أرشيف المجلة الشهرية

كيف ولد برنامج (السيناريو) وأضاء شاشة أورينت

علاء طرقجي – العربي القديم  

بعد شهر ديسمبر المشؤوم في العام 2016، والذي شهد سقوط مدينة حلب في يد قوات نظام الأسد والميليشيات الإيرانية الداعمة له، نالني ما نال جميع السوريين الأحرار من مشاعر الإحباط واليأس والخيبة والانكسار والهزيمة، ودخلت في حالة من الاكتئاب لازمت فيها المنزل لعدة أشهر، انخفضت فيها ضربات قلبي وحرارة جسدي للحد الأدنى، وبات مصدر الطاقة الوحيد لي هي أطلال تلك المدينة، التي لطالما عشقتها حتى في خرابها ودمارها التي كانت عليه.

في وسط حالة اللاشيء التي كنت أعيشها في هذه الفترة، والشبيهة بحالة السبات الشتوي لدى الدببة جاءني اتصال من الأستاذ همام حوت، أو كما يحلو لي أن أناديه ″ عمي أبو عبادي″،

وقال لي بصوته الجهوري (ولاك علاء): لدي مشروع برنامج توك شو سياسي سوري، مع قناة أورينت اسمه السيناريو، وأريدك أن تعمل معي في هذا المشروع، وتكون من ضمن فريق الكتابة والإعداد.

في هذه اللحظة، قفزت الى رأسي أغنية شارة مسلسل الكرتون باتمان ″ضوء لمع وسط المدينة رسم نداءً لمنادينا″، وشعرت أني بحاجة لهكذا مشروع كي أخرج من حالة الاكتئاب التي أعيشها هذا من جانب، ومن جانب آخر عادت بي الذكريات الى مسرح أسرة المهندسين المتحدين، وهي الفرقة المسرحية التي أسسها همام حوت في حلب، والتي تعرفت على أعمالها منذ الصغر عن طريق الاستماع  للمسرحيات من أشرطة الكاسيت، من ثم مشاهدتها من خلال أشرطة الفيديو، وأذكر سعادتي الكبيرة عندما حضرت للمرة الأولى عرضاً حياً لمسرحية فضائيات 2000 على ما أذكر.

كيف لي أن أرفض عرض الأستاذ همام حوت في العمل معه، وأنا الذي أعلم أنه وعلى مدار سنوات طويلة، كانت تعرض عليه مئات النصوص من عشرات الكتّاب على أمل أن تتحول إحدى هذه النصوص الى مسرحية من مسرحياته. (طبعاً لأنه مدعوم من السلطة ومسرحياته بتجيب مصاري كثير).

قلت لهمام حوت أنا مستعد للعمل معك، ولكن هنالك مشكلة صغيرة، هي أني لست بكاتب، ولا أعلم شيئاً عن كتابة السيناريو، فجاوبني إنه يريد الأسلوب الذي أكتب من خلاله على الفيس بوك وطريقة سردي للأحداث بأسلوب الكوميديا السوداء، أما فيما يتعلق بكتابة الحوار، والحبكة القصصية وهيكليتها، والتنقيح وغيره من الأمور الأكاديمية، فسوف يساعدني به، ويخضعني لدورة كتابة مكثفة أشبه بدورة الأغرار في الجيش سيئ الذكر ماغيره، واتفقنا على أن يرسل لي الحلقة التجريبية من البرنامج (البايلوت)، التي سبق وقام بتصويرها لكي أستأنس بها وأبدأ بمحاولات كتابية على غرارها.

في هذه الفترة اتخذت قراراً شخصياً بطي صفحة من حياتي، والبدء بصفحة جديدة كلياً؛ لذلك قمت بالانتقال من مدينة عنتاب للعيش في مدينة إسطنبول، ولقد شجعني عرض العمل مع همام حوت على اتخاذ هذا القرار، مع رغبة مني أن أكون قريباّ من مشروع برنامج السيناريو، لكي أستفيد من خبرة وتوجيهات المسرحي الكبير همام حوت من ناحية، ومن ناحية أخرى أن أكون حاضراً ولادة هذا المشروع، وأكون شاهداً على جميع تفاصيله وخاصة تسجيل حلقاته في الإستوديو.

عندما اجتمعنا للمرة الأولى في مبنى قناة أورينت في حي مارتر بمدينة إسطنبول، جلسنا أنا وشاب آخر من فريق الإعداد، والذي بالمناسبة كان يملك خبرة في مجال الكتابة والإعداد استفدت منه كثيراً، مع الأستاذ همام، وشرح لنا بأن الفكرة من برنامج السيناريو أن يكون مختلفاً عن باقي برامج التوك شو السياسية التي تعتمد على الأحداث اليومية والترندات، والقيام بالتعليق عليها بأسلوب ناقد كوميدي، وأن فكرة البرنامج هي إعادة إنعاش ذاكرة السوريين، بما فعله نظام الأسد الأب والابن على مدى عقود في سوريا من أدلجة وتشويه وتخريب للمجتمع السوري، وكيفية تحويل كل مجالات الحياة في سوريا السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية وغيرها الى قطاعات أشبه بالحظائر، وتدجين السوريين للعيش فيها، وفق مبدأ القطيع السعيد، بالإضافة الى أن برنامج السيناريو، يجب أن يهدف أيضاً الى إعادة شحذ النفوس السورية التي أصابها القنوط من الحالة التي وصلت لها الثورة والخذلان الذي تعرضت له.

قبيل البدء بالعمل الحقيقي، كان لدي عدّة هواجس، الهاجس الأول هو ما كنت أسمعه عن العمل مع همام حوت، وأن له وجهاً آخر في العمل غير وجهه في الحياة العادية، وأنه في العمل أقرب للديكتاتور الديمقراطي، أي أنه يسمع لآراء الآخرين، ولكنه لا يقوم إلا بما يمليه عليه رأيه وقناعاته، الهاجس الثاني هو تدخل قناة أورينت في البرنامج، وقيام السياسة التحريرية للقناة بفرض مواضيع معينة لحلقات البرنامج، وتقييدنا بسقف حرّيات منخفض، أو أن تجبرنا على محاباة طرف معين!

 في جلسة العصف الذهني الأولى لفريق إعداد برنامج السيناريو، بدّد همام حوت الكثير من الهواجس التي كانت تدور في ذهني، وأخبرنا إنه المسؤول الوحيد عن فريق الإعداد، وإنه لن يتدخل بنا أو بما نكتب لا هو ولا أي أحد من إدارة القناة، وإنه أخذ الضوء الأخضر بحرية اختيار المواضيع مع سقف مرتفع، لا يوجد فوقه سوى سماء إسطنبول.

تدريجياً ومع بداية العمل الحقيقي اتضح لي صحة ما أخبرنا به الأستاذ همام خاصة أن الغرفة المخصصة لفريق عمل برنامج السيناريو، كانت الغرفة الوحيدة على ما أعتقد في مبنى قناة أورينت التي يسمح بها بالتدخين. في هذه الغرفة بدأنا باقتراح أفكار ومواضيع حلقات البرنامج، ووضع الخطوط العريضة لكل موضوع وتوزيع محاور الكتابة على فريق الإعداد، وفي هذه الغرفة كانت أصوات الضحك تتعالى، عندما يطرح واحد منا فكرة خارج الصندوق ونقوم بتخيلها، كتبنا عن أسباب عدم سقوط الأسد وعن الرياضة والفن والتعليم، في ظل هذا النظام، كما كتبنا عن كيفية تغذية نظام الأسد للانتماء الطائفي والقبلي في سوريا، وتعزيز الخلافات بين مختلف مكونات المجتمع السوري، وغيرها الكثير من المواضيع، منها ما هو مقبول، ومنها ما هو حساس، وللأمانة لم يقم الأستاذ همام حوت بفرض أي رأي على فريق الإعداد، وكانت جميع الأفكار والمواضيع التي يتم اعتمادها لحلقات البرنامج ناتجة عن رأي وتوافق جماعي لفريق العمل، بالمقابل لم تقم قناة أورينت بفرض رقابة سلبية على النصوص التي يتم اعتمادها للتصوير، وعلى ما أذكر لم تقم بحذف أي من محاور تلك النصوص.

تم تسجيل وعرض الحلقة الأولى والثانية من برنامج السيناريو والتي كان ضيفهما رائد الفضاء اللواء محمد فارس رحمه الله في فقرة “شاهد على القهر”، وتوالت الحلقات وبدأت أصداء هذه الحلقات ترد إلينا من مختلف الشرائح السورية، بالتأكيد كان هنالك عدد من المنتقدين، وممن لم يعجبهم البرنامج، لكن بالمجمل ومن خلال الآراء التي وردتني من خلال المعارف والأصدقاء، تيقنت أن البرنامج في طريقه لتحقيق نجاح كبير، وذلك بسبب الخطاب القريب من الشارع السوري الذي اعتمدنا عليه أثناء الكتابة، وعدم تقييدنا بسقف لأفكارنا، والأكيد  احترافية وقوة الأستاذ همام حوت في تقديمه للبرنامج، ونقل هذه الأفكار وإيصالها للمشاهد، بالإضافة إلى الكادر التقني والفني لقناة أورينت، كل ذلك ساهم بوصول برنامج السيناريو، ليس فقط للجمهور المحسوب على الثورة والمعارض لنظام الأسد، بل وصوله إلى السوريين في مناطق النظام سواء كانوا معارضين أو رماديين أو حتى مؤيدين.

بالنسبة لي كنت أهتم جداً بردود الأفعال والتغذية الراجعة والتعليقات من شبيحة النظام، أذكر كمثال عندما عرضت الحلقة التي كان موضوعها حزب الله وحسن نصر الله جاءنا العديد من التهديدات سواء على الخاص أو العام، حتى إن العديد من الأشخاص كانوا يهددون فريق العمل بالقتل أثناء عرض الحلقة على البث المباشر على منصة اليوتيوب، هذا الأمر أكد لي أن الغرض من برنامج السيناريو والهدف الذي كان يسعى لتحقيقه منذ أن كان مجرد فكرة قد حصل، وأننا استطعنا أن نزعج حاضنة النظام الرسمية والشعبية بما قدمناه في هذا العمل.

بالنسبة لي لم أعمل في قناة أورينت، ولم أكن موظفاً فيها، واقتصرت تجربتي مع القناة التي كنت أعارض في كثير من الأوقات خطها وسياساتها التحريرية على تجربتي في برنامج السيناريو.

مما لا شك فيه أني حزنت كثيراً، عندما سمعت بقرار إغلاق القناة التي أخطأت إعلامياً في مواقع معينة، وأصابت في مواقع أخرى مثلها مثل السياسة والعسكرة والعمل المدني، لكن قرار إغلاقها بالتأكيد كان خسارة للإعلام الثوري، ومن الخسائر التي تكبدتها الثورة السورية على مدى أعوامها، وللأسف غياب قناة أورينت عن الإعلام السوري سمح للعديد من الجهات المشكوك بها بتصدر المشهد الإعلامي السوري، ورسم هذا المشهد بحسب مصالح ممولي هذه الجهات والتي بالتأكيد بعيدة عن مصالح الثورة السورية وثوارها.

_________________________________________

 من مقالات العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت – تشرين الثاني/ نوفمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى