حكايا من الذاكرة: حبّابَة مطره
صالح الحاج صالح – العربي القديم
بدايةً لم يعرفها أحد باسمها هذا، بل باسمٍ آخر ” كَنْهورة ” وهو اسمٌ بديل شاع لفرادته، ربما. أمّا اسم مَطْره الذي ولدت به غاب، تم نسيانه، ضاع واختفى! ولم يكتشف إلا بعد بحثٍ وسفرٍ بين عدة بلدات، وتنقيب مضني في سجلات النفوس.. والغريب في الأمر أنْ لا هي، ولا غيرها، كان يعرف أنّ لها اسم آخرغيراسم كنهورة كي يُسَّهِل عملية البحث.
لكن بعد سنواتٍ وسنوات من زواجها وإنجابها دزينة من الأولاد، ذكوراً وإناثاً، كان أحد أبنائها الذكور زميلنا في المدرسة الابتدائية، وقد احتاج لوثيقة رسمية “إخراج قيد” ليتفاجأ الجميع أن أُمُّه غير موجودة في الدنيا أصلاً، وأنّ أباه لم يتزوج أمه، وأنها لم تُنجب أياً من بناتها وأبنائها! وبعد جهدٍ ووقتٍ طويلين تبيّنَ أنها مسجلة في دائرة نفوس أخرى لأبويها باسم “مطره” أما اسمها البديل “كنهورة” الذي يعني قاموسياً قطع السحاب العظيمة مثل الجبال المتراكمة الثقيلة والبيضاء المحملةِ بالمطر، فلا أحد يعرف أنّ من أطلق عليها اللقب، الاسم البديل، ولا يدري بالارتباط بين اسمها المفقود واسمها الذي عرفت به، أم أنّ الأمر مجرد مصادفة.
وهذه المصادفة ليست هي المصادفة الوحيدة المرتبطة باسمها الذي عُرفت به، فقد كان هناك انطباع تكوّن في ذاكرتنا، نحن الصبية، تركه تعبيرٌ محلي كان يتردد على أَلسِنَة أمهاتننا وحبباباتنا بقولهن ” كَنْهَرَتْ الدُّنيا ” أي اسودت وأَظلمتْ في عزّ النهار، وسيتبعها عجاجٌ يعمي العيون، حتى بات هذا القول، مرتبط بها من خلال الشبه باسمها، وأصبح بمثابة نشرة جوية في تلك الأيام، يوجب أخذ الاحتياط له.
الثبات في العمر والشكل
أما هي، بشخصها، بشحمها ولحمها كما يقال؛ فقد كانت ذات قامةٍ طويلةٍ نسبياً، نحيفة أشبه بمسمار طويل صدئ، ممسوحة الصدر، ورأسها دائماً وأبداً معصوبٌ بعصبة سوداء ماذرة اللّون، تخرج من بين طيات عصبتها عذوق شعرٍأَكرت بلون برتقالي من أثر الحنة، ولها عينين صغيرتين ممعوستين ينهمل منهما دمع بشكل دائم تتلقاه بممشة لا تفارق يدها أو تكون مشكولة بحزام الصوف الذي يحيط بجسمها النحيل عندما تكون يداها مشغولتين.. حزامها الصوفي هذا تتدلى منه شرشبتان ملونتان، وهما زينتها الوحيدة في وسط السواد الكالح لملابسها، يفصل بين عينيها العمشاوين أنفٌ طويل مرتفع غير منسجم مع ملامح وجهها، يقف ممدوداً فوق فم مزموم بالكاد تنسى تغطيته بطرف عُصبة الرأس لتخفي صف أسنانها الغير منتظم.
ولها في بالنا مع غيرها من عجائز الديرة صفة مشتركة، صفة الثبات في العمر والشكل مهما تقدمت بإحداهن السنون، هنّ هنّ، ملامح تأبى التبدّل والتغيّروكأنهن خلقن بهذا الشكل وسيبقين مقيمات به أبداً.. لكن ما يميزها عن بقية العجائزالمستسلمات لعجزهن، اللواتي تجدهن دائماً طيلة النهارعند عتبات الدورمتدثرات بأغطية في المشراقة أيام الشتاء، وفي الأظَلّة من بلوغ الشمس رأدِ ضحى حتى مغيبها طيلة أيام الصيف الطويلة، يعاينّ الرائح والغادي، وبالكاد ينتقلن من مكان إلى آخر دون عون.. فقط كانت أيديهن والسنتهن في حركة دائمة لا تستسلم للعجز. الأيدي تهش على ذباب ألحّ مشاركتهن كأس الشاي الدبق المرمي في متناول أيديهن، أوعلى كلب اقترب مستانساً بهنّ ليشاركهن التلطي في المشراقة والظل، وألسنتهن لا تهدأ من اسداء نصائح لايستمع إليها أحد، أما هي فقد كانت تجوب البرية من طلعة الشمس لمغيبها.. كانت راعية غنم.
لا معلّقة ولا مطلقة
وحال آخراختلفت فيه عن نساء وعجائز الديرة؛ فقد كانت إمرأة مهجورة من قبل زوجها أبو أولادها، لا معلقة ولا مطلقة، مُذْ كانت في منتصف عمرها، ويقال إنه – أي زوجها- آثرالهروب منها لصعوبة العيش معها.. كانت كفرسٍ شموس يصعب شكمها وترويضها.
أمّا أسوأ مآلٍ أصابها، خسارة الجزء الأكبر من “گاع” العائلة؛ فكلما مر ذِكر شيء عن الأرض، أي شيء وعن أيّ أرض في حديث عابرٍ أو مقصود، مثل موعد حراثة، بذار، تبوير..الخ وتكون حاضرةً وتسمع ما يدور، يَعِنُّ على بالها ضياع گاعها، وتبدأ بدقِ صدرها بأطراف أصابعها المضمومة على بعضها وتردد “ذوقني المرار.. ذوقني المرار ” تقصد أكبرأبائها الذكورالمتسبب في بيع الأرض لديون تراكمت بسبب عشقة وإدمانه سيكارة “البول مول” هكذا بكل بساطة، وأصل حكاية ذلك أنً أكبر أبنائها عشق غجرية، واشترطت عليه أن يشتري لها باكيت بول مول كي تُريه بياض صدرها، ومن لحظتها هام بالغجرية وبسيكارة البول مول وطلّق دخان اللّف. كسر صفط التتن ونثر دخانه وحلف يمين لن يدخن من هذا اليوم إلا “البول مول” من اجل البياض الذي رآه! وكرّس حياته بخداع أمه وبيع الأرض قطعة قطعة، لتأمين رأس مال للمتاجرة “بتتن القجق ” ولكن بالحقيقة رأس ماله وأرباحه كرسها لتأمين مونته من كروزات البول مول والتنقل وراء الغجر أينما حلوا وارتحلوا.
كانت ضعيفة البصر ولم تخفِ ذلك، تغلبت على ضعف بصرها، لم تتعثر لا في النهار ولا في الظلمة التي يتعثر فيها المبصرون. عصاها الطويلة التي لاتفارقها واحساسها بالمكان جعلاها مبصرة.
لكنها كانت دائمة الشكوى من ضعف السمع رغم الشّك في ذلك. تقول لمن يكلمها “ما اسمعك شتگول عَلّي صوتك.. سمعني” مما جعل من يخاطبها يكرر ما يقوله ، يرفع صوته عند أذنها كي تسمع. يزعجها هذا الصراخ ، تحرد أو تنبر بحدة معاتبةً “لا تصرّخ عليّ..ما ني طرشه ، تحسبني ما أسمع”.
سواء كانت تسمع أو لا تسمع، فهي أحد مصادرالأخبار والإشاعات والنمائم في القرية وحتى القرى المجاورة. كيف سمعت ومن أين سمعت لا أحد يعرف، وكانت النساء يلكزن بعضهن مع إماءه بالرأس إلى جهة قدومها “جَتْ/ جاءت ” عندها يبدأ التهامس فيما بينهن، تحرد من ذلك، وفي كل مرة تسمعنهن جملتها المعهودة “آني ما أسمع، آني طرشه، آني طرشه..ومن تشوفني تسكتن..” حالة حبابة كنهورة هذه بين الطرش وسماع دبيب النمل- كما يقال- أعيت الجميع، وبقي الجميع في حيرة هل كانت تسمع وتدعي الطرش أم هي فعلاً ضعيفة السمع ؟.. ماتت بعمر قارب التسعين عاماً وحملت سرها معها.
كانت رحمها الله، خفيفة الجدم، عفيفة النفس، لا تشعر بها إلا وهي عند كتفك أو بباب الدار، ومهما عزمت عليها عند حضورها والسفرة ممدود، بما هو متوفر، بالكاد تمد يدها، وتكفي بلقمتين تلقطهما بإصبعين عجفاوين بحجم ما يلتقطه عصفور.
نساء الرقة يحضرن البرغل – ثمانينات القرن العشرين
لن أبق تحت رحمة حدا
طيلة فترة حياتها التي عرفناها كانت ترعى قطيعها الصغير من الأغنام والماعز، حتى أصبحت لها رائحة أغنامها وماعزها، كنا نراها في مختلف الجهات في نفس الوقت، وأينما اندرتْ ستراها تسوق قطيعها الصغير أو تتقدمه على التخوم بين الأراضي والحقول وعلى الدروب بين القرى، نراها أحياناً متكئة على عصاها بغفوة صغيرة يلتف حولها قطيع صغيرعلى طرف أراض مزروعة بالقمح أو الشعير، تحسبها لأول وهلة فزاعة طيور، ولا تتبين أنها ليست ذلك إلا عندما يحرك الهواء طرف ثوبها، يرف قليلاً، تتحرك الفزاعة ويتبعها القطيع.
ورث أبناؤها مهنة الرعي وتربية الأغنام والخراف، جابوا المنطقة، جزيرة وشامية كما يقال، بعضهم سافر إلى السعودية والأردن ممتهناً حرفة الرعي حتى استطاعوا شراء قطعة أرض زراعية بنوا مملكة مشتركة مع والدتهم، واستعادوا حلمهم الضائع في الأرض التي ورثوها من أبيهم وأضاعها كبيرهم. زوجوا أنفسهم، واخلصوا لأمهم ، لكن لم تفلح كل الحيل والإغراءات التي قدموها للعانية بها، وأن تترك الرعي. تقول “لن أبق تحت رحمة حدا، تقصد زوجات أولادها، حتى تتصدق عليّ برغيف خبز أو حسوة لبن”.
رغم كبر سنها وبساطة عملها، كانت إلى حد ما كمصرف صغير مضمون يمكن الإقتراض منه بدون فائدة.من يحتاج لحالة طارئة بأخذ مريض إلى طبيب ، سواء من أولادها أو أياً كان من في القرية سيجد لديها قرضةٍ صغيرة اقتصدتها من بيع الخراف والسمن والبيض، تفك صرتها وتتلمس المصاري وتسأل: ها أخذت مية ولا ميتين. مزارعون عندما تشح امكانياتهم قبل جني الموسم يقترضون منها، ومن يقصده ضيف مفاجئ سيجد عندها خروف صغير أو ديك يقترضه، حتى النساء يقصدنها عندما ترقد لديهن دجاجة، يستعرن منها البيض المتوفر لديها بشكل دائم لزيادة عدد الصيصان.
تصوم ولا تصلي!
ولها قدرةً كبيرة على الصوم، قليل من استطاع مجاراتهأ عليه؛ فهي تصوم الفرض والسُنّة من شهر رمضان إلى ستة شوال. تصوم الليالي البيض من كل شهر ومنتصف شعبان، وتصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع، لكن لم يستطع أحد اقناعها بالصلاة، ليس لقلة إيمان، وإنما لعدم قدرتها على حفظ أي شيء. تقول: “الله يعرف إني لا أعرف، بس أنتم ادعُوا لي بزيارة الكعبة المشرفة”، وكان لها ذلك قبل وفاتها بسنوات قليلة، وعندما عادت من الحج ينقل عنها على لسان من زارها مباركاً لها بالحجة – طرفة قد تكون قيلت بحقها، وربما هي روت ذلك – أنها وهي تقص على زائريها مناسك الحج، قولها طفنا حول الكعبة وزرنا قبر سيدنا محمد وسيدنا إبراهيم ورمينا سيدنا إبليس بسبع حصوات! قيل لها يا حجة لا يقال عن إبليس سيدنا، هو الشيطان بعينه. أجابت: اش عرفني.. هناك كلهم أسياد؟
رحمها الله فقد كانت إمرأة بسيطة ومكافحة، فهي ومن مثلها لم يكتب بهنّ أشعار أويدعون إلى منبر، أو يقام لهنّ تمثال.