الروح الثقافية الفلسطينية: ترف إبداعي أم حفاظ على هوية الدولة؟
الدولة الثقافية هي وعدٌ للمستقبل، وصياغةٌ لوطن يُبنى بالإبداع
محمد الصبّاح – العربي القديم
كيف يمكن للروح الثقافية الفلسطينية أن تعزز المسألة الفلسطينية؟ أليست الثقافة، في جوهرها، هي التي تجعل من القضية مسألة حياة أو موت، مسألة وجود؟ ألم يكن الألمان في القرن التاسع عشر، رغم تفتت دولتهم واستعمارها، قد استطاعوا بناء أمة ثقافية تتجاوز حدود الجغرافيا؟ في تلك اللحظة، كانت الأمة الألمانية لا تُقاس بالحدود المادية، بل كانت مشروعًا فلسفيًا يتجسد في الفكر والشعر والموسيقى. الثقافة كانت صمودهم أمام الزمان والمكان، وكانت جوهرهم الذي لا يمكن غزوه أو تدميره. كما قال الفيلسوف الألماني يوهان غوتليب فيشته: “الأمة لا تُقاس بالحدود، بل بالروح التي تجمعها.”
في التاريخ الألماني، تجسد الفكر الثقافي في عمل المفكرين الألمان في القرن التاسع عشر مثل فيشته وشيلر، الذين أسهموا في تشكيل تصور الأمة بعيدًا عن الدولة المادية. فالأمة الألمانية في تلك الحقبة لم تكن مجرد تجمع سياسي، بل كانت مشروعًا فكريًا وفلسفيًا حول كيفية تكوين الأمة من خلال الثقافة والفكر. كانت الموسيقى، الشعر، والفلسفة هي السبل التي من خلالها أعاد الألمان بناء هويتهم الوطنية، رغم التفتت السياسي والجغرافي الذي عانوه آنذاك. هذه النظرة الفلسفية كانت بمثابة مقاومة ثقافية أمام الهيمنة الإمبريالية في ذلك الوقت، وهو درس يمكن للفلسطينيين الاستفادة منه في تعزيز هويتهم في مواجهة الاحتلال.
الثقافة الفلسطينية كأداة للحفاظ على الهوية والتحدي
هكذا، تصبح الثقافة الفلسطينية أداة للحفاظ على الهوية، وهي في ذات الوقت الوسيلة لتحدي الاحتلال ومحاولات طمس الذاكرة. من خلال الفن، يمكن للفلسطيني أن يُعيد خلق وطنه في كل لوحة، في كل كلمة، في كل لحن. الثقافة الفلسطينية هي إمكانية مستمرة، حيث كل عمل إبداعي هو محاولة لاستعادة فلسطين في وعي الفرد، وفي وجدان الشعب. هي تكرار للحياة في مواجهة الموت، وتكرار للوجود في مواجهة النفي.
إضافة إلى ذلك، يمكن أن نستلهم نموذجًا تاريخيًا آخر من صراع الشعب البولندي في القرن التاسع عشر. حيث كانت بولندا، في ذلك الوقت، مقسمة بين الإمبراطوريات الروسية، النمساوية، والبروسية، إلا أن الشعب البولندي استطاع الحفاظ على هويته الوطنية من خلال الثقافة والفكر. الأدب البولندي والموسيقى، مثل أعمال الشاعر آدم ميتسكيفيتش والموسيقي فريدريك شوبان، كانت وسائل مقاومة فكرية وثقافية، شكلت أساسًا لهوية الأمة البولندية، التي لم يكن لها وجود مادي أو دولة مستقلة. هذه الثقافة كانت صامدة أمام الاحتلالات، ومثلت الروح الحية للأمة.
الفلسطينيون: بناء الأمة الثقافية في غياب الدولة
في التاريخ، كما في الفكر، نتلمس ذلك النموذج الذي يعيد تعريف الأمة بعيدًا عن مفهوم الدولة المادية. في القرن التاسع عشر، كانت الأمة الألمانية ممزقة جغرافيًا ومستعمرين سياسيًا، لكنهم صاغوا فكرة الأمة الثقافية باعتبارها كيانًا يعلو على الخرائط والجيوش. لم تكن الأمة الألمانية في تلك اللحظة مشروعًا سياسيًا بقدر ما كانت مشروعًا فلسفيًا وجوديًا؛ إعادة اكتشاف الذات في نصوص شيلر وفيخته، وفي قصائد غوته. وقد وصف زاهي زلوعة هذا النموذج بالقول: “الفكر الثقافي هو الذي يصنع الأمة في غياب الحدود السياسية والوجود المادي”. في تلك اللحظة، تحولت الثقافة إلى مقاومة، والفكر إلى حصن لا يُقهر.
فلسطين: قضية وجودية لا دينية
إن القضية الفلسطينية ليست قضية دينية بقدر ما هي قضية وجودية. كما يؤكد إدوارد سعيد في قوله: “فلسطين ليست مجرد أرض، بل هي ذاكرة، قضية وجود ثقافي أكثر من كونها قضية أرض”. ففلسطين ليست صراعًا دينيًا كما يحاول البعض تصويره، بل هي قضية حق الإنسان الفلسطيني في الحفاظ على هويته الثقافية والإبداعية، في مواجهة محاولات محو هذا الوجود. وهي، كما قال فواز جرّار: “القضية الفلسطينية هي أكثر من مجرد نزاع سياسي، إنها قضية إنسانية تعبر عن الوجود الفردي والجماعي على حد سواء.”
فلسطين روح خالدة: الفن كأداة للتحرر
الفكرة الفلسفية للدولة الثقافية تتجاوز مفاهيم الانتماء التقليدية. في هذا التصور، الوطن ليس مجرد مساحة جغرافية، بل هو حالة وجودية، فكرة تُحيا بالإبداع والمعرفة. كما قال فيلسوف الثقافة الفلسطيني انطوان شلحت: “الثقافة هي أكثر من مجرد تعبير عن الذات، إنها الوسيلة التي يبني بها الشعب هويته في مواجهة محاولات طمس هذه الهوية”. الفلسطيني الذي يرسم، يكتب، أو يغني، يعيد خلق وطنه، يحوله إلى كيان خالد، عصي على التدمير. في كل مخيم وفي كل منفى، تُعاد صياغة الوطن بوصفه ذاكرة إبداعية، حيث الشتات ليس فقدًا، بل امتدادٌ للحضور.
بناء الأجيال الفلسطينية القادمة: الثقافة كأساس للتكوين
إن بناء الأجيال الفلسطينية القادمة لا يكون إلا عبر تعزيز الروح الثقافية الفلسطينية من خلال فلسفة تعليمية وفنية معرفية. كما يؤكد مؤرخ الثقافة الفلسطينية عارف العارف: “الشباب الفلسطيني يجب أن يُؤهل لكي يحملوا ثقافتهم ويعيدوا صياغتها بما يتماشى مع تحديات العصر، بحيث تصبح الثقافة الفلسطينية ركيزة أساسية في بناء الأمة، لا مجرد أداة للمقاومة، بل أساسًا لوجودها”. من خلال تعزيز الإبداع الأدبي والفني، يتمكن الجيل الجديد من بناء فلسطين التي تتجاوز الحدود الجغرافية، فلسطين التي تتمثل في الفكر والفن والموسيقى.
معركة الذاكرة: الفعل التحرري المتجدد
كما واجه الألمان الاحتلال النابليوني بالفلسفة والفكر، فإن الفلسطيني يواجه احتلالًا ماديًا ومعنويًا بمعركة ذاكرة لا تهدأ. الكتابة الفلسطينية، مثلها مثل النحت والرسم والغناء، ليست مجرد أفعال إبداعية؛ بل هي أدوات لتحرير الذاكرة، لتحويلها إلى فعل مقاومة يتكرر. هذه المعركة ليست معركة البنادق وحدها، بل هي معركة إثبات أن الفلسطيني، أينما كان، يظل حاملًا لوطنه، ليس كشيء مادي، بل كمعنى حي. كما يقول عادل الأسطل: “الذاكرة الفلسطينية لا يمكن أن تمحى مهما طال الزمن، لأنها لا تعتمد على المكان، بل على الوجود الثقافي المتجدد”.
المستقبل: بناء الدولة الثقافية
الدولة الثقافية هي وعدٌ للمستقبل، وصياغةٌ لوطن يُبنى بالإبداع. إذا كانت السياسة رهينة التوازنات والقوى، فإن الثقافة تظل ثابتة، عصية على الاهتزاز. خالد الحروب أشار إلى هذا المعنى بالقول: “إن الثقافة الفلسطينية هي صخرة صلبة لا تتأثر بموجات الزمان والمكان، لأنها لا تُبنى على السلطة السياسية أو الهيمنة العسكرية، بل على الإرث الفكري والجمالي”. هنا، تُدعى الأجيال القادمة للمشاركة في البناء، لإضافة لبنة جديدة إلى هذا الصرح الذي لا يعتمد على الماضي فقط، بل يُعاد تشكيله باستمرار عبر المستقبل.
في النهاية، الدولة الثقافية ليست مجرد بديل للدولة السياسية، بل هي إعادة تعريف جوهر الإنسان الفلسطيني. إنها محاولة لفهم معنى أن يكون الإنسان فلسطينيًا في عالم يتغير باستمرار. السؤال الوجودي هنا ليس مجرد “أين هو الوطن؟” بل “ما الذي يعنيه أن أكون فلسطينيًا؟” والإجابة على هذا السؤال هي أكثر من مجرد انتماء جغرافي أو سياسي.