نصوص أدبية || هوامش على سيرة سعيدان المُفرِّح
تارة مع المعارضين، وأخرى مع معارضيهم، وفي آخر الشَّهر تأتي الحوالات من عواصم عدة
قصة قصيرة: موسى رحوم عباس
الملوك والأمراء والزُّعماء و” المجاهدون” الذين حرَّروا البلاد من المستعمر الغاشم، ثم تفوَّقوا عليه في ” الغَشَامة” وحتى كبار التُّجار والملَّاكين لديهم حياتهم الخاصَّة، يتخلَّصون فيها من الوقار المُصطنع الذي يحيطون به أنفسهم، أو يحيطهم به حشمُهم وخَولُهم على اختلاف درجاتهم؛ فهم خدمٌ بمسمَّيات كبيرة، رئيس المستشارين، كبير الفقهاء، زعيم حزب “المُعارضة” المشرف الأعلى على المطبخ، شاعر البلاط، وصولا لراقصة القصر… أعرف كلَّ هذه الأسطوانة، لكنَّني لم أستوعبْ ما قاله لي ذلك الرُّجل الذي يشاطرني السَّكن في حيِّ “بارْباسْ” في باريس، وهو الحيُّ الذي يشبه حي “الرُّميلة” العشوائيِّ الذي سكنتُ فيه مدَّة من الزَّمن على هامش الرَّقة المدينة، بعد أن أغرقت الحكومة – أعزها الله- قريتي، وجلبت الرَّفيق إريش هونيكر رئيس ألمانيا الشَّرقية، يوم كانت ألمانيا شرقا وغربا، حينها إلى السَّد؛ ليشهد على إذلالنا.
والحيُّ الفرنسيُّ هذا خليطٌ من المهاجرين الهاربين من جَوْر فرانكو أو بينوشيه وبول بوت، وإخوتهم في شرق المتوسط، وأبناء أو أحفاد اليهود النَّاجين من الهولوكست، والمغاربة والعرب النَّاجين من العروبة… والسَّكن في هذا الحيِّ المُضطرب لا يخلو من مغامرة كبيرة، لكنَّه يناسب أشباه العاطلين عن العمل وشبه المُفلسين مثلي، سعيدان المُفرِّح شابٌ لوَّحتُه شموس الشَّرق، حتى غدا جبينه يشبه عود الصَّندل، بالمناسبة كان يعجبه جدا هذا التَّشبيه، رغم اعتراضه المُبطَّن، إذْ كان يقول لي، تريد أنْ تحرقني أيُّها الشَّاميُّ الهاربُ الجبانُ! مراجلك عندي، وبس! أخبرني أنَّ عائلته لا تحمل الاسم هذا الذي أعرفه، ولا تذكره السِّجلات المدنيَّة لبلاده، ظننتُ أنَّه مجرمٌ هاربٌ غيَّر اسمه للتَّخفِّي في هذه البلاد المليئة بأمثاله من الحشَّاشين واللُّصوص، قلتُ له:
- إذا كنتَ من هؤلاء أخبرني – يرحم والديك – لأهرب بجلدي، اللي فيني يكفيني.
- على رسلك صديقي، المُفرِّح لقبٌ، ومهنةٌ، وليس اسمًا.
- كيف مهنة؟!
- أعطني مهلة لالتقاط أنفاسي؛ سأشرح لك بتوسع وبالتفاصيل، بشرط أن تصنع لي فنجان قهوة شاميَّة.
- حاضر، هات؛ فنحن عاطلان واللَّيل طويلٌ.
عندما لم يكن ثمَّة سوشل ميديا أو نتفليكس وتلفزيون… كان جدِّي سائسًا لخيل الأمير، ويسكن في البيوت المُلحقة بقصره، ويأكل وعائلته من خيره، وأثناء مرور الأمير على الإصطبل؛ ليتفقد أفراسه ومهارها وأحصنتها الوليدة، كان جدِّي يلاطفه، ويركِّب القصص السَّاخرة التي تستجلب الفرح إلى قلبه، مرَّة يُسقِط نفسه في معالف الخيول، أو يَطلي وجهه بزبلها، أو يتصنَّع الانزلاق في بركة الوحل التي تتوسط السَّاحة؛ هذه الاستعراضات الكوميدية حوَّلت تلك الزِّيارات المتقطِّعة إلى مناسبات سعيدة للأمير، يضحك بفرح مثل الأطفال، وأحيانًا يطلب منه إعادة المشهد، وجعلته يكثر من المرور بالإصطبل كلما ضاق صدره، هذا المرور الذي أسعد جدي أيضا؛ إذ تتالت عطايا الأمير له؛ فنعم أهله وأبناؤه، ومنهم والدي في حياتهم الرَّغيدة في كنف الأمير، وتُوَّج كلُّ ذلك بالتَّرقية الكبيرة لجدِّي من سائس خيل إلى “المُفرِّح” الخاص بطويل العمر، وللمهنة الجديدة طقوسها وأصولها، فقد بدأ يلبس الزّي الأميريَّ الثَّمين، ويضمِّخ لحيته بالعطورات المُستجلبة من شرق الأرض وغربها، ويُفْسَحُ له بالمجلس قريبًا من الأمير، كونه فردًا من الحاشية، حتى المستشارين الكبار بدؤوا يتقرَّبون إليه بالتَّودُّد حينا، وببعض الهدايا حينا آخر، ولا يذكِّرونه بعمله السَّابق، وربَّما طلبوا منه أن يُثني على رأي لأحدهم مستغلًا لحظة فرح الأمير وسروره، جدِّي صار خبيرًا بساعات السَّعد، وساعات النَّحس التي يمرُّ بها الأمير، فيختار المكان والزمان المناسبين، لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، ويدرك خطورة ذلك التَّوقيت، فالخطأ الأول هو الأخير عند سيِّده، ووليِّ نعمته، فيتجنَّب الزَّلل، ويصمتُ عندما تكون الأمور الجديَّة مطروحة للنِّقاش، وينحني ريثما تمرُّ العاصفة، يراقب الحضوربعيني ذئبٍ جبليٍّ، يحصي أخطاء الحاشية مهما صُغرت، وتسجِّل ذاكرته خزايا كلٍّ منهم؛ يدَّخِرُها للوقت المناسب، مَنْ يدري؟ هي قرشه الأبيض لأيامه السَّوداء التي لابدَّ آتية، فالقربُ من عِلْيةِ القوم، وقادته، ساحةُ قتالٍ محفوفة بالمخاطر!
- هذا يعني أنَّه كان حذرًا، ولابدَّ أنَّه سَلِم من الوقوع!
- “ما كلْ مرَّة تسلمْ الجرَّة”
- ما الذي تعنيه، يا صديقي المُفرِّح الصَّغير!
كانتْ ليلة باردة، فتحت عيون السَّماء أنهارًا، جرت السُّيول في الأودية، اكفهرَّت الأجواء، وانقلب مزاج الأمير معها لأسبابٍ يجهلها الجدُّ على الرَّغم من خبرته في تجاوز الانعطافات الحادَّة والمواقف غير المتوقَّعة، كانت سخريتُهُ سمجةً وتوقيتُها خاطئًا، قدحتْ عينا الأمير شررًا، وانقلب مزاجه كوحشٍ ضَارٍ، فبات جدِّي ليلته في إصطبل الخيل، وعاش بقية حياته فيه، ينظِّف الرَّوث، ويحضر الحشيش اليابس؛ لينثره أمام الخيل، ويجترَّ آلامه بصمت!
لا بأس يا صديقي، عظام جدِّك ستكون مسرورة في قبره، وأنتَ تكمل مسيرته هنا في باريس، ما زلتَ تجلب الفرح للقلوب المكلومة، لكنْ على طريقتك، وكلُّ شيء بثوابه! لم يحتمل سعيدان سخريتي، وأكثر تلك الليلة من الشَّراب الذي لا يتركه ليلة واحدة.
سعيدان كان وفيًا لجينات “المُفرِّح” الأكبر، مع المساء ينثر شَعرَه الفاحم السَّواد على كتفيه، ويلوي شاربيه الكثَّين للأعلى قليلا، ويختار تلك الملابس الثَّمينة والعطور الفاخرة، وينتعل حذاءه الجلديَّ الوحيد الذي يملكه، لديه معايير محدَّدة يختار بها ضحاياه، رغم أنه سيعترض بشدَّة على مفردة “ضحايا” السَّيدة فيوليت مثلا سيدة خمسينيَّة، أرملة وثرية تعمل في تجارة العقارات، شرب معها كأسًا في بار “ LE MOULIN ROUGE” أي “الطَّاحونة الحمراء” ولمَّا ثملت تمامًا، لعب دور الرُّجل الشَّهم، سندها إلى كتفه متأبطًا ذراعها، وفتح باب السَّيارة بأرقى ما يفعله “جنتلمان” وقفزخلف المقود، ثم أصرَّ على قيادة السَّيارة حفاظًا على حياتها، ولم تمانع، بل مالت عليه أكثر، أرشدته إلى العنوان، وأسندت رأسها إلى كتفه متظاهرة بالنَّوم. قضى ليلته متقلبًا في نعيمها، منتقمًا من ليالي الحرمان والجوع في بارْباسْ، وفي الصَّباح استفاقت، وهي تتوسد ذراعه الأسمر، وتحت نظرها غابة صدره الكثيف الشَّعر، شكرتُه بعينين ذابلتين مكتفية بما نالته من دفءٍ شرقيٍّ، ربَّما كانتْ تتوقُ إليه زمنًا، وبدأت يومها بإبرام الصَّفقات على هاتفها، وهي تستعدُّ للاستحمام، هذا ما يؤكده صوت اندفاع المياه في حمَّامها، والبخار الذي بدأ يتسرب من تحت بابه.
أشهرُ كثيرةٌ مرَّت، وهو يتنقَّل من سيَّارة فارهة إلى أخرى، ومن نيس إلى مونتي كارلو إلى كانْ عبر ضواحي سانْ تروبيه الفخمة، وصولا للمونتانا الفرنسية والسُّويسرية حتى قرى الكرانز على قمم الإلب، متقلِّبا بين ثلوجها القارسة، وفنادقها الدَّافئة، وأسرَّتها الوثيرة، ومن فيوليت إلى ماريا إلى جوليانا إلى أوليفيا… أسماءٌ نسي معظمها، لكنَّ الثَّابت فيها، كما يقول هوعن نفسه: إنَّني أجلبُ لهنَّ الفرح، أجبر كسر قلوبهن في الوقت الذي ينفضُّ فيه عُشَّاقهن عنهن، ويسخر من قولي إنَّه رجلٌ يحمل قلبًا للإيجار، لكنَّه وفي لحظة ما يخطئ في المكان والزمان؛ فيخسر كلَّ شيء، ويعود إلى الصِّفر، عندها يضحك كثيرًا، ويعود إلى بارْباسْ، يجرجر خساراته، ويسمِّي تلك اللَّحظة، لعنة المُفرِّح الأكبر، تلاحقني أنَّى حللتُ، التوقيت، يا صديقي! التوقيت هو الأهمُّ!
بقي أنْ أخبركم عن سعيدان المُفرِّح، أو المُفرِّح الأصغر، كما كنتُ أسمِّيه، بأنَّه يمتلك لغة فرنسيَّة مشرقة، لا تختلف عن لغة كتَّاب فرنسا الكبار وشعرائها، تدعمها ثقافةٌ عاليةٌ وعلاقاتٌ عامَّة متشعِّبة بعضها سريٌّ، وآخر شبه علنيٍّ في دهاليز شرقنا العظيم؛ صار يوظِّف هذه الميزة في كتابة المقالات السِّياسيَّة، مدفوعة الأجر، فتجده يشيد بالخطَّة الاقتصادية لهذا البلد في شرق المتوسط، ونجاح مسيرة التَّقدم فيه، وثبات القيادة التاريخيَّة لقائده المُلهم، أو يدعم هذا الحزب، ويجعل منه منارة في مقاومة الأعداء، بل هو من سيحرِّر البلاد والعباد، وتارة مع المعارضين، وأخرى مع معارضيهم، وفي آخر الشَّهر تأتي الحوالات من عواصم عدة؛ فنهرع إلى “الويسترن يونيون” في شارع غورو، نسدِّد آجار الشُّقة أولا، ونشرب البُوردو الأصليَّ هذه المرَّة، وعندما نبدأ بِعَدِّ الخِرافِ في السَّماء، نصرخ “عاشت جِينات المُفرِّح الأكبر”، وتبدأ نوبة الحنين إلى النَّخيل وأنهار اللَّبن والعسل في البلاد البعيدة، وعندما أعترضُ عليه، يذكِّرني بأنَّه هو من دفع إيجار الشُّقة، ومن دفع فاتورة البُوردو، ويذكِّرني أيضًا بأنَّ شاعر فرنسا العظيم “آرثر رامبو” كان تاجر أسلحة، وتاجر رقيق!
السويد، إسكلستون 10/ 2024
_______________________________
- الدكتور موسى رحوم عباس: أديب سوري مقيم في مملكة السويد وعضو اتحاد كتاب السويد SFF .