أرشيف المجلة الشهرية

آل الخوري- كحالة: مساهمات ذهبية من السياسية إلى الصحافة

محمد منصور- العربي القديم

 حين نتحدث عن العائلات السياسية في التاريخ السوري المعاصر، يمكن اعتبار أسرة الخوري ممثلة بعميدها فارس بك الخوري، وأنسبائهم من آل كحالة ممثلة بعميدهم حبيب كحالة، من أبرز العائلات المسيحية التي لعبت دوراً في التاريخ المعاصر، منذ خروج العثمانيين من البلاد عام 1918، مروراً بالانتداب الفرنسي على سورية، فاندلاع الثورة السورية بين عامي (1925-1927)، فتوقيع معاهدة الاستقلال عام 1936، وجلاء الجيوش الفرنسية عن سورية في ربيع عام 1945  وصولاً إلى العهد الوطني بانتخاباته وانقلاباته، وليس انتهاء بعهد البعث وانقلاب الثامن من آذار، حيث اضمحل دور هذه الأسرة تماماً، مع بزوغ عصر الاستبداد، وحكم المخابرات وتزوير الانتخابات، وإذلال أعزة القوم من كل الطوائف والمكونات، ورفع شأن الصغار والسقاط والحثالات!

فارس الخوري: عبقرية السياسة

تشكل مسيرة فارس الخوري عنوان الحيوية السياسية الحافلة في تاريخ هذه الأسرة، فالرجل الذي جاوز الثانية والثمانين من العمر، ورحل مطلع العام 1962 بعد أشهر من وقوع الانفصال بين مصر وسورية  الذي باركه وفرح به، لم يترك عهداً سياسياً عاصره لم يشارك به، بما في ذلك عهد الانتداب، حيث كان وزيراً للمالية في الحكومتين اللتين تشكلتا في عهد الملك فيصل، ثم أسقطها إنذار الجنرال غورو، ثم وزيراً في عهد الوزارة التي عملت في ظل الجنرال غورو!

 بدأ فارس بن يعقوب الخوري  المولود لأب سوري في  20  نوفمبر 1877 في قرية الكفير التابعة لقضاء حاصبيا الذي كان تابعاً لسورية، وألحقه غورو مع ثلاثة أقضية أخرى بلبنان، وشكل منه “دولة لبنان الكبير”. بدأ مشواره مع السياسة، وهو في الثالثة والثلاثين من العمر، ففي عام 1910 رشَّح نفسه لمجلس المبعوثان في إسطنبول، وبالرغم من قلّة معرفته باللَّغة التركية، فقد فاز بالمقعد المسيحي ممثلاً عن دمشق، ودخل السلطة التشريعية العثمانية، مع عدد من الأعيان العرب. وفي عام 1915 أصبح عضواً في لجنة الموازنة العامة في مجلس المبعوثان، ولكنه اصطدم مع جمال باشا، الحاكم العسكري لولاية سوريا خلال الحرب العالمية الأولى، وبعد أن تم استجوابه، وُضع قيد الإقامة الجبرية في إسطنبول. عاد فارس الخوري إلى دمشق قبيل خروج العثمانيين بوقت قصير، وبايع فارس الخوري الأمير فيصل بن الحسين حاكماً عربياً على سورية، وشارك في حفل تتويجه ملكاً على البلاد يوم 8 آذار 1920، وقد سعى مع عدد من رفاقه إلى تأسيس معهد الحقوق العربي، الذي افتُتح في الثاني عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1919، وكان هو أحد أساتذته، وبقي يدرّس فيه حتى بلغ السن القانونية عام 1940.

في عهد الملك فيصل، عُيّن وزيراً للمالية في الوزارتين اللتين تألّفتا، خلال العهد الفيصلي في سوريا، وبعد معركة ميسلون قام الملك فيصل في 25 تموز/ يوليو 1920 بتكليف علاء الدين الدروبي بتشكيل حكومة تفاوض الفرنسيين، كلّف فيها فارس الخوري بوزارة المالية، ولدى دخوله دمشق فرض الجنرال غورو غرامة مالية، جراء مقاومة الانتداب كلّفت وزارة المالية بجمعها، لكن الحكومة سقطت بعد نحو شهر بعد مقتل رئيس الحكومة، ورئيس مجلس الشورى عبد الرحمن اليوسف على يد محتجين في خربة غزالة، وقد اعتذر فارس الخوري عن المشاركة في الحكومة التي تلتها. 

في آذار من عام 1928 قرر الفرنسيون معاقبة فارس الخوري على مواقفه الوطنية، فسنّوا قانوناً يتم توزيع النواب فيه على أساس طائفي، ولم تخصِّص أيّ مقعد لطائفته الإنجيلية القليلة العدد…  وفي عام 1936، أصدرت حكومة عطا الأيوبي مرسوماً، يقضي بإجراء الانتخابات النيابية وفق هذا القانون، لكن فارس الخوري حاز على أعلى الأصوات عن دمشق، ثم انتُخِب، بالإجماع، رئيساً للمجلس النيابي، فحاز على (81) صوتاً من أصل (82) وورقة بيضاء، وكان ذلك الفوز صفعة للمحاصصة الطائفية التي أرادتها فرنسا. ولما اندلعت الثورة السورية عام 1925، اعتُقل فارس الخوري مع آخرين، ونُفوا إلى معتقل أرواد. بعد خروجه شارك  الخوري، وعدد من الوطنيين في تأسيس الكتلة الوطنية، وكان نائباً لرئيسها، وقد قادت هذه الكتلة المعركة السياسية ضد الفرنسيين. وإثر الإضراب الستيني الذي انطلق من أسواق دمشق، وعمَّ سوريا عام 1936 للمطالبة بإلغاء الانتداب، والإفراج عن الوطنيين الذين اعتقلتهم سلطات الانتداب، تم الاتفاق على عقد معاهدة بين سوريا وفرنسا، فكان فارس الخوري نائباً لرئيس الوفد الذي سافر إلى باريس لتوقيع معاهدة الاستقلال التي لم يطبق بنودها الفرنسيون، بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية في خريف عام 1939.  وفي عام 1945  ترأس فارس الخوري الوفد السوري الذي كُلّف ببحث قضية جلاء الفرنسيين عن سوريا أمام الأمم المتحدة، التي تم تأسيسها في نفس العام، حيث اشترك الخوري بتوقيع ميثاق الأمم المتحدة نيابة عن سورية كعضو مؤسس.

انتُخب فارس الخوري رئيساً للمجلس النيابي السوري مرة أخرى عام 1943، كما تولى رئاسة مجلس الوزراء ووزارتي المعارف والداخلية  عام 1944، وكان أول مسيحي يتولى رئاسة حكومة في سورية. وقد كان لتولي فارس الخوري رئاسة السلطة التنفيذية في سورية صدى واسع، فقد كتبت الصحف: “…إن مجيئه إلى رئاسة الوزراء، وهو مسيحي بروتستانتي يشكّل سابقة في تاريخ سورية الحديث، بإسناد السلطة التنفيذية إلى رجل غير مسلم، ممّا يدلّ على ما بلغته سورية من النضوج القومي، ويدلّ على ما اتصفت به الدولة من حكمة وجدارة”.

خلال ترؤسه أول حكومة عام 1944، كانت دائرتا الأوقاف والإفتاء تتبعان لرئيس الحكومة، أي وجد نفسه مسؤولاً عن الأوقاف الإسلامية، واحتراماً منه لمشاعر الأغلبية من السوريين، فوّض فارس بيك صلاحيات رئيس الحكومة في إدارة دائرتي الأوقاف والإفتاء إلى وزير العدل، لإيمانه بأهمية المعرفة والاختصاص، وضرورة احترام المشاعر الدينية. لم يكن رجل شعارات ووحدة وطنية كاذبة، بل كان أستاذاً في حسن التصرفات وهذا ما جعله موضع ثقة كل السوريين.

أعاد فارس الخوري تشكيل وزارته ثلاث مرات، في ظل تولي شكري القوتلي رئاسة الجمهورية، ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍وانتُخب بين عامي (1947ـ 1948) عضواً في مجلس الأمن الدولي، كما أصبح رئيساً له في آب 1947، وعاد فارس الخوري إلى بلاده بعد انتهاء عضوية سورية في مجلس الأمن الدولي، لكنه ثابر على عمله في الحقل الدولي، وترأس الوفود السورية إلى هيئة الأمم، وقد منحته جامعة كاليفورنيا (الدكتوراه الفخرية) في الخدمة الخارجية اعترافاً بمآثره في حقل العلاقات الدولية.

حين وقع انقلاب حسني الزعيم في شتاء عام 1949، كان فارس الخوري هو رئيس مجلس النواب، وكان الزعيم قلقاً من موقف المجلس إزاء شرعية الانتخاب، بعد أن اعتُقل الرئيس القوتلي، ورئيس وزرائه خالد العظم، وقت أفتى الخوري حينها أن الحكومات الفعلية التي تنبثق عن الثورات أو الانقلابات يعترف عليها الفقه الدستوري باعتبارها حكومات مؤقتة، ريثما تتوفر سبل إجراء استفتاء للشعب، فأعطى بذلك الثقة للزعيم، كي يعطل الدستور ويحل البرلمان، وأغلق المجلس أبوابه  دون أن يعترف به وبحكومته، ودون أن يصطدم معه في الوقت ذاته.

كان موقفه من انقلاب الزعيم مثالاً على حنكته السياسية في الأزمات، وعلى قدرته على النأي بنفسه عن الأزمات، دون التورط بمواقف تتنافى مع القانون الذي يدرّسه ومع قناعاته التي يبطنها، وربما اتخذ الموقف نفسه من الوحدة بين مصر وسورية… ومن فرحه بالانقلاب الذي أودى بها، والذي قال الإعلام الناصري حينها، إن الانفصاليين زوّروا مواقفه، في حين كانت الحقيقة غير ذلك.

كان فارس الخوري أستاذاً في القانون وفي السياسة، وفي إدارة الأزمات والمواقف، وقد صدق فيه قول القاضي والشيخ اللامع علي الطنطاوي: “تراه أبداً كالجبل الوقور على ظهر الفلاة لا يهزّه شيء، ولا يُغضبه ولا يَميل به إلى الحدّة والهياج، يدخل أعنف المناقشات بوجه طلق وأعصاب هادئة، فيسد على خصومه المسالك، ويقيم السدود من المنطق المحكم، والنكتة الحاضرة، والسخرية النادرة، والعلم الفياض والأمثال والحكم والشواهد، ويرقب اللحظة المناسبة حتى إذا وجدها ضرب الضربة الماحقة وهو ضاحك، ثم مد يده ليصافح الخصم الذي سقط، لا يرفع صوته ولا يثور ولا يعبس ولا يغضب، ولكنه كذلك لا يفرّ ولا يمل، وما رأيته يناقش أحداً إلا شبهته بأستاذ يناقش تلميذاً مدللاً غبياً، فأنت تلمس في لهجته ولكنته وبسمته وحكمته، صبره عليه وتملكه منه، وإشفاقه عليه”.

فائز الخوري: النائب والوزير والسفير

 رغم أنه لم يحظَ بشهرة شقيقه الأكبر فارس الخوري، وما يُذكر به من أدوار ومناقب في كل مفاصل التاريخ السوري المعاصر، إلا أن فائز الخوري لعب كذلك أدواراً بارزة في التاريخ السوري، سواء كحقوقي أو كوزير للديبلوماسية، أو كسفير لسورية في زمن كان فيه السفراء يمثلون وجه الدولة الناهضة والشعب العريق، لا وجوه التسلّط  المخابراتي والفساد الحكومي.  

 ولد فائز الخوري في الكفير بإقليم حاصبيا عام 1895، وهو يصغر شقيقه فارس ب 18 عاماً.  درس القانون في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم  في معهد الحقوق في إسطنبول، وفي نشاطه السياسي انتمى إلى المنتدى الأدبي المعارض، فقُبض عليه، ومثل أمام المدعي الحربي في عاليه عام 1916، ثم أُطلق سراحه لصغر سنه.

في عهد الانتداب الفرنسي على سورية، أسهم فائز الخوري، وكان أستاذاً للقانون الروماني في الجامعة السورية، في الجمعية التأسيسية التي أُنيط بها وضع دستور للبلاد عام 1928، لكن إغفال إقرار امتيازات لسلطات الانتداب في مواد الدستور، دفع بالسلطات الفرنسية إلى حل الجمعية التأسيسية، وإضافة مواد دون موافقة القانونيين السوريين.

على أن النشاط السياسي الأبرز لفائز الخوري في عشرينات القرن العشرين، انطلق مع انتسابه إلى الكتلة الوطنية التي أسسها شقيقه مع هاشم الأتاسي، ثم فوزه بانتخابات عام 1936 البرلمانية، ودخوله مجلس النواب نائباً عن دمشق، ورغم أن تجربته في تقلّد أول حقيبة وزارية في حكومة لطفي الحفار في شباط 1939 لم تعمّر طويلاً، إذ سقطت الحكومة التي كُلّف بها بوزارة الخارجية والمالية بعد عدة أسابيع، إلا أنها فتحت الباب واسعاً أمام تزعمه للديبلوماسية السورية، حيث تقلّد وزارة الخارجية في حكومة حسن الحكيم عام 1941، خلال الحرب العالمية الثانية، ثم في حكومة حسني البرازي (نيسان 1942- كانون الثاني 1943)، ثم في حكومة جميل الألشي التي عاصرت وفاة رئيس الدولة تاج الدين الحسني، وتسلم رئيسها رئاسة الدولة بالوكالة حتى آذار/مارس 1943، وكان هذا آخر عهد فائز الخوري بالوزارة، فقد ودّع الحقائب الوزارية ليحمل الحقائب الديبلوماسية سفيراً لسورية في أهم دول العالم:

  • الاتحاد السوفييتي في عهد رئيس مجلس الرئاسة الأعلى (كالينين)، والزعيم ستالين عام 1943.
  • الولايات  المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس هنري ترومان عام 1947.
  • بريطانيا في عهد الملكة إليزابيت عام 1952، وحتى قطع العلاقات الديبلوماسية بين سورية وبريطانيا احتجاجاً على العدوان الثلاثي على مصر في شتاء عام 1956.

إلى جانب النشاط السياسي مارس فائز الخوري العمل النقابي، فانتُخب نقيباً لمحاميي دمشق مرات عدة بدءاً من عام 1934، وانتهاء بعام 1938، كما مارس نشاطاً تعليمياً رفيعاً، فانتُخب عميداً لكلية الحقوق عام 1939، وترك عدة مؤلفات أهمها: مقابلة الحقوق الرومانية، والحقوق الإسلامية، والفرنسية، والانكليزية، والحقوق الجزائية.

رحل فائز الخوري في عهد الوحدة بين مصر وسورية في السابع والعشرين من حزيران عام 1959، وهو لم يتجاوز الخامسة والستين عاماً، وقد شهد شقيقه فارس الخوري موته بحزن وأسى. ولا نجد في الواقع الكثير من المراجع أو الشهادات لمعاصريه عن شخصه وأدائه السياسي، لكن يمكن من خلال تقلبه بين عدد من الحكومات والعهود، وتنقله بين العمل النقابي والسياسي والتدريسي، أن نرسم صورة لسياسي شديد المرونة، لم تؤثر في مكانته كسفير حتى الانقلابات العسكرية المتتالية، لكن في إحدى المقابلات الصحفية النادرة التي أجراها مراسل جريدة (فلسطين) المقدسية في بيروت، ونُشرت بتاريخ 3/1/1946 يقول فائز الخوري عن ملابسات تأسيس السفارة السورية في موسكو، حين تم إرساله كوزير مفوض خلال ولاية الرئيس شكري القوتلي الأولى، ما يمكن أن يرسم صورة شخصية عن أدائه وقراراته:

“عندما عُيّنت وزيراً مفوضاً لسوريا في موسكو، كان اتفاقي مع وزارة الخارجية أن تكون مدة التعيين شهرين فقط، أؤسس فيها للمفوضية، ثم أعود. بقيت في روسيا شهرين، ثم عدت بناء على رغبتي إلى دمشق، وقدمت استقالتي من الوظيفة لأسباب شخصية بحتة، لا علاقة لها البتة بأمور السياسة. بعد استقالتي أصدرت وزارة الخارجية السورية مرسوماً بتعييني مديراً للوزارة، فقدمت استقالتي في ذلك النهار الذي صدر فيه المرسوم، وعلى إثر ذلك عدت إلى تعاطي مهنتي في المحاماة، وأنا اليوم حر من الوظيفة، أستلم الدعاوى وأدافع عن موكليّ”.

سهيل الخوري: النائب والوزير الانفصالي

هو النجل الوحيد لفارس بك الخوري من زوجته الفلسطينية أسماء جبرائيل عيد ابنة مدنية عكا. ولد سهيل الخوري بدمشق عام 1912، ودرس في المدرسة العازارية، ثم نال شهادة بالحقوق من الجامعة السورية، قبل أن يسافر إلى فرنسا ليدرس الاقتصاد السياسي.  

عاد إلى سورية في أربعينيات القرن العشرين، ليعمل قاضياً في المحكمة العقارية، ومشاوراً حقوقياً لأمانة محافظة دمشق. انتسب سهيل الخوري إلى الحزب الوطني سنة 1946،  وفاز بالانتخابات النيابية وفي عام 1950 شارك في صياغة الدستور، وكان رئيس لجنة ضمّت تسعة أعضاء، بينهم مصطفى السباعي، سميت (لجنة الدستور)، وعُهد إليها بوضع مشروع الدستور تمهيداً لإقراره من قبل الجمعية التأسيسية، وقد خاضت تلك اللجنة نقاشات طويلة حول دين الدولة في الدستور.  كذلك نجح سهيل الخوري في الانتخابات النيابية عام 1954  نائباً عن دمشق أيضاً، وكان وجهاً متنوع الحضور، فكان عضواً في مجلس إدارة إذاعة دمشق، وسكرتيراً لغرفة صناعة دمشق، إلى جانب رئاسته للجان رياضية ونشاطات رياضية أخرى.

مثل كثير من أفراد العائلة لم يمارس سهيل الخوري نشاطاً يُذكر في عهد الوحدة بين مصر وسورية، وما إن وقع الانفصال الذي أودى بدولة الوحدة، حتى أيّد سهيل الخوري “الحركة المباركة”، كما أُطلق عليها في الصحافة السورية آنذاك، ورشّح نفسه للانتخابات نائباً عن دمشق سنة 1961، كما تم اختياره وزيراً للشؤون البلدية والقروية في حكومة معروف الدواليبي التي شُكلت في كانون الأول/ ديسمبر 1961.

وعند وقوع انقلاب الثامن من آذار الذي استولى على السلطة بالقوة،  طبق الانقلابيون البعثيون العزل المدني على سهيل الخوري، وعشرات من رجال الحكم والسياسة والصحافة، بتهمة تأييد ما أسموه “جريمة الانفصال الأسود”، فمُنع من العمل في الشأن العام، ومن التوظّف أو التعاقد مع الدولة، فانصرف عن عالم السياسة التي ضاقت هوامشها، حتى انعدمت كلية مع انقلاب حافظ الأسد عام 1970، وانصرف إلى أعمال الطائفة الإنجيلية التي ينتمي إليها، فأصبح نائباً لرئيس المجمع الأعلى، ونائباً لرئيس محكمة الطائفة، وتوفي في دمشق عام 1992.

كوليت خوري: من مجلس الشعب إلى المستشارة الثقافية

 كان سهيل خوري آخر الرجال المحترمين في أسرة الخوري السياسية، من الذين مارسوا السياسة بهوامشها الحقيقية، وقد رحل تاركاً ابنته الأديبة كوليت خوري، تعمل على إصدار مذكرات جدها (أوراق فارس الخوري) في أجزاء، وتتابع شق طريق مختلف إلى مجلس الشعب الذي غدا الدخول إليه قراراً أمنياً وسلطوياً، تقرره أجهزة المخابرات لا أصوات الناس، فدخلت هذا المجلس “كنائبة مستقلة” لدورتين متتاليتين بين عامي (1990- 1998)، وبعد توريث بشار الأسد الحكم الجمهوري خلفاً لأبيه عام 2000، جرى تعيينها مستشارة ثقافية لرئيس الجمهورية عام 2006.

حبيب كحالة: عميد الصحافة السياسية الساخرة

 كانت كوليت خوري في مجالسها الخاصة تفخر بخالها الصحفي حبيب كحالة، بنفس مقدار فخرها بجدها فارس بك. والحق أن حبيب كحالة غدا مصدر فخر لكثير من السوريين الذين عادوا في السنوات العجاف لحكم البعث الذي أجهز على أرقى مدرسة صحفية عرفها العالم العربي، ليروا معنى الممارسة السياسية الحرة في الصحافة الساخرة، كما جسدتها مجلة حبيب كحالة التاريخية الأشهر: “المضحك المبكي”.

ولد حبيب بن جرجي كحالة في دمشق عام 1898، وكان والده يعمل حرفياً في سوق الصاغة، تلقى علومه الابتدائية في المدرسة الآسية الأرثوذكسية بدمشق، ثم درس التجارة والاقتصاد في الجامعة الأمريكية في بيروت وتخرج منها عام 1918، وقد استفاد كحالة من أجواء الحرية والانفتاح في عهد الملك فيصل، فأسس بالاشتراك مع توفيق اليازجي جريدته الأولى (سورية الجديدة) التي صدرت في تشرين الأول / أكتوبر من عام 1918،  واستمرت بالصدور حتى عام 1926.

بعد اندلاع الثورة السورية عام 1925 عطل الفرنسيون جريدة (سورية الجديدة)  متهمين إياها بتهييج الرأي العام، ثم سُمح لحبيب كحالة بإصدارها مرة أخرى عام 1928، إلا أنه تقدم عام 1929 بطلب لإصدارها على شكل مجلة  فولدت (المضحك المبكي).

لم يمضِ عام على ولادة (المضحك المبكي)، حتى أصدرت السلطات في تموز من عام 1930 قراراً بتعطيلها، فقد تميزت بتناولها الحاد للأوضاع الداخلية، ولم توفر في نقدها اللاذع رئيس الجمهورية، أو رئيس الوزراء أو المفوض السامي، لكن حبيب كحالة احتال على قرار التعطيل بإصدارها باسم جديد هو (ماشي الحال)، وبنفس الحجم والشكل والأسلوب.

بعد جلاء الفرنسيين عن سورية، أصدر حبيب كحالة بالتزامن مع ترشيح نفسه للبرلمان جريدة باسم (دمشق)، وفاز بعضوية البرلمان عام 1947، لكن المضحك المبكي استمرت بخوض معاركها السياسية بقوة، وبعد بداية مسلسل الانقلابات العسكرية بانقلاب حسني الزعيم عام 1949 كانت المجلة تعطل عند كل انقلاب، ثم تعود للصدور، وأحياناً كان حبيب كحالة يوقف صدورها اختيارياً، فقد توقفت عن الصدور عام 1956، في ظل تنامي نفوذ المباحث  والمكتب الثاني في عهد عبد الحميد السراج، كما علقت صدورها في زمن الوحدة السورية المصرية.

في عهد الانفصال عادت (المضحك المبكي) للصدور، وبدأت بنشر أوراق فارس الخوري الذي كان قد رحل مطلع العام 1962، وقد قدّم لها حبيب كحالة بالقول: “إذا كانت قيمة المذكرات السياسية تقاس بقيمة أصحابها، فإن مذكرات المغفور له أستاذنا الكبير فارس الخوري تعد أثمن مذكرات في البلاد العربية”.

لكن المجلة عادت فعلقت احتجاجاً على  إهانة وجهت من قائد قوى الأمن الداخلي.. وربما لهذا السبب نجت من الإغلاق النهائي بعد انقلاب حزب البعث في الثامن من آذار عام 1963، إذ اعتبرت مناوئة لحكم الانفصال.

راقب كحالة الحياة السياسية في ظل البعث، خلال عام من المصادرة والقمع وحالات المنع وإغلاق الصحف وتأميم البنوك والشركات وتكميم أفواه السياسيين وطردهم خارج البلاد، ولهذا لم يسكت على ما رآه من مصادرة البعثيين للحياة السياسية، فكتب في الذكرى الأولى لثورتهم يقول:

 “كم أتمنى في هذا العيد أن أسمع رجالاتها يعلنون ويقولون، كما قال إبراهام لينكولن للذين جاؤوا إليه ليطالبوه بالقضاء على خصوم ثورتهم:  إننا نريد أن نقضي على خصومنا بجعلهم أصدقاء لنا، وكم أتمنى أن يقف أحد قادتهم مخاطباً السوريين، كما خاطب جيفرسون الأمريكيين قائلاً: أيها الإخوة الأمريكيون إننا اليوم بمحنة، فلنكن جمعينا جمهوريين وجميعنا لامركزيين”.

لم يحظَ حبيب كحالة بما تمناه، ورحل في التاني والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر عام 1965، بعد أن عطلت مجلته مرات عدة خلال السنتين اللتين عاشتهما من حكم البعث المضطرب.

رسم الصحفي السوري المخضرم غسان الإمام صورة لأسلوب ممارسة حبيب كحالة في مقال له عن تجربة المضحك المبكي، نشره في (الشرق الأوسط) عام 2015، فقال:

“كان حبيب يكتب دعاباته. ويحرر مجلته، وهو في سريره. ثم يرتدي طربوشه. وبزته الأنيقة، ويطوق عنقه بعقدة (البابيون)، ثم يذهب إلى النادي، ليسهر مع الساسة الذين داعبهم، أو يستقبلهم في منزله. فهم يعرفونه منذ أن أصدر (سوريا الجديدة) صحيفته السياسية اليومية في عام 1918 في عهد الدولة الفيصلية المستقلة. (….) حبيب كحالة صحافي ساخر، وكاتب جاد، خرج من مجلس النواب، ليؤلف كتاباً (مذكرات نائب) عن أسرار الحياة النيابية والسياسية، وذهب في غضبه ومرارته، إلى حد التشكيك في قيمة الديمقراطية، مركزاً على العامل الثقافي في تهيئة العرب للقبول بالمبدأ الديمقراطي”.

سمير حبيب كحالة: من الصحافة إلى النقابة إلى المنفى

 آخر عنقود هذه الأسرة السياسية، فقد كان سياسياً درس الحقوق، ورسام كاريكاتير لامعاً عشق الصحافة والسياسة معاً، تولى رئاسة تحرير مجلة (المضحك المبكي) بعد وفاة أبيه، وقد أثارت رسومه الانتقادية لحكم البعث، غضب السلطات الانقلابية  فصدر توجيه شفهي بإغلاق (المضحك المبكي) في التاسع والعشرين من أيار عام 1966، واعتُقل سمير كحالة في (كركون الشيخ حسن) بدمشق لمدة شهر.

بعد خروجه من السجن، انصرف سمير كحالة لممارسة مهنة المحاماة، كان سمير كحالة يترأس مجلة نقابة المحامين، وكان واحداً من أربعة محامين يتقدمهم هيثم المالح، صاغوا مشروع القانون الذي قُدّم لنقابة المحامين عام 1979، والذي يطالب بإلغاء قانون الطوارئ وإطلاق المعتقلين. وبعد مماطلة السلطة في تنفيذ المطالب، أعلن المحامون الإضراب العام، وتبعهم باقي النقابات المهنية، فأصدر حافظ الأسد قراراً بحل النقابات المهنية، وتعليق مجالسها المنتخبة. وقد نالت نقابة المحامين النصيب الأكبر من غضب حافظ الأسد، فاعتُقل عشرات المحامين. نجا سمير كحالة من الاعتقال، وغادر سورية إلى باريس ليعيش أكثر من أربعة عقود من عمره هناك حاملاً ذكريات زمن المضحك المبكي بمرارة، وصور سياسيي سورية، وسياسيي عائلته العريقة في الذاكرة والوجدان.

تقدم لنا أسرة الخوري- كحالة، نموذجاً للأسرة السياسية العريقة التي خاضت في معترك السياسة بحرفية وأستاذية، حتى إذا ما كان عهد القمع والاستبداد احتفظت بأصالتها، وبقيت أمينة لإرثها، فدفعت أثماناً في مقاومة الاستبداد حيناً، وانزوت في صمتها النبيل المترفع حينا فحق علينا أن نتذكرها ونذكرها في السجل الذهبي للعائلات السياسية في التاريخ السوري.

_________________________________________

من مقالات العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري – آب / أغسطس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى