فنون وآداب

زياد الرحباني: اليساري الأخير الذي خانته الحقيقة

صمته في لحظات الحقيقة، أو اختياره الاصطفاف مع «الواقعية المسمومة»، جعله يبدو، في نظر كثيرين، في منطقة الخيانة لجيله ولأغنياته.

بقلم: محمد صبّاح * – العربي القديم

رحل زياد الرحباني، الموسيقار الذي لم يعش يوماً كما ينبغي، وترك وراءه إرثاً فنياً معقداً يشبهه تماماً : عبقرياً في نغمه، متناقضاً في مواقفه، ساخراً من كل شيء، بما في ذلك نفسه. مات زياد، الرجل الذي ظلّ حتى لحظته الأخيرة يتأرجح بين «أعلى الموسيقى» و«أدنى السياسات».

منذ بداياته، حمل زياد عباءة اليسار، ليس كناشط سياسي، بل كموقف وجودي. كان الصوت الذي يعترض على النظام، وعلى الفوضى، وعلى الحياة ذاتها، لكنه لم يحمل يوماً مطرقة لإعادة تشكيل هذا النظام، ولا ريشة لرسم بديل عن الفوضى. احتجّ كثيراً، لكنه لم يقترح مشروعًا. نقد العالم، لكنه لم يسعَ لتغييره. كان حالة فريدة من «الاحتجاج بلا مشروع»، وهو ما جعل حضوره جذاباً ومربكاً في آنٍ واحد.

زياد لم يكن مجرد موسيقي. كان مسرحياً، وفيلسوفاً، وناقداً ساخراً. ولكنه كان أيضاً، في عمق لعبته المسرحية، يحتال على جمهوره بقناع الحكيم الزاهد. يُلقي خطابات فلسفية مغلّفة بالسخرية، يضحك الناس ويحرّك وعيهم، ثم ينسحب قبل أن يُقدّم حلًّا. كان المهرّج الذي يقول الحقائق لا لينقذ بها أحدًا، بل «ليحرق بها الخشب الزائد» في الحكاية.

هذا التناقض بلغ ذروته عندما قرر زياد الاصطفاف، صراحةً أو تلميحاً، مع أنظمة قمعية لا تختلف كثيراً عن تلك التي طالما سخر منها. تغزّل بما يُسمّى «محور المقاومة»، وبارك خطابات الزعماء الذين لا يطيقون حتى النكات. فكيف لمن غنّى للفقراء أن يجد نفسه في صفوف من يدهسون شعوبهم باسم المقاومة؟ كيف لمن شتم الطغاة بالموسيقى أن يبرّرهم بالسياسة؟

في الوقت الذي انقسم فيه العالم العربي بين ثورات وقمع، بين شعوب تُذبح ونخب تصمت، اختار زياد أن يكون في المنطقة الرمادية: لا مع الأنظمة، ولا ضدها. لا مع الناس، ولا ضدهم. لكنّ صمته في لحظات الحقيقة، أو اختياره الاصطفاف مع «الواقعية المسمومة»، جعله يبدو، في نظر كثيرين، في منطقة الخيانة لجيله ولأغنياته.

ومع ذلك، لا أحد ينكر عبقريته. كان موسيقاراً فذاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. مزج بين الجاز والمسرح والشجن اللبناني بطريقة لا تُنسى. موسيقاه كانت شديدة الحضور، مليئة بالحياة، وغالباً ما قالت ما لم يقله هو. قد تخونه السياسة، لكن نغمه لا يكذب. كان صادقاً إلى حدٍّ مؤلم حين يُلحّن، حتى لو كذب حين يتكلّم.

زياد هو مرآة أزمة جيل بأكمله؛ جيل يرى العيوب بوضوح، لكنه لا يملك الحافز أو الوسيلة لإصلاحها. جيل تعب من الثورة، فغنّى لها وهو يودّعها. هو اليساري الذي لم يؤمن بالاشتراكية كخلاص، ولا استطاع أن يتصالح مع الرأسمالية. رفض الجميع، وادّعى أنه لا ينتمي لأحد، بينما كان، في الحقيقة، موزّعاً بين الجميع بلا ولاء حقيقي.

وفي هذا التيه، يُشبه زياد كثيراً ديوجين الكلبي، الفيلسوف الذي عاش في برميل واحتقر كل ما يُعتبر نظاماً أو سلطة أو قيمة رائجة. زياد، مثل ديوجين، كان يحتقر المجتمع لكنه لا يتركه. يُشعل مصباحه في عزّ الظهيرة باحثاً عن «الإنسان»، وهو يعلم أن لا أحد موجود بالفعل. يعيش على هامش المأساة، يضحك منها، ويسخر من منطقها، دون أن يقدّم بديلًا حقيقياً عنها. ديوجين كان يبول في الساحات العامة ، ويستمني علناً ليحتقر التقاليد، وزياد كان يتقيأ السخرية في وجه كل ما هو «مقدّس» أو راسخ، سواء كان الدين أو الوطن أو الثورة. كلاهما استخدم اللاجدوى كوسيلة للاحتجاج، والتقشّف كرمز للرفض، لكن ديوجين كان فقيراً بالإرادة، أما زياد فكان فقيراً بالأمل. هو ديوجين بنسخة بيروتية، مشغولة بالحزن أكثر من الحكمة، وبالسخرية أكثر من الفلسفة.

مات من جعل «السخرية مذهباً»، و«الخذلان مقاماً موسيقياً». مات من جمع في جسده «الحسّ الرهيف» لآلة البيانو، و«بلادة الأمل» في خطاب يساريٍّ يابس. زياد، الذي «لم يكن مع أحد»، كان «في الجميع»، ربما لأنه مثلنا تماماً: يرى الحقيقة، لكنه لا يملك الطاقة لمواجهتها.

في النهاية، لا يُطلب من الفنان أن يُغيّر العالم. يكفيه أن يُبقي جذوة التفكير مشتعلة. زياد فعل ذلك، وإنْ بخدعة. رحل الآن من كان «أكثر من موسيقي»، و«أقل من نبي»، من عاش بين «نغمة مشتهاة» و«يقين خاسر»، ومن بحث عن «الإنسان» بين الأنقاض، ثم يئس منه في صمت.

_____________________

  • كاتب فلسطيني
زر الذهاب إلى الأعلى