الرأي العام

بصمات | البراغماتيون والذاكرة الرديئة

هذه النهاية غير المنتظرة للطغاة تمثل نقطة تحول ثمينة للشعب السوري يجب استغلالها إيجابياً والبناء عليها

د. علي حافظ – العربي القديم

انتهى عصر الرعب الذي دام 54 عاماً من تسلط العائلة الأسدية المجرمة.. وبعد 23 عاماً من حكم الأسد الابن فر على الفور من دمشق باتجاه “قاعدة حميميم” الروسية، ومن ثم غادر إلى موسكو غير مأسوف عليه. ومن هناك نقل إلى جهة مجهولة، ليصبح تحت الإقامة الجبرية بحكم الأمر الواقع.

وهكذا، عشنا لسنوات وسنوات في خوف ورعب.. كان طعامنا اليومي عبارة عن كذب وشعارات وخطابات ومواكب تجوب الشوارع رافعة صور الأسد وأعلام مزرعته. لقد تنفسنا الكذب حتى تسرب دفعة واحدة إلى البنية التحتية لقلوبنا. كنا مخنوقين بالكذب؛ بينما نزفت دماءنا وسالت على أيديهم!

لقد سرق آل الأسد سورية خلال تلك الفترة الثقيلة، وتركوا وراءهم بلدًا مدمرًا وشعبًا ممزقًا يعاني من صدمات عميقة؛ لكن هذه النهاية غير المنتظرة للطغاة تمثل نقطة تحول ثمينة للشعب السوري؛ وبالتالي يجب استغلالها إيجابيًا والبناء عليها من أجل مستقبل البلاد!

يعيش اليوم الوطن مرحلة جديدة ونقطة تحول حاسمة من تاريخه الحديث.. تتميز هذه المرحلة بالشك وعدم اليقين، رغم عظمة الإنجاز غير المسبوق الذي حقق من خلال إسقاط طغمة عسكرية مخابراتية مافيوية إجرامية لا يوجد لها مثيل. لكن، يبدو أن كل طرف – ديني، طائفي، قومي، عرقي، حزبي، جهوي…  – يعمل على مراقبة الأطراف الأخرى، وذلك ليس من أجل مساعدته على تصليح ما ارتكب من أخطاء، أو الوقوف معه ومنعه من السقوط باعتباره ابن البلد؛ بل من أجل تسجيل النقاط والمواقف السلبية عليه!

يساعد في هذا الوضع عدم وضوح وصراحة الحكام الجدد في دمشق، وابتعادهم عن الشفافية في عملهم، وضبابية ما يدور في أذهانهم وما يخططون إليه. وبالتالي، يصبح الأمر مجرد اصطياد في المياه العكرة؛ بحيث يرى كل طرف نفسه أفضل من الأطراف الأخرى، ويتصور حاله أجدر منهم في الحصول على مكان أو وظيفة أو موطئ قدم في مراكز القرار. لكن، هذا بعيد المنال بوجود هكذا حكام براغماتيون وتقيّون إلى أبعد الحدود!

هذه الظروف ليست جديدة تمامًا، فقد عانت منها دول كثيرة عربية وإقليمية وأجنبية، لاسيما بعد سقوط أنظمتها الديكتاتورية؛ لكنها أصبحت واضحة وجلية بعد دخول وسائل التواصل الاجتماعي إلى حياتنا وسيطرتها على كل مفاصلها ومجالاتها تقريبًا.

 هنا تجدر الإشارة إلى ما حصل عندما تم حرق شجرة عيد الميلاد في حماه وتظاهر عدد من المسيحيين رافعين صلبانًا خشبية ومرددين شعارات تطالب بحماية حقوقهم، وهم في طريقهم نحو مقر بطريركية الروم الأرثوذكس في حي “باب شرقي”. والفعالية التبشيرية في جبلة التي حاضر فيها ليبيون وتركستان وآيغور من أجل تعليم سكان جبلة الدين الصحيح. والدعوة إلى الإسلام في حي “باب توما” ذي الغالبية المسيحية في دمشق. وقتل الشابة ليليان أبو سرحان في قرية لبّين بريف السويداء الغربي وإصابة والدتها هدايا بجروح خطيرة، على يد والدها عز الدين أبو سرحان. أو ذلك الكردي السوري بلال ألوج الذي افتتح مطعمًا إسرائيليًا في مدينة فرايبورغ الألمانية باسم “يافا أطباق إسرائيلية طازجة”؛ ووضع طبق “بابا غنوج” على قائمة أطعمته كطبق يهودي… مما أثار ردود أفعال سلبية ومتناقضة حولت تلك التصرفات الفردية إلى أحداث وظواهر مفصلية في حياة المجتمع الناشىء؛ وكأنها تعبير حي عن المشهدية المعاكسة لأفراح النصر والتحرير!!

تعود هذه الأمور بأسبابها إلى السياسة الاجتماعية الداخلية المتبعة من قبل النظام الأسدي السابق، الذي كان علمانيًا براقًا في ظاهره، لكن في باطنه طائفي دموي أسود. لقد حافظ على القشور العلمانية الشكلانية، وبنفس الوقت سمح ببناء المساجد والكنائس والحسينيات حتى اتخمت المدن والقرى بها. واحتفل بجميع الأعياد الدينية بما في ذلك حضور رأس هرمه ومسؤوليه لتلك الاحتفالات، مما يعني أنه سمح بكل شيء يفيده ويحسن صورته ويغسل سواده بغض النظر عن ماهية الشيء وكنهه. لكنه في المقابل، لم يسمح لأفراد المجتمع بتطوير علاقاتهم البينية بشكل متين، فقد حاول سلخ الناس عن جذورهم ومجتمعاتهم وهوياتهم، وزرع فيهم مشاعر الخوف والرعب والقلق والتشكك والذاتية المفرطة؛ بحيث أصبحوا سجناء جدرانهم المظلمة فقط، يخافون من الكل ويشككون بالكل؛ لذلك فمن الصعب تخطي هذه الحالات في المستقبل القريب. مما يجعلنا أصحاب ذاكرة رديئة بامتياز، تولّد الشعور المستمر بأننا لسنا من هذا الوطن؛ إن كان الآن أو في السابق!

إن وضع كل شخص مقابل الشخص الآخر؛ والطائفة مقابل الأخرى، وكذلك القومية والعرق، لن ينتهي حسب القانون حمورابي “العين بالعين والسن بالسن”؛ بل سيؤدي إلى بناء وطن من العميان والقتلى!!

إذا كانت العدالة هي اللبنة الأولى في عملية بناء الدولة؛ فلنبدأ إذًا بتطبيقها ومحاسبة القتلة والمجرمين على سجنهم وتعذيبهم وقتلهم للأبرياء.. هؤلاء لم يكونوا قلقين حيال الشعب الذي استعبدوه طوال تلك السنين؛ وكلما كانوا يقتلون أكثر كانوا يفتخرون ويفرحون أكثر. ومن ثم نبدأ في البحث عن قواسمنا المشتركة ونحاول حل خلافاتنا ومشاكلنا بطرق سلمية؛ لأنه عندما تتفتح عقول السوريين يتحرر بلدهم ويتطور ويسير في ركب الحضارة!

علينا ألا نترك الخونة والمتلونين والمكوعين يأخذون الشرعية ويحصلون على البراءة، لأنهم سيكونون مجرد طوابير خامسة بيننا.. نحن نحتاج لأشخاص شرفاء عقلاء مضحون مخلصون، يكونون كالخيوط التي تربط الماضي بالحاضر، وتشكل حلقة وصل بين الناس من كل الأطراف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى