علم النفس والسلوك

التصفيق الجمعي: جمهور مصفق وجمهور لاعن بين الانفعال والعقلانية

سيكولوجية الرفض والقبول في المجتمعات المغلقة

براء الجمعة – العربي القديم

في مجتمعات يطغى عليها الصخب والانفعال، يبدو التفكير النقدي الحيوي وكأنه ترف لا حاجة له، بينما الحقيقة أن غيابه هو جوهر الأزمات.

منظومات تُروّج للولاء المطلق أو الرفض المطلق

الفيلسوف إميل سيوران يقول: “لأننا فشلنا في خلق إنسان يفكّر، لم يتكوّن لدينا شعب، بل تشكل لدينا جمهور، جمهور مُصفّق، وجمهور لاعن، يصفّق مرة، ويلعن مرة. لكنه لا يفكّر!” –

تُعبّر هذه المقولة عن واقع الحالة السورية اليوم، حيث أثرت عقود من القمع والتهميش الفكري على البناء النفسي والاجتماعي للأفراد. القمع المستمر للأفكار الحرة، والاعتماد على منظومات تربوية وإعلامية تُروّج للولاء المطلق أو الرفض المطلق، أدى إلى تشكيل وتسيد عقلية جماعية يغلب عليها الانفعال السطحي بدل التحليل الواعي.

من منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن تفسير هذه الظاهرة بأنها نتيجة لعمليات التلقين المستمر التي تُضعف التفكير النقدي لدى الأفراد. عالم النفس الشهير باولو فريري وصف هذا النمط في كتابه “تعليم المقهورين” بأنه “تعليم مصرفي”، حيث يتم تلقين المعلومات دون تحليل أو نقد، مما يخلق عقولاً مستقبلة فقط، غير قادرة على التفكير المستقل. عندما يُحرم الإنسان من التعبير عن رأيه أو مساءلة الواقع، يتجه إلى السلوك الجماعي القائم على ردود الفعل العاطفية غير الناضجة مثل التصفيق للسلطة أو التذمر منها دون فهم أسباب الأزمة بوضوح.

معسكرات متقابلة دون مساحة للنقاش

في الحالة السورية، يمكن ملاحظة هذه الأنماط بوضوح في الاستقطابات الحادة، حيث يتم دفع الأفراد إلى معسكرات متقابلة دون مساحة للنقاش أو التبصر والتفكر والتفهم العقلاني. تحولت الغالبية من شعبٍ يفكر ويبني، إلى جمهور يصفق أو يلعن، دون أن يتوقف ليفكر في جذور مشاكله أو يحلل أسبابها. هذا التحول لم يكن وليد الصدفة، بل هو نتاج تراكمات تاريخية واجتماعية ونفسية، جعلت من السهل على الفرد أن يتحول إلى متفرج أو متلقٍ، بدلًا من أن يكون فاعلًا في مصيره.

نرى هذا الجمهور المصفق واللاعن في كل مكان، في الشارع الذي يلعن الفساد صباحاً، ثم يبحث عن “واسطة” مساءً ليحصل على خدمة بسيطة. في الشخص الذي يلعن البلد وأهلها، ثم يصفق للخطاب الذي يغذيها بحجة الدفاع عن الوطن. وعلى منصات التواصل الاجتماعي، يظهر هذا التناقض بوضوح؛ فنرى من يشارك منشورات غاضبة عن الظلم والفساد، بينما يصفق في اليوم ذاته لشخصيات أو جهات تمارس ذات الممارسات التي يلعنها. هذا الجمهور يعيش في حالة من التناقض الدائم، حيث يلعن الظروف حين تسوء، ويصفق للقوة حين تلمع، لكنه نادراً ما يتوقف ليفكر: لماذا وصلنا إلى هنا؟ وكيف نخرج من هذا المأزق؟

هذا الفشل في إيجاد إنسان يفكر لم يأتِ من فراغ. لقد كان نتاجاً لسنوات من القمع والاستبداد، حيث تم قتل أي بذرة للتفكير النقدي في مهدها. النظام التعليمي لم يعلم الطلاب كيف يفكرون، بل علمهم كيف يحفظون وينصاعون. الإعلام لم يشجع على الحوار والنقاش، بل روج للخطابات الجاهزة التي تخدم أجندات معينة. حتى الخطاب الديني، في كثير من الأحيان، تحول إلى أداة لتبرير الواقع بدلاً من تحليله ونقده. وفقًا لعالم النفس إريك فروم في كتابه “الخوف من الحرية”، فإن الأفراد الذين ينشأون في بيئات قمعية يميلون للبحث عن السلطة التي تبرر واقعهم، مما يعزز ثقافة القطيع.

التصفيق واللعن بدلاً من التفكير

ولكن، لماذا يفضل هذا الجمهور التصفيق أو اللعن بدلًا من التفكير؟ الإجابة تكمن في طبيعة النفس البشرية التي تبحث دائماً عن الطريق الأسهل. التفكير النقدي والعمل يتطلب جهدًا، ويتطلب شجاعة لمواجهة الحقائق المؤلمة، ويتطلب تحمل المسؤولية. أما التصفيق أو اللعن، فهو رد فعل سريع لا يتطلب أي من ذلك. حين يصفق الجمهور، فهو يبحث عن الأمان في القوة التي يراها منقذة. وحين يلعن، فهو يبحث عن تبرير لفشله أو عجزه. في كلتا الحالتين، يهرب من مسؤولية التفكير والعمل.

هذا الهروب من المسؤولية ليس جديداً، بل هو نتاج لثقافة اجتماعية عميقة الجذور تُعزز التبعية وتقتل المبادرة الفردية. في مجتمع يعاني من الفقر والبطالة والقهر الاجتماعي والسياسي، يصبح الفرد مضطراً للاعتماد على الدولة أو الجماعة لتأمين احتياجاته الأساسية. هذا الاعتماد لا يقتصر فقط على توفير لقمة العيش، بل يمتد إلى تشكيل رؤية فردية لا تكتمل إلا عبر الآخرين، فيصبح الفرد في حالة من العجز النفسي المزدوج: عجز عن تغيير واقعه وعجز عن اتخاذ قرارات حقيقية تساهم في تحسنه.

إن هذه الحالة من الاعتماد تعمق مشاعر العجز وتُسهم في غرس عقلية “الضحية”، حيث يُنظر إلى الظروف والمجتمع باعتبارهما العوامل الوحيدة المسؤولة عن الفشل. تتحول هذه العقلية تدريجياً إلى نهجٍ جماعي، فيصبح المواطن مجرد متفرج على الأحداث الجارية، ينتظر الأمل الذي لا يأتي، ويبحث عن “المنقذ” الذي يعتقد أنه سيغير مجرى حياته. في هذه البيئة، يصبح الأفراد رهائن لانتظار التغيير من الخارج بدلاً من الإيمان بأن التغيير يبدأ من الذات ومن الفكر النقدي.

ومع مرور الوقت، وعندما لا يأتي المنقذ المأمول، يتحول الفرد من حالة الاستسلام إلى حالة من الغضب والإحباط، ليصبح جلاداً لواقعه. يبدأ في اللعن والتذمر من الظروف، ويلقي اللوم على الآخرين، سواء كانوا حكومات، مؤسسات، أو أفراد. لكنه في حقيقة الأمر لا يتوقف ليفكر في كيفية تغيير واقعه بنفسه. تتحول هذه الأيديولوجية إلى دائرة مفرغة: اللعن ثم التصفق، ثم الانتقاد ثم العجز. تصبح هذه العقلية بمثابة سجن نفسي يعزل الأفراد عن فهم حقيقة دورهم في التغيير، ويقوض أي أمل حقيقي في التقدم.

الانتقال من “عقلية الضحية” إلى “عقلية الفاعل” يتطلب أولاً تخطي هذا الحاجز النفسي، وهو ما يتطلب تطوير الوعي الفردي والجماعي بأهمية المسؤولية الذاتية. إن بناء مجتمع قادر على تحمّل المسؤولية يتطلب من الأفراد الخروج من حالة الاتكال الدائم والاعتراف بأن التغيير لا يأتي من الخارج، بل من الداخل، من خلال إعادة صياغة المفاهيم حول القوة، المبادرة، والعمل الجماعي.

هل يمكن لهذا الجمهور أن يتحول إلى شعب يفكر؟

الإجابة هي نعم، لكن الطريق لن يكون مفروشاً بالورود. التحول من جمهور يصفق ويلعن إلى شعب يفكر ويبني يتطلب جهداً جماعياً وعزيمة .

 الخطوة الأولى: تبدأ من تعزيز الثقافة النقدية، بدءاً من التعليم. يجب أن نعلم أطفالنا كيف يفكرون، لا كيف يحفظون. أن نعلمهم كيف يطرحون الأسئلة الصعبة التي تبني، وكيف يحللون الإجابات بعيون ناقدة، وكيف يتحملون مسؤولية أفكارهم وأفعالهم. التعليم النقدي ليس مجرد أداة، بل هو الأساس الذي تُبنى عليه الأمم الواعية، القادرة على تحليل مشاكلها وإيجاد حلول خلاقة لها.

ثانياً: لا بد من تشجيع الحوار البنّاء. في مجتمع يعاني من الانقسامات الحادة، يصبح الحوار هو الجسر الذي يربط بين الضفتين. يجب أن نتعلم كيف نتحاور دون أن نلعن أو نصفق، بل بأن ننصت بقلوب مفتوحة، ونفهم بعقول متفتحة، ونحلل بأرواح متصالحة. الحوار ليس مجرد تبادل للكلمات، بل هو عملية تفكير مشترك تهدف إلى الوصول إلى حلول تنبع من احترام الاختلاف، لا من إلغائه.

ثالثاً: تحمل المسؤولية الفردية هو المفتاح. كل فرد يجب أن يتحمل مسؤولية أفكاره وأفعاله. بدلًا من انتظار المنقذ الذي قد لا يأتي، يجب أن نكون نحن من نصنع التغيير، ولو كان صغيرًا. التغيير لا يبدأ من القمة فحسب، بل من القاعدة أيضاً. حين يتحمل كل فرد مسؤولية أفكاره وأفعاله، يصبح التغيير ممكناً، بل حتميًا.

رابعاً: بناء الثقة الاجتماعية. في مجتمع يعاني من التفكك، تصبح الثقة هي الأساس لأي عمل جماعي ناجح. الثقة لا تعني الاتفاق على كل شيء، بل تعني الاعتراف بالاختلاف واحترامه. حين نتعلم كيف نثق ببعضنا البعض، نصبح قادرين على العمل معًا لتحقيق أهداف مشتركة، حتى لو اختلفت طرقنا.

سوريا ليست مجرد أرض أو حدود جغرافية، بل هي شعب يحمل في قلبه تاريخًا من الألم والأمل.

اليوم، نحن أمام مفترق طرق: إما أن نبقى جمهوراً يصفق ويلعن، أو نتحول إلى شعب يفكر ويبني. التفكير النقدي ليس ترفًا، بل هو ضرورة وجودية لبناء مستقبل نستحق أن نعيش فيه. لنكن ذلك الشعب الذي يرفض أن يكون مجرد صدى لخطابات الآخرين، شعبًا يمتلك الشجاعة لمواجهة الحقائق المؤلمة، والقدرة على تحليلها، والإرادة لتغييرها. لنكن ذلك الشعب الذي يتحمل مسؤولية أفكاره وأفعاله، والذي يبني بدلًا من أن يلعن، ويعمل بدلًا من أن ينتظر.

لأن الشعب الذي يفكر، هو الشعب الذي يعيش. والشعب الذي يعيش، هو الشعب الذي يستحق الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى