أرشيف المجلة الشهرية

أورينت الشجاعة والباقي تفاصيل

عقيل حسين – العربي القديم

عند تقييم مؤسسة ما، لا يجب أن يغيب عن ذهن من يقيمها طبيعة عمل هذه المؤسسة، وهل نجحت في القيام بما وجدت من أجله، وما هي نسبة النجاح الذي حققته، سواء كانت هذه المؤسسة إعلامية أو خدمية أو غير ذلك، بعدها يصبح كل شيء تفاصيل إضافية أو جانبية وأحياناً هامشية، مع أهمية عدم تجاهل هذه التفاصيل، بل وضرورة الاستفادة منها.

فمثلاً تلفزيون المستقبل، الذي يقال إنه على وشك العودة للعمل، حقق نجاحات كبيرة خلال مسيرته، على الرغم من كل المشاكل التي شابت سنوات هذا العمل، من فساد أحياناً، وظلم للموظفين في بعض المراحل، وخروقات مهنية الخ.

القاعدة نفسها يجب أن تطبق برأيي على المؤسسات من كل القطاعات عند تقييمها، ففساد مدير، أو تعثر آخر، أو فشل فرع فيها، أو سقطة مسؤول داخلها..الخ، كل ذلك لا يجب تجاهله مؤكداً، لكن لا يستقيم أن يكون هو معيار الحكم الوحيد على المؤسسة، بل العنوان الأول للتقييم هو مدى النجاح الذي حققته في حقلها..في ما كان يجب أن تقوم به.

من هذا المنطلق لا يمكن القول سوى أن (أورينت) قامت بمهامها بشكل جيد جداً بالمجمل، فهي مؤسسة إعلامية معارضة وثورية، استطاعت أن تمثل الثورة، بل وكانت مرآة الثوار بكل مراحلهم، وتقلباتهم وتحولاتهم وأخطائهم ومشاكلهم، لكن الأهم أنها كانت مثلهم بالشجاعة، وهذا أهم ما ميزها.

في نهاية عام ٢٠١٣ بلغت الهجمة الشرسة التي شنها تنظيم داعش على الناشطين الإعلاميين ذروتها، فاختطف وقتل وطارد الكثيرين منهم، لكنه وضع كوادر أورينت على رأس أهدافه.

وقتها تواصل مجموعة من مراسليها في مختلف المحافظات، واتفقوا على مخاطبة إدراتها من أجل تعليق الهجوم على التنظيم بهدف امتصاص هذه الهجمة، لكن المدير العام للمؤسسة غسان عبود، رد بالقول: “إن هذه ثورة على كل أعداء الشعب السوري، ومن يخاف فليستقل، أما أورينت فلن تتغير”.

في الواقع أعجبني هذا الكلام، لكنني التزمت بتعهدي لبقية الزملاء الذي وقعوا الرسالة واستقلت.

اعتقدت أن منسوب الاندفاع الذي نمّته في داخلي (أورينت) سينخفض، وسأكون بعد الاستقالة منها أكثر تروياً، لكن هذا لم يحصل، وما حصل أنني بت أكثر تحرراً من قيود الانتساب لهذه المؤسسة، عندما انتقد أو أهاجم أي جهة في المعارضة؛ لأن أحداً لن يستطيع أن يتهمني، وقد استقلت بأنني أفعل ذلك تساوقاً مع ما تريده أورينت أو إدارتها.

ستمر بعد ذلك سنوات على أورينت، وأنا بعيد عنها، كانت خلاله تتألق رغم كل الضغوط المالية والسياسية، ورغم نزيفها الحاد على صعيد الكوادر التي كانت تغادر المؤسسة بسبب مشاكل عانتها أيضاً، إلا أنها استطاعت أن تحافظ على ريادتها رغم كل ذلك.

عندما عدت إليها عام ٢٠٢١، كانت أورينت في موقف تنافسي صعب على صعيد التمويل والإمكانات، أضف إلى ذلك أنها انتقلت بشكل كامل للعمل في تركيا، البلد الذي بدأ يضيق ذرعاً بالسوريين، ولم يعد ذلك الحضن الذي آمنهم قبل ذلك، ليضاف تحدياً جديداً إلى عمل أورينت، وهو التصدي للانتهاكات التي يتعرض لها السوريون هناك.

وبشجاعتها التي لم تفرط بها، تصدت أورينت لهذه المهمة التي ضاعف من صعوبتها الخلافات الحادة بين دولة الإمارات (مركز أعمال صاحب المؤسسة)، وبين تركيا، فلم يتوانَ الكثير من المتضررين من شجاعة أورينت عن اتهامها بالعمالة لتلك الدولة، وتنفيذ (أجندة عدائية) ضد تركيا والثورة، بعد أن طبّعت أبو ظبي مع دمشق كما هو معروف.

مع ذلك لم تتراجع أورينت قيد أنملة عن شجاعتها، لدرحة أنني كنت أحاول التدخل عند الإدارة للتخفيف من حدة بعض المواد خشية عليهم، فأنا بالنهاية خارج تركيا وهم داخلها، لكنني في كل مرة أفاجأ بعزيمة الزملاء، واستعدادهم لدفع أي ثمن مقابل الدفاع عن كرامة السوريين وحقوقهم.

عندما أردت كتابة هذه المادة، حضرت في ذهني الكثير من المواقف واللحظات التي تستحق أن تروى عن تجربتي مع أورينت، وعن شجاعة كوادرها، لكن كل المواقف ظهرت لي مجرد تفاصيل، وتراجعت أهميتها أمام العنوان الأبرز لتجربة أورينت ككل، وهذا العنوان هو (الشجاعة).

شجاعة أورينت جعلت محبيها وكارهيها يحترمونها..

هاجمها كثير من الأخوة الكرد، عندما اعتقدوا أنها ضدهم بسبب تركيزها على انتهاكات حزب العمال الكردستاني، ثم بكوها بعد أن دافعت عنهم بمواجهة الانتهاكات التي تعرضوا لها على يد بعض فصائل المعارضة.

وهاجمها الإسلاميون، عندما اعتقدوا أنها تهاجم فصائلهم؛ لأنها علمانية تكره الإسلاميين، ثم ودعوها بحسرة بعد أن أيقنوا أنها تكره جرائم وتجاوزات من يقولون إنهم إسلاميون.

هاجمها الثوار والمعارضون من أبناء الطوائف الأخرى واتهموها بالطائفية، لكنهم أقروا بالنهاية أنها حاربت طائفية كل الطائفيين المقنعة والمعلنة.

وحدهم الفاسدون لم يحزنوا على أورينت، عندما أغلقت أبوابها، أما أخطاء أورينت التي لا يمكن تجاهلها بالفعل، فقد بدت بعد إغلاقها مجرد تفاصيل بالفعل أمام هذا الفراغ الذي خلفته، والذي ما زال يتفاقم بسبب العجز عن ملئه، حتى الآن إلى الحد الذي يتألم أمامه حتى من كان يشتمها!

نعم، عملت أورينت بشجاعة ..نجحت بشجاعة ..أخطأت بشجاعة ..هاجمت بشجاعة ودافعت بشجاعة، وإن كانت قد تركت شيئاً لا يُنسى، فقد تركت تاريخاً ثورياً حقيقياً مليئاً بالشجاعة.

_________________________________________

 من مقالات العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت – تشرين الثاني/ نوفمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى