الرأي العام

المقال الذي لم يُنشر في جريدة الثورة السورية

المقال كان نقدًا لرثاثة السلطة السابقة في الشعارات والرموز القبيحة التي ناضلت من أجل تكريسها، لكن الرثاثة يبدو أنها تُورَّث، وهي لا تحتاج إلى مجهر لرؤيتها

خلف علي الخلف – العربي القديم

العنوان وحده يصلح خبرًا مكتمل الأركان، بل درس تطبيقي في «الإعلام الوطني الجديد» الذي لا يرد، لا يعتذر، ولا يملك حتى شجاعة الرفض.

أما الحكاية فتقول: أرسلتُ مقالًا بعنوان “نظام الرثاثة: سلطة صنعت من القبح وعاشت فيه” عبر صديقة للنشر في جريدة الثورة السورية، وهي كاتبة في تلك الجريدة، وقد أرسَلتْه بالطريقة نفسها التي تُرسل من خلالها مقالاتها، لا عبر الحمام الزاجل كي يُقال إنه ربما لم يصل الجريدة.

كنتُ مترددًا أصلًا في إرسال المقال إلى جريدة رسمية لما تحمله الصحافة الرسمية في ذهني من ذاكرة سيئة تثير الكوابيس في بعض الأحيان، لكني حسمت أمري وقلت: من حقنا، بل من واجبنا، أن نكتب في صحف بلادنا، لا من موقع الاستئذان؛ فهي ملكية عامة، بل من موقع الشراكة في الشأن العام، ومن موقع حقنا في أي مؤسسة ممولة من المال العام. والجريدة اسمها «الثورة السورية»، لا «نشرة العلاقات العامة لوزير الإعلام».

والحقيقة أني تشجعت لإرسال المقال بعد رؤيتي كاتبين ممن أعرفهم لا يكتبون تطبيلًا للسلطة، دعوهم للكتابة في تلك الجريدة، وكذلك إجراء جريدة الثورة في وقت سابق، بعد إسقاط البائد، لقاءً مطولًا معي، كان الأول لي خلال حياتي في مطبوعة سورية رسمية، كما نشرت الجريدة أخبارًا عن إصداراتي وإصدارات دار «جدار للثقافة والنشر» التي أديرها أكثر من مرة، وهو ما قدّرته عاليًا.

وكي لا أظلم أحدًا، طلبت من صديقتي، وهي كاتبة صحفية، أن ترسل لهم سؤالًا واضحًا: هل سينشر المقال؟ لم يصلها أي رد، لا بالقبول ولا بالاعتذار. صمتٌ رسميٌّ أنيق، يليق بمؤسسة يفترض أنها وُجدت لتتواصل، فإذا بها تتقن فن الاختفاء.

إن مجرد حصول ذلك يشير إلى الأداء الرثّ الموروث في التعامل مع الكتّاب، وهو أمر لم أعتده طوال سنوات طويلة من الكتابة؛ إذ لم يسبق أن أرسلتُ مقالًا إلى جهة مهنية محترمة ولم يُنشر أو تُردّ على الأقل، لكني أكتب منذ بدأت الكتابة في أماكن نشر غير سورية. والمقال الوحيد الذي نُشر لي في حياتي في مطبوعة رسمية سورية قبل ذلك كان بدعوة كريمة من العزيز محمد منصور، حين خصّص عددًا مهمًا من مجلة *الموقف الأدبي* لتجربة حزب البعث، والذي عنونته بـ “البعث من فكرة إلى ماركة سلطوية”، وكان ذلك قبل الانقلاب عليه بإنزال مظلي، وإقصائه من رئاسة تحرير المجلة، واستقالته من المكتب التنفيذي لاتحاد الكتّاب العرب في حينها لأسباب تتعلق بطريقة إدارة الاتحاد من رئيسه الجديد.

من يتابعني يعرف أنني كاتب مقلّ في المقالات، وليس لدي أي مشكلة في النشر على الإطلاق، خصوصًا أني أكتب عمومًا بلا مقابل، ولم أعتد إرسال موادي إلا إلى منصات مهنية تحترم الكاتب ولا تتدخل فيه رقابيًا، وفي العموم يُستقبل مقالي بالترحيب، بل أزعم أني كاتب يحظى بالمقروئية.

فكّرت طويلًا في سبب عدم نشر المقال! فكما أوضحت، الجريدة وأركان “قيادتها” لم يكن لديها مشكلة معي، لا عامة ولا شخصية، وكذلك لا يوجد مشكلة في المقال نفسه، فهو نقد من زاوية جديدة للبائد، من زاوية رثاثة ذلك “النظام”. فالمادة إذن، من حيث مضمونها، مرحب بها.

بعد البحث والتقصي في تلافيف دماغي، وجدت أن الأمر يتعلق بمواقف سابقة لي؛ نقدتُ فيها وزير الإعلام حين تدخّل في قضية قانونية لا تدخل في صلب عمله، وحظي منشوري حينها بانتشار وتضامن واسع.

وكذلك تصفية حسابات سابقة تتعلق بموقفي النقدي المعروف من تجربة «تلفزيون سوريا» القطري وإدارته الرثّة، وما رافق ذلك من تصريحات مهينة بحق صحفيين سوريين لمجرد أنهم انتقدوا الأداء، الأمر الذي اضطرّنا إلى إصدار بيان من «رابطة الكتّاب والصحفيين السوريين» المؤسسة في السويد، ندين فيه هذا السلوك المشين بحق الصحفيين السوريين؛

كما لا يمكن ألا يخطر في بالي نقدي الدائم للدور الذي لعبه مؤسِّس ومموّل تلفزيون سوريا القطري في السيطرة على التمثيل الإعلامي للثورة السورية، وتشكيل جيوش من الصامتين عن النقد لأجل لقمة العيش، إن لم نقل المطبلين.

وبغضّ النظر عمّا إذا كان قرار عدم النشر قد جاء بتدخّل مباشر من الوزير، أو بقرار ذاتي من هيئة تحرير رأت أن نشر مقال لكاتب ينتقد وزيرها «غير مناسب»، فإن المشكلة أعمق من مقال لم يُنشر. إذ أن عدم النشر جاء بعد نقدي بشكل عادي وطبيعي لوزير الإعلام، إذ قبل ذلك كان مرحبًا بي في الجريدة نفسها، لكن يبدو أن النشر مشروط: أهلًا بك ما دمت لا تقترب من الوزارة، ولا تمس الوزير، ولا تذكّر الصحيفة بأنها ليست دائرة تابعة لمكتب العلاقات العامة للوزير ويمولها من جيبه الخاص.

المقال كان نقدًا لرثاثة السلطة السابقة في الشعارات والرموز القبيحة التي ناضلت من أجل تكريسها، لكن الرثاثة يبدو أنها تُورَّث، وهي لا تحتاج إلى مجهر لرؤيتها في وزارة الإعلام السورية، بعد الحقبة البائدة.

فالرثاثة واضحة في أداء وزير الإعلام نفسه، وهي واضحة كذلك في التعيينات الإدارية التي نَقلت كوادر من «الطاقم الناجح» في تلفزيون سوريا القطري إلى مفاصل وزارة الإعلام ومنصاتها، أي أنها تعيينات أعادت تدوير الفشل من مكان إلى آخر، وأعادت تسويقه باسم الخبرة.

الرثاثة واضحة في الأداء الإعلامي المرتبك والمخجل، وفي الخلط بين الإعلام العام والإعلام الدعائي، وفي ضعف المهنية الصحفية، بل وانعدامها في بعض الأحيان.

عزيزي وزير الإعلام،

الثورة التي أسقطت نظامًا مجرمًا لم تفعل ذلك كي تستبدله بسلطة تضيق بالنقد، وتحتل المؤسسات العامة وتديرها كأنها ملكية شخصية، فالإعلام ليس مكافأة على أدوارٍ سابقة، ولا ذراعًا شخصية لك أو حتى للسلطة كلها، بل فضاء عام، ومنصّة للمساءلة، واختبار دائم لصدق التحوّل.

إن وزارة الإعلام؛ وزارة فائضة عن الحاجة في كل الدول التي تريد إعلامًا حرًا، والمؤسسات الإعلامية ذات الملكية العامة لها هيئات مستقلة عن السلطة، لكن بوجودها عليك أن تعلم أنها ليست مؤسسة تُدار وفق أهوائك أنت ومن معك؛ فالكرسي الذي تجلس عليه دفع السوريون ثمنه مليون شهيد، ومئات آلاف القتلى تحت التعذيب، ومغيبين قسرًا، دفعوا ذلك من أجل الحرية، لا من أجل إنشاء مؤسسات شخصية لك أو لغيرك.

إن لم يكن في هذا العهد متّسع لنقد يطال «الدولة» ومؤسساتها ووزراءها ورئيسها، فالمشكلة ما تزال قائمة، وعليك أنت وغيرك أن تصححوا في أذهانكم معنى الدولة، ومعنى الإعلام، ومعنى الثورة ذاتها.

عزيزي وزير الإعلام،

عمري جاوز نصف قرن، وأنشر منذ نحو ثلاثين عام، ولدي نحو عشرين كتاب، ولم أمر بمؤسسات السلطة البائدة؛ وأستطيع العيش نصف قرن آخر، وأنشر خمسين كتاب آخر، دون المرور بوزارتك ومؤسساتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى