباط الإصبع الوسطى بهذه الدَّلالات تشكَّل عبر مراحل زمنيَّة طويلة، وهناك من يعتقد أنَّ قبائل الغابات قلَّدت السِّنجاب الذَّكر عندما يقف على رجليه، ويرفع يديه في دلالة واضحة على الذُّكورة، ودلَّ رفعُ هذه الإصبع على الأعضاء التَّناسليَّة لدى قدماء اليونانيِّين.
لكنَّ تهديد الفرنسيِّين للجنود الإنكليز بقطع أصابعهم الوسطى إن أسروهم في معركة آجن كورت سنة 1415 كرَّس كثيرًا من دلالات الإهانة والتَّحدِّي، الَّتي يحملها رفع الإصبع الوسطى، فمن المعروف أنَّ باري القوس أو رائش السِّهام أو المقاتل بالقوس والسَّهم يشدُّ سهمه على القوس والوتر بالسَّبَّابة والوسطى، ولو قطعت إحدى هاتين الإصبعين سيغدو الرَّجل أشبه بالخصيِّ العاجز عن القتال؛ ولذلك هدَّد الفرنسيُّون بقطع أصابع الجنود الإنكليز الوسطى، وعندما عجز الجنود الفرنسيُّون عن تنفيذ وعيدهم وتهديدهم رفع الجنود الإنكليز أصابعهم الوسطى نحو الأعلى في تحدٍّ واضح للجنود الفرنسيِّين، ثمَّ وصلت هذه الحركة أو الإشارة إلى الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة مع مجموعة من المهاجرين الطِّليان إلى أمريكا سنة 1886.
السَّبَّابة والوسطى: يدلُّ رفع السَّبَّابة والوسطى معًا مع فُرجة قليلة بينهما على مواصلة التَّحدِّي حتَّى النَّصر؛ لأنَّهما تمسكان بالسَّهم على وتر القوس أساسًا، وقد كرَّس هذه الدَّلالة ذلك الشَّبه الواضح بين هذه الحركة وحرف الـ (V) في بداية (Victory) بمعنى (النَّصر) في اللُّغة الإنكليزيَّة، وعندما احتلَّت جيوش هتلر معظم أوروبَّا خلال الحرب العالميَّة الثَّانية كتب المقاومون حرف (V) الإنكليزيَّ في دلالة واضحة على التَّحدِّي واستمرار المقاومة، وكرَّست الانتفاضة والمقاومة الفسلطينيَّة هذه الدَّلالة، عندما رفع المقاومون الفلسطينيُّون هذه الإشارة خلال انتفاضة الأقصى، وكذلك أسهم الشُّعْبُ أو المقلاع المطَّاطيُّ المصنوع من المطَّاط وأغصان الأشجار على شكل حرف (V) في تكريس هذه الدَّلالة، وقد صنع منه المقاومون الفلسطينيُّون (مقلاعًا أو نقَّافة الحصى)، وبدأت انتفاضتهم. وربَّما أسهمت الدَّراما بتطوُّر دلالة رفع السَّبَّابة والإبهام أو تكثيف دلالتها من خلال تكريس صرامة الشَّخصيَّة وصدق صاحبها وبعده عن الكذب والمراوغة لدى من يرفع السَّبَّابة والإبهام، وقد يكون لمقولة شخصيَّة أبي شهاب في مسلسل باب الحارة: (شكلين ما بحكي) دور في هذا التَّكثيف والتَّطوُّر الدِّلاليَّين.
دلالة البنصر: يصعب رفع الإصبع البنصر بمفردها؛ لذلك عكست دلالات الحبِّ والودِّ بدل دلالات الشَّتيمة والتَّحدِّي والإهانة وغيرها، وتلبس معظم الشُّعوب العربيَّة خاتم الخطوبة في بنصر اليد اليمنى في دلالة على خطوبة الشَّابِّ أو الفتاة، وبعد الزَّواج ينقلون خاتم الخطوبة إلى بنصر اليد اليسرى؛ ليدلَّ على الزَّواج أو الاستقرار في بيت الزَّوجيَّة.
دلالة الخنصر: تعدُّ الإشارة بالخنصر أو رفعها أو ملامسة الخنصر بين شخصين على رغبة من يبادر بهذه الحركة بمقاطعة الشَّخص الآخر أو البعد عنه لدى كثير من القبائل العربيَّة والتُّركيَّة، وربَّما تعود دلالة هذه الحركة إلى أيَّام اختلاط القبائل العربيَّة بالقبائل التُّركيَّة خلال مواسم الرَّعي في الجزيرة الفراتيَّة ومواسم رحلتي الشِّتاء والصَّيف الشَّهيرتين.
علامة شاكا: يُعرف رفع الإبهام والخنصر مع طيِّ أصابع اليد الأخرى باسم علامة قرني الشَّيطان أو علامة شاكا، وقد تُرسم هذه العلامة برفع السَّبَّابة والخنصر مع طيِّ الأصابع الأخرى، وتحمل هذه الإشارة كثيرًا من الإهانة لمن تُرفع بوجهه، وتدلُّ على الرَّجل الخصيِّ في كلٍّ من إيطاليا وإسبانيا. أمَّا الإشارة بالسّبَّابة والوسطى مع فُرجة بسيطة بينهما نحو وجه المتلقِّي فتدلُّ في المجتمعات العربيَّة على عدوانيَّة صاحب هذه الإشارة أو استعلائه وقوَّته وجسارته وتحدِّي المخاطب إلى حدِّ الرَّغبة باقتلاع عينيه.
دائرة الإبهام والسَّبَّابة: عندما يثني الإنسان السَّبَّابة والإبهام على بعضهما، ويرسم بهما دائرة مع رفع الوسطى والبنصر والخنصر فهذا يدلُّ على التَّهديد إلى حدِّ الرَّغبة بذبح المخاطب بحدِّ السَّيف، لا سيَّما إن هزَّ المتكلَّم بيده، أو حرَّكها بطريقة تشبه حركة الذَّبح بالسَّيف. وتكون نبرة التَّهديد أخفَّ وطئًا على المخاطب إذا جمع المتكلِّم رؤوس الإبهام والسَّبَّابة والوسطى على شكل رأس هرم، وهزَّ كفَّه مرَّات عدَّة، ومن الطَّريف أنَّ الأتراك بمثل هذه الحركة يعبَّرون عن إعجابهم بنكهة الطَّعام اللَّذيذ عندما يتذوَّقونه. وفي تايلاند حيَّا الموطنون موكب الملك عندما مرَّ أمامهم؛ فعقدوا الإبهام على الخنصر، ورفعوا الأصابع الوسطى الثَّلاث.
أصابع اليد والمواقف السِّياسيَّة: في كثير من الأحيان تتحوَّل حركات الأيدي وشكل الأصابع وعددها إلى رموز لدى الأحزاب السِّياسيَّة، ويعبِّر من خلالها أنصار الأحزاب عن مواقفهم من القضايا السِّياسيَّة والاجتماعيَّة المتعدِّدة، فقد دلَّ طيُّ الإبهام مع رفع أصابع اليد الأربع الأخرى على تأييد التَّظاهر في ميدان رابعة العدويَّة في مصر خلال ثورات الرَّبيع العربيِّ. في حين يدلُّ رفع أصابع اليد الخمس كلِّها على العدد خمسة، لا سيَّما امتلاك المتكلِّم خمسة من الأولاد، وتدلُّ هذه الحركة على سبِّ الأمِّ أو شتمها في جزر الكاريبي، وتعادل هذه الحركة جملة: فلتذهب إلى الجحيم! إذا رفعها المتكلِّم في وجه المخاطب في اليونان أو باكستان، وبعض الدُّول الأفريقيَّة.
عندما يضرب رجل سطح الطَّاولة بكفَّه المبسوط، أو يضرب الخطيب سطح منبره بقبضة كفِّه فهذا يحمل شيئًا من التَّحدِّي للمخاطبين، ويجبرهم على الصَّمت، فيما يحاول لاعبو كرة القدم في البرازيل إهانة خصومهم برفع قبضة اليد نحو الأعلى، وتحمل قبضة اليد المرفوعة للأعلى كثيرًا من دلالات الاحتجاج والمناهضة والتَّحدِّي لدى شعوب متعدِّدة في العالم، وقد يعبِّر معنى القبضة المرفوعة عن الإهانة في أكثر من سياق.
يبدو أنَّ استخدام الأيقونات ورموز الإيموجي التَّعبيريَّة في برامج التَّواصل الاجتماعيِّ قد نشَّط حركة التَّطوُّر الدَّلاليِّ في معاني هذه الرُّموز التَّعبيريَّة، وقد ساعدت هذه التَّطبيقات في الوقت نفسه على إيجاد مشترك دلاليٍّ أو معجم أو لغة موحَّدة تجمع بين كثير من شعوب الأرض برغم المسافات الشَّاسعة، الَّتي تفصل بينهم. وقد دعا الباحث الرُّوسيُّ أ.كندراتوف إلى إيجاد لغة (سيبرناطيقيَّة) عالميَّة مشتركة بين شعوب العالم جميعهم مثل رموز الرِّياضيَّات ودلالاتها قبل قرن من الزَّمن تقريبًا، واعترف بصعوبة هذه المهمَّة، لكن يبدو أنَّ انتشار شبكات التَّواصل الاجتماعيِّ وبرامجها وتطبيقاتها على نطاق واسع سيجعل هذه المهمَّة أكثر سهولة في المستقبل، وقد نجد في المستقبل القريب معجمًا عالميًّا موحًّدا لدلالة المئات أو الآلاف من الرُّموز التَّعبيريَّة العالميَّة، وسيكون من الأفضل لو اتَّفقت شعوب العالم على تسيمة كلِّ رمز تعبيريٍّ صامت برمز لغويٍّ منطوق معادل له وموحَّد تقرؤه شعوب العالم بالحروف نفسها، وتنطقه بالطَّريقة ذاتها؛ وسيشكِّل مثل هذا العمل الخطوة الأولى في طريق ولادة لغة عالميَّة مشتركة!