عائلة الجندي: بين أحلام التغيير وآثام السياسة وشجاعة الاعتذار (2 من 2)

بقلم: مصعب الجندي
يتابع الباحث والكاتب مصعب الجندي لأول مرة سرد سيرة عائلته، آل الجندي، العائلة التي خرجت من مدينة السلمية ولعب أبناؤها أدواراً هامة في الحياة السياسية في سورية منذ أربعينيات القرن العشرين… وقدم أفرادها نمطاً من الأداء السياسي اتسم بأخلاقيات فروسية وشجاعة على الاعتذار والاعتراف بالهزائم. هنا القسم الثاني والأخير حول سيرة د. سامي الجندي، والد كاتب الملف. (العربي القديم).
اقرأ أيضاً: عائلة الجندي: بين أحلام التغيير وآثام السياسة وشجاعة الاعتذار (1 من 2)
سامي الجندي: التجربة والبرهان
كبيرهم سامي الذي انخرط منذ أوائل الأربعينات في السياسة، إلا أنه أراد تغليب الأخلاق والثقافة عليها. لم يؤمن بها مجردة، فهو ومنذ بدايات مشاركته في تأسيس حزب البعث، أراد أن يكون الحزب مدرسة ثقافية ومعرفية قبل كل شيء، فأنشأ مع أصدقائه أول مدرسة للبنات في سلمية باسم (سكينة بنت الحسين)، وكان له نادي الصحراء، وليس مكتب الحزب، حتى إن مكتب الحزب في سلمية أُنشئ بعد مغادرته إلى دمشق كعضو في مجلس الأمة، ومدير الدعاية والأنباء في الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة، حيث بدأ نجمه السياسي بالتألق، وعلى الرغم من ذلك كتب في مقالة له في مجلة الثقافة الصادرة في دمشق لصاحبها مدحت عكاش عام 1958: “أنا لا أذهب إلى أن ثوراتنا كانت بلا أفكار، ولكن أُلحّ على أن المقدمات الفكرية الكبرى لم توجد بعد، ولذلك كان أحد وجوهها، بل الوجه المهم الأصيل غير موجود، فانهارت كثير من الحركات؛ لأنها قامت بروح ثائرة غير ثوريّة”.
كان أول الرافضين لانقلاب الانفصال، وكتب بياناً وقام بتوزيعه في مقهى (الهافانا)، وكان يصرّ حتى بأحاديثه الخاصة مع أصدقاء انفصاليين، أن قادة الانقلاب تورطوا فيه، من حيث لا يدرون لأن بعض البعثيين ومُدّعي الوحدوية سهلوا نجاحه (لغاية في نفس يعقوب). انتقل بعدها للعمل السرّي وتشكيل حركة الوحدويين الاشتراكيين التي ضمت لفيفاً من بعثيين وناصريين، وكانت التنظيم المدني الأكثر نشاطاً في الشارع السوري من إضرابات المدارس (لا دراسة ولا تدريس إلا بعودة الرئيس) إلى المناشير والمظاهرات (ناصر… ناصر… الله كبير والله الناصر)، حيث بقيت دمشق العاصمة، وأغلب المدن بلا استقرار، إلى أن اعتُقل وأودع السجن. تذكر جولييت المير سعادة (زوجة أنطون سعادة) التي كانت معتقلة أيضاً بالفترة نفسها في حوار نُشر في صحيفة (الديار) العدد رقم 6396 تاريخ 27/ 6/ 1992: “من الذكريات التي لا أنساها معرفتي بالدكتور سامي الجندي، الذي كان يومها سجيناً مثلي أيام الانفصال في سجن المزّة، وكنت قد أُصبت بتورم في رقبتي، فنقلوني من الزنزانة إلى غرفة في مشفى السجن تمهيداً لجلب طبيب لمعاينتي، وكان في هذه الغرفة الدكتور سامي، فاحتفل بضيفته احتفال الإنسان حين رؤيته إنساناً مثله، وجاء الليل ولم يأتِ الطبيب، فتركني في الغرفة ليفترش الفسحة التي أمامها. وبعدها جاء الطبيب وفحصني، وقد سمعت بعد خروجي من السجن _ بعفو خاص من الفريق أمين الحافظ_ أن الدكتور سامي الجندي لم ينسَ ضيفته، فما إن أصبح في الحكم، حتى أصرّ على مجلس قيادة الثورة للإفراج عني، وقد وُفّق بذلك، وأطلقت من أسري إلى حريتي” هي سوريّة قومية وهو كان البعثي.
رغم الملاحقات من قبل المكتب الثاني (المخابرات في حينها)، كانت تحصل كثير من الطرائف ذات دلالات، فقد كان لسامي الجندي تلميذ ربّاه كابن له وعاش بيننا، اسمه (رياض شربا)، هذا الرياض شبّ وأصبح بعثياً نشيطاً في عمله الحزبي، وخلال مرحلة الانفصال افتتح الجندي عيادة في دمشق، يمارس مهنة الطب فيها كغطاء لنشاطه السياسي، وكان رياض مقيماً معه في منزله وبين أولاده كواحد منهم، وفي أحد الأيام كُلّف رياض مع صديق من عمره بتوزيع منشورات ليلاً على أبواب البيوت، تدعو لعودة الوحدة بين مصر وسوريا وسقوط حكم الانفصال، وخلال عملهم أُلقي القبض عليهما من قبل المكتب الثاني، وسيقا إلى التحقيق، سأل المحقق رياض: ماذا كنت تفعل بهذه الأوراق؟ وردّ الأخير كوحدوي بعثي ملتزم: كله فداء للعروبة والوطن والوحدة، وصرخ في وجه المحقق (يسقط حكم الانفصال)، فكان نصيبه الدولاب و(الفلقة). وسأل المحقق صديقه ماذا كنت تفعل؟ فتباكى الأخير، وأجاب: كنت أحاول سرقة أي شيء، لأطعم إخوتي الجائعين. فرقّ قلب المحقق، وأعطوه قليلاً من المال وصرفوه. ما زلت أذكر ولو كصورة غبشة، كيف كانت والدتي تضمد أرجل رياض المدماة بالشاش وتعقمها. بقي أن نعرف أن الصديق المُتباكي هو غسان الكسّار الذي أصبح بعد سنوات مليارديراً، بعد أن عمل في تجارات على مستوى عالمي، مشروعة وغير مشروعة، أما رياض الحالم بالوحدة وبالحرية، فلم يتمكن من تجاوز حدود سلمية، وبقي يعمل في عيادة طب الأسنان حالماً بالعروبة ومؤمناً فيها إلى أن وافته المنية.
بعد خروجه من السجن، عاد سامي الجندي لنشاطه رغم المرض في فقرات الظهر الذي رافقه حتى وفاته. وكان من بين المدنيين الأكثر تواصلاً مع اللجنة العسكرية، اللواء محمد عمران الأكثر قرباً له وصداقة، ورثها عن والديّ الاثنين (محمد الجندي، والشيخ صالح عمران)، اللواء صلاح جديد شقيق صديق الشباب السوري القومي غسان جديد، وتلميذه وابن عمه العقيد عبد الكريم.
حتى كان يوم إثمه الذي عاش بعده ثلاثة وثلاثين عاماً، بضمير مُرهق يعتذر عن ذاك اليوم، “فقد تأملت نفسي طويلاً ورميتها بالحجر؛ لأنني أحببت أن أجنب الخطاة رجمي” كسرة خبز- دار النهار، بيروت 1970.
قد يلعننا بعضهم وستكثر الاتهامات، لا بأس فلا خلاص من الآثام، إلا الاعتراف بها بشجاعة (الشجاعة التي عهدناها بسامي وإخوته). ليلة 7 آذار 1963 كنت طفلاً، أذكر حركة غير طبيعية في منزلنا الكائن بجادة شورى أول حي المهاجرين، وفضولي الذي لم يفارقني، جعلني دوماً أسأل عن التفاصيل والدتي وشقيقتي الكبرى، وكانت الفروقات بسيطة بين الروايتين.
إدارته لوزارة الإعلام بعد إنقلاب البعث
كان المخطط أن يكون الانقلاب في 1 آذار، واكتُشف في حينها، فاضطر الضباط المسرَّحون إلى الفرار من بيوتهم بغير بدلاتهم العسكرية، عُدّل الموعد إلى 8 واجتمعوا في منزلنا ليلة 7 آذار، محمد عمران العقل المخطط لأدق التفاصيل والأذكى باللجنة العسكرية، صلاح جديد، عبد الكريم الجندي، عبدالرزاق العلي، وضباط آخرون أقل رتبة لكنهم كانوا غير مسرّحين، وجاء اللواء زياد الحريري، وهو غير بعثي وغير مسرّح، لكنه كان متحمساً لإعادة الوحدة مع مصر، وهو الضابط الذي أشرف على تنفيذ أدق التفاصيل، وكان معه بدلات عسكرية ليلبسها المسرّحون. كان حاضراً الشيخ بديع الجندي (مفتي معرة النعمان ووالد الحاج أكرم الذي امتلك محطة شام الفضائية في ما بعد)، أمّهم الشيخ بديع في الصلاة ركعتين، وقرأ بضع آيات قرآنية ليوفقهم الله إلى حيث هم ذاهبون.
وكان صباح 8 آذار سيطروا على اللواء 70 وقطعات الجبهة، ثم تتالت البلاغات (البلاغ رقم واحد واثنين وثلاثة…!)، تتلخص جميعها أن (لا هدف إلا إعادة الوحدة)، وتبعتها برقيات التأييد من باقي القطعات العسكرية، باستثناء سلاح الجو بقيادة العقيد الدمشقي هيثم المهايني الذي لم يؤيد -بعد يومين- إلا مجبراً، لكن حلم الوحدة العربية كان يلوي ذراع الجميع، وبالفعل ما إن استقرت الأمور، حتى تشكلت وفود مفاوضات إعادة الوحدة التي كان دائماً سامي الجندي عضواً فيها، حتى إنه رأس الوفد في إحدى الجولات. يذكر سامي الجندي أنه في إحدى جلسات المفاوضات، وكانت تضم وفداً عراقياً أن (علي صالح السعدي رئيس الوزراء العراقي في ذاك الحين)، قال له: (أشوفك يا دكتور متحمس كتير للوحدة، صدقني كل يلي حواليك يحكون بالوحدة ويشتغلون ضدها)، كانت الجملة بداية الصدمات لكن الجندي ظل مؤمناً بما يفعل.
طوال عام وشهرين (الفترة التي استمر فيها وزيراً قبل إبعاده)، تشكلت عدة حكومات، وشغل فيها منصب وزير الإعلام بصفته الناطق الرسمي باسم مجلس قيادة الثورة، وكُلّف في بعضها بوزارة الثقافة بالإضافة للإعلام. بتاريخ 11/5/1963 كُلّف بتشكيل الحكومة، وحينها أراد أن تكون حكومة ائتلافية من جميع التيارات السياسية، ولم يُكتب لها النجاح، حين ترافق فشلها بحملة إعلامية من إذاعة صوت العرب، قادها محمد حسنين هيكل، واحتار الجندي بأن يجد لها تبريراً، لكنه رفض أن يرد بأسلوب الإسفاف نفسه، حين كانت الإذاعة المصرية تصفه بالإسماعيلي، ومن سخرية القدر: إسماعيلي حين يريد خصوم السياسة استخدام هذه الصفة لمهاجمته، وسنيّ ابن الإمام محمد الجندي في سلمية. اكتفى بتكليف الشاعر علي، وكان يعمل في مديرية الأنباء، بنقد كتيب عن الثورة من تأليف الراحل جمال عبد الناصر، وقد أجاد علي بما كُلّف به، فكانت النتيجة وقف الحملات المتبادلة، والعودة إلى مفاوضات الوحدة. ذكر سامي أنه تعرف على (المُغيّب الحيّ) المهدي بن بركة السياسي المغربي المقرب من عبد الناصر في منزل أمين الحافظ، وكان وسيط التهدئة بين الطرفين المصري والسوري.
كانت إدارته لوزارة الإعلام بعقلية مختلفة عن جميع التركيبة الحاكمة، ومن يطلع على أرشيف مجلة (المضحك المبكي) لصاحبها حبيب كحالة، يلمس هذا الأمر حتى لا يكاد يخلو عدد منها من طرفة عنه، وكان يكتفي بالضحك.
أطل تموز من العام 63 نفسه، وكان اليوم الأسود الأليم بتاريخ سوريا (محاولة انقلاب جاسم علوان)، وسقطت كل الأعراف (الخجل والقيم حلّ مكانهما الخلاف على الحصص). جميع الانقلابات التي سبقته كان قادتها يهتمون بالمزاج الشعبي العام، وبرأي الشارع السوري، وكم كان صعباً، ألم يقل جمال عبد الناصر أيام الوحدة عن السوريين (منين جاني الوجع ده)، وكانت الانقلابات تبدأ، وتنتهي باعتقال هنا، وسيطرة هناك، وقد يسقط ضحية بالخطأ، أو إعدام كتصفية حسابات، إلا ذاك اليوم حين باشر رفاق الأمس طقوس مناولة الطلقات والموت، وسيطر الضباط الناصريون على الأركان وبعض مفاصل الدولة، وردّ العسكريون البعثيون بقيادة أمين الحافظ وزير الداخلية بهجوم استرجعوا ما خسروه، وتلتها المحاكمات العسكرية الصورية والإعدامات، إلى أن تدخل جمال عبد الناصر شخصياً. أما دمشق، فلم تعد كما كانت، خلعت كل حللها (الوحدوية والناصرية والبعثية والاشتراكية ….)، وكان صوت سامي الجندي عبر إذاعتها حزيناً: (دمشق يا عوسجة ياسمين… يا شقراء بين سواد المدن… أقدم لك جثتي المخنوقة)، يقول الراحل أنطون مقدسي في تأبينه لسامي الجندي في صحيفة الحياة العدد رقم 12007 تاريخ 8/1/1996: “عرفت سامي الجندي قبل سنوات من تألقه سياسياً، وأصبح له وزن في وزارة حزب البعث 1963، استمعت آنذاك إلى بعض تعليقاته السياسية التي كان يلقيها في الإذاعة ببراعة وبلاغة آسرة، وهو دعا باستمرار إلى الوفاق بين التيارات السياسية المختلفة، إذ كان رجل مصالحة وديموقراطياً، بطبعه يحب الناس جميعاً”.
اتخذت قيادة الجيش حجة ضرورة تعويض النقص بالضباط بعد تتالي الانقلابات (ناجحة وفاشلة)، فاستحدثت دورة بالكلية الحربية (دورة البعث)، استُدعي لها وكلاء معلمون وموظفون مدنيون من حملة الشهادة الثانوية لأقل من عام، وتخرجوا كضباط (أنصاف عسكريين محترفين)، فكان السقوط الثاني لحرفية القوات المسلحة بعد السقوط الأول (انقلاب حسني الزعيم).
(نيسان 1964) أحداث حماة الأولى، حين كان اللص والسارق (عبدالحليم خدام) أميناً لفرع الحزب، واستفز أبناء المدينة بعدوانيته وقذارته، اجتمعت القيادتان القطرية والقومية ومجلس قيادة الثورة، وتأخر البدء بالاجتماع، فسأل سامي الجندي ميشيل عفلق (الأمين العام): لماذا لم نبدأ؟ أجاب عفلق: “إلى أن ينتهي الأخوة من اجتماعهم”. كرر الجندي: “أي إخوة؟”، أجاب عفلق: “الطليعة الثورية، وعنى فيها اللجنة العسكرية”، ردّ الجندي: “إمّا أن تبدأ الاجتماع أو أبدأه أنا، وهم من ينتظروننا ولسنا نحن”. مرّت جلسات المؤتمر بتوتر شديد لمطالبات بعودة الجيش للثكنات، عدا عن ضرورة التحقيق والمحاكمة لمسببي الأحداث، لكنها مطالب سقطت مع أول تصويت، وانتهى المؤتمر ببعض الوعود والقرارات السطحية، ولم تمضِ أيام، حتى زار الفريق أمين الحافظ سامي الجندي في منزله، وأبلغه أن الرفاق ارتأوا تنحّيه ومغادرته سفيراً، وترك له اختيار السفارة. حينها قال له الجندي: “هذه بداية انقلاب عليك يا أبو عبده”، ردّ عليه الحافظ: “هدول رفاقي يا دكتور إن صفعوني على خدي الأيمن بدرلهم الأيسر”، فأجابه: “خليك لكن كول كفوف”. اختار سامي الجندي السفارة في باريس، لإتقانه اللغة الفرنسية وغادر. كان أول المبعدين، تلاه اللواء زياد الحريري سفيراً في بريطانيا، واللواء محمد عمران مع حركة شباط؛ لأنهما كانا مع عودة الجيش لحرفيته، حتى إن الحريري رفض أن يوقع على طلب الانتساب لحزب البعث، بعدها بعامين تم التخلص من اللواء فهد الشاعر، بتهمة لا علاقة له فيها؛ لأنه أيضاً كان من أصحاب الموقف السابق.
أخلاقيات زمن المنافي
23 شباط 1966 يوم الغربلة، والتخلص من الواجهة التي استُخدمت في التصفيات السابقة لها بانقلاب دموي، أطاح بأمين الحافظ بعد اشتباك عنيف في محيط سكن الرئيس بحي الروضة، أصيب ابنه وابنته، وقتل أغلب عناصر الحراسة، ورغم ذلك رفض أن يسلم نفسه إلا للرائد سليم حاطوم، الذي ضمن سلامته مع عائلته (وأي سلامة!). تلا هذا الانقلاب يوم العار والنكسة (5 حزيران 67)، اليوم الذي لم يحتمله أحد إلا الموهومون بالنصر، على اعتبار أن إسرائيل، كان لها هدف إسقاط النظام الثوري في دمشق وفشلت…..! على إثر الهزيمة، أصدر السفير سامي الجندي كتابه (عرب ويهود) عن دار (بتشتل 1967) الألمانية، وقدّم له الملك حسين ملك الأردن، ليتمكن الناشر من إصداره دون أن يُعتبر معادياً للسامية، رغم أن الملك قال فيه ما لم يقله في جميع خطاباته السياسية عداءً لإسرائيل، وبالإضافة للغة الفرنسية تُرجم الكتاب إلى (الألمانية، العربية، الإنكليزية، البلغارية). أما النظام فقد بات بالنسبة إليه حديث فأرين عنه في وجرهما، يثير الشك والريبة، ودارت أحاديث بين أطياف سياسية داخل البلد وخارجه عن تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة سامي الجندي، وهو أمرٌ كان كافياً ليُستدعى لحضور المؤتمر القومي (ومن المطار إلى الزنزانة)، هو عاد رغم أنه كان على يقين ومعرفة بالمصير، لكنها روح التمرّد والمواجهة، وللسخرية كانت التهمة جاهزة (تأليف كتاب ونشره دون إذن وزارة الخارجية). رفض الرئيس الفرنسي ديغول قبول أوراق اعتماد سفير سوري جديد؛ لأنه اعتبر الإجراء السوري خروجاً عن الأعراف الدبلوماسية التي تقضي بأن على السفير السابق وداع رئيس الدولة المضيفة، فأُطلق سراحه، وزاره السفير الفرنسي في منزله للتأكد من سلامته. لم تمضِ أشهر حتى أسرّ له ابن عمه العقيد عبد الكريم أن يغادر؛ لأن القيادة لم يشتفِ غليلها، ولن تأمن لوجوده، فأخذه أقرباء زوجته (الحمويون)، عبر طرق التهريب إلى لبنان، وصدر أمرٌ بأنه مطلوب حياً أو ميتاً.
تحكّمت أخلاقياته بالمنافي، فقد تجنب التقدم بطلب لجوء سياسي لأي دولة غربية رغم إمكانية الحصول عليه بسهولة بالنسبة له، لكنه كان يعتبر أن اللجوء السياسي راتب بلا عمل، أو عمل وفق شروط الدولة المضيفة، وهذا ما يخشاه (الشروط). منحه الملك حسين جواز سفر، ولم يمانع استضافته في الأردن، لكن لم يحتمل صدامات الجيش الأردني مع الفدائيين، ولم يرغب بإحراج الملك، وفي الوقت نفسه ابتعد عن أصدقائه القدامى من حركة القوميين العرب (جورج حبش، ونايف حواتمة، وجهاد ضاحي، وديع حداد)، بعد رفعهم شعار (طريق القدس يمرّ من عمان). أما العراق فقد آثر عدم الإقامة فيه، رغم الترحيب من قبل العديد من الأصدقاء العراقيين الذين في أعلى مراتب السلطة؛ لأنه آمن إيماناً مطلقاً، بأنه لم يبقَ من البعث في كلا جناحيه إلا الطاعة ثم الطاعة لأولي الأمر.
أصبح الشغل الشاغل لأجهزة الأمن ملاحقته لاغتياله، ومن حسن حظه كانت بدائية الأداء عدا عن أصدقائه الكثر. في واحدة من تلك المحاولات علمت الأجهزة أن سامي الجندي سيسافر إلى فرنسا، وشوهد مع الدكتور صبري قباني (مؤسس مجلة طبيبك) في بيروت، فاستدعت الدكتور صبري لتبيان التفاصيل، ولفطنة الرجل وذكائه، أبلغهم أن الجندي مغادر عبر مطار بيروت الساعة (كذا من يوم ؟؟)، وكان الموعد متأخراً ساعتين عن الموعد الحقيقي، وسريعاً طلب من أحد الأصدقاء المشتركين الاتصال بسامي الجندي بألا يتأخر عن موعد طائرته، ويفضل أن يذهب قبله بما يستطيع. فهم الأخير الرسالة، ونفذ المطلوب. غامر الدكتور صبري بحياته، وهو البرجوازي الدمشقي ذو الميول الانفصالية، غامر بحياته لينقذ حياة صديقه.
لم تخلُ بعض الوقائع من الطرافة، ففي بعض المرات كانت الأجهزة تُكلّف بمتابعته في لبنان الرائد في أمن الدولة محمود أيوبية، (وهو عديل الأديب ممدوح عدوان)، والرجل كان محباً لسامي الجندي، فما إن يصل بيروت حتى يتصل به ليلتقيا، وينقل له أخبار البلد بالتفصيل، ويعدان سوياً التقرير الذي يجب أن يكتبه عنه.
كانت حركته في سني المنفى الأولى سهلة ميسورة، تارة في لبنان، ولفترة في تركيا وفي ألمانيا، حيث عمل في القسم العربي في الإذاعة الألمانية، أو فرنسا، إلى أن حلّ العام 1970 لأسباب حتى هو لم يتمكن من فكّ طلاسمها كأحداث كثيرة مرّت على هذه البلاد، (نشعر ونعاني منها ونعيشها ولا نعرف أسبابها أو من يقف خلفها). نجمه ينطفئ، تونس أبعدته، وتركيا لم تستقبله، باتت أغلب أيامه في فندق ما، بدولة ما رأفة بحاله، أو على مقاعد الاستراحات في المطارات بانتظار الترحيل، حتى إن دار النهار للنشر توقفت عن طباعة كتبه لأمر غير مفهوم حتى تجارياً، فكتبه (عرب ويهود، البعث، كسرة خبز، أتحدّى وأتّهم) كانت الأكثر رواجاً من جميع ما نشرته الدار. عاد إلى بيروت شبه مهزوم؛ لأنه مجبر على التزام الصمت، لكنه يتمرد على الصمت أحياناً. أذكر عام 1979 ومع ثورة الخميني، زاره صحفيان من مجلة (فلسطين الثورة)، يعدّان ملفاً عن الثورة، أرادوا مشاركته، كانت على طاولته مجلة (التايم)، وعلى غلافها صورة الخميني كرجل العام، أمسك بالمجلة، وسأل الصحفي الأول: ماذا ترى في الصورة؟ فأجابه: (الذكاء الحاد، قوة الشخصية.. و… و..)، ثم التفت إلى الثاني: (وأنت ماذا ترى؟).. كرر إجابة الأول مع تغيير الديباجة.. نظر سامي الجندي إليهما، وقال: (إني لا أرى في هذا الوجه إلا ورقة النعوة)، انتهى اللقاء هنا وغادر الصحفيان غير مصدقَين، أما أنا فكم أتمنى لو ألتقيهما، لأكرر سؤال والدي.
كان انكساره الثاني عام 1982، بعد أن دمّر الطيران الإسرائيلي منزله في بيروت لجيرته بعض مكاتب المقاومة الفلسطينية، ففضّل العودة لسوريا بوساطة صديق قديم، وهو سليمان فرنجية الجد، وللأمانة طُلب منه الإقامة في سلمية بلطف ولباقة، فكانت منفاه الأخير حتى رحيله 14/12/1995.
جميع الأسماء التي ذكرت إن كان من آل الجندي أو غيرهم هي مُلتبسة التقييم، والأمر المؤلم في هذا الالتباس، أننا في زمن الفيس بوك، عصرنا نحن أنصاف وأرباع وأخماس المثقفين، وأسياد الصور النمطية المُسبقة بعيداً عن تحكيم العقل، ودعاة صنع المستقبل بأدوات الماضي، فكم قوّل سامي الجندي ما لم يقله من قبل مؤثرين وعلماء سياسة….! وهم لم يطلعوا (مجرد اطلاع) على أيّ من كتبه.
حين الحديث عن العائلات والسياسة عموماً، لنتبين مدى نزاهة السياسي، وحين تفقد السياسة جميع أسس أخلاقياتها، علينا النظر لحجم الخسارات بكل مستويات الحياة للسياسي وليس السياسة فقط. قد لا يصدق أحد أن الأخوة الخمسة، وهم من سلالة الملّاكين، وبقيت هذه الصفة لصيقة بهم طوال حياتهم، هم وأسرهم مرّوا بأيام شظف عيش، يصعب على البشر تحمّلها، ولم يظهر عليهم من هذا الأمر شيء، عزّة نفوسهم كانت بلا حدود، من كان يظن أن إنعام بعد انتقاله لفرنسا، تجبره الحياة أن يعمل مدققاً ومراجعاً لأطروحات الدكتوراه التي يعدّها الطلبة لنيل هذه الشهادة في الأدب العربي، أو المقارن (عربي / فرنسي) من الجامعات الفرنسية، وكثيراً ما كان يعدّ الأطروحة للميسورين منهم، ويحصل منهم على ما يكفيه ليعيش، (أمر لا يعرفه إلا اثنان أو أكثر، وشاءت الظروف أن أكون منهم، وماذا لو أعدّها لنفسه، فكم شهادة دكتوراه كان ليحصل!). وشقيقه خالد لولا عطف ياسر عرفات عليه، لما وجدت قدماه أرضاً تسير عليها أو قبراً يأويه، وعاصم أصابه حظ ما ليعيش الكفاف. من كان يفكر للحظة أن سامي الجندي اضطر في أواسط السبعينيات، ليعود إلى عمله كطبيب أسنان (مهنة كان يمقتها) بعيادة المبرّة الدرزية في جسر الكولا في بيروت كمساعدة من الشهيد كمال جنبلاط، ليؤمّن حاجات العيش إلى أن سمحت الظروف له ليعمل بالترجمة، دون أن يستغله الناشرون.
كثيراً ما كان يكرر “الترجمة تساعدني في العيش الكريم، وتعوضني عن حرماني من نشر ما أكتب”، ورغم أهمية مُترجماته إلا أن الكتاب الذي ترجمه بشغف، ويعتبره وكأنه أعاد تأليفه إلى لغته الأم هو (مجنون إلسا) للشاعر الفرنسي لويس أراغون، حتى إن أراغون عندما زاره الجندي في فرنسا، ليقدم له نسخة من الترجمة، وقرأ له بعض مقاطع منها، قال له: “أشعر أن الترجمة أجمل من الأصل”.
الأخوة كرامازوف
ليس الإخوة الخمسة ألغازاً، ولا يعرفون كيف تكون لديهم أسرار شخصية، إلا ما كان يمسّ الآخرين فيصونوا عهده، والخمسة (حتى الفوضوي بينهم عليّ)، كانوا مثقلين بأسرار الآخرين إلى يوم رحيلهم. كثيراً ما شبههم أصدقاؤهم من أدباء وشعراء ونقّاد، كشوقي بزيع، وممدوح عدوان، بالأخوة كرامازوف. الخمسة لم يناقشوا أيّ وصف لهم، أو يبدوا رأياً فيه، كانوا يكتفون بالابتسام حين يُذكر أمامهم شيء من هذا القبيل. قد تكون الاتجاهات السياسية / الفكرية التي نحا فيها كل واحد منهم، كأنهم على تنافر، على الرغم أن بدايات الجميع كانت بعثية قومية متأثرين بسامي، لكنهم (وكما علّمهم هو)، كانوا متفلّتين من الفكرة الجامدة ومتمردين عليها، كلٌّ بطريقته، وهو الأمر الطبيعيّ لأمثالهم، فظن الآخرون أنهم الأخوة كرامازوف، والظن هنا قريب من الإثم؛ لأنهم الأخوة الخمسة فقط أبناء محمد الجندي، ولا شبيه لهم إلا أنفسهم، وليس إلا أن يندر في القرن الزمني الواحد أن يجتمع التميّز في إخوة معاً، وبهذا المستوى العالي ثقافةً وسياسةً وأدباً، هم الذين إن قيّمنا تجربتهم، نكون قد قيّمنا تجربة نخبة النخبة مع خيبة الخيبات لمجتمع بكامله.
كلما تذكرت ابتسامات الخمسة، وصوت قهقهاتهم العالي، تذكرت معها عيونهم على ما فيها من حزن. يحافظون على المرح حتى وهم في خضم مآسيهم، وخلال أكثر مواقفهم مرارة وخطورة.
اللقاء الأخير
أذكر ضحكاتهم في آخر مرّة صدف، والتقى فيها الخمسة وحدهم في بيروت قبيل الاجتياح 1982، حينها حتى زوجات ثلاثة منهم غادرن السهرة؛ لأنهنّ شعرن بأن الخمسة بحاجة للبقاء وحدهم، والجميع ما عداهم غريب عنهم، امتلأت الجلسة بالضحكات والذكريات، ولم ينجُ صغيرهم المدلل عاصم من نوادر عليّ عنه، كيف رافق أباه حين جمع عشائر البدو للمشاركة بثورة حماة 1945، وكيف كان عاصم يُلقي الشعر الحماسيّ عليهم، وقد لبس ثياب الكشّافة، وتمنطق (الشبرية) على خصره. وحين توجهوا لحماة أراد الذهاب معهم، وعاند أباه في ذلك، فكانت النتيجة (كفّ على نقرته)، ثم بكاء في حضن أمه. لم يلم أحدهم الآخر على أخطائه، (الخمسة خطّاؤون) لا يخشون الرجم، بمن فيهم مسيحهم، كان لقاءً وكأنه العشاء الأخير تبادلوا فيه سرّ القربان.
يومياً واجهوا إعصاراً قادماً بابتسامة طفل وعين صقر… يومياً لملموا فتات خبز، سدوا به رمق المساء.. وحين تشاجروا لعبوا..! صائحين ثم ضاحكين … نشطوا في السياسة، ولم تعنِ لهم مكاسبها أمراً، مالها أو السلطة وغرورها… كتبوا الشعر والأدب، وقلوبهم عامرة بحب ذاك الحلم الذي رافق شمسهم في شروقها وغروبها… عشقوا الليل وقمره ولم يخفهم العتم في شيء، حين داهمهم…. كانوا الغرقى الذين عجز الموج عن أن يتقاذفهم، لكنهم ضلّوا الطريق إلى برّ الأمان… تعقّلوا من عشرة المجانين، والنقيض في تعقلهم صواب. يوماً ما تلفتوا، (وتلفتنا) إلى تلك الأيام، وذهلوا، (وذهلنا): كم كبرنا منذ ذلك الحين!
_________________________________________
من مقالات العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري – آب / أغسطس 2024