سير ذاتية ومذكرات

ذكريات الفتى الإِدلبي: إدلب في شهر الحب والرحمة

د. عبد الرّزاق الدّرباس – العربي القديم

من أجملِ مدنِ سورية ذات الطابعِ الريفيّ رغَم كل تمدّنها الاجتماعي وعمقِها الحضاريّ، مدينةُ إدلب، مركز المحافظة الواسعةِ الكثيفة بالسكان الذين كانَ عددُهم قبل الحرب قرابة 2 مليون نسمة، وهي بوابةُ سوريا لتركيا وأوربا، الأزهر الصغير، الخضراءِ، بحر الزيتون، أم المآذنِ، جذرها في الحضارةِ ضارب، وجمالها للمرهفين جاذب، لها رجالاتُها في العلمِ والفقهِ والأدبِ والسياسةِ سابقاً وحاضراً ولاحقاً، مهما حاولَ الكارهونَ طمسَ الحقيقة.

كانتْ أولَ مدينةٍ تأسرني وأنا ابنُ الريفِ البسيطِ الجميلِ فكان مناسباً لي معها قولُ مجنونِ ليلى:

عَرَفتُ هَواها قبلَ أنْ أعرفَ الهَوى      فصادفَ قَلباً خالِياً فتمَكّنا         

أتيتُها من أقصى جنوبِ ريفِها الواسعِ طالباً في معهدِ دارِ المعلمين أواخرَ صيف 1982م.

كان بيتي مجاوراً للكنيسةِ في مركزِ المدينةِ، أسمعُ قرعَ الناقوسِ يوم الأحد، ويختلطُ بتكبيراتِ جامعِ (الأقرعي) في سوقِ الخضارِ، ما يعكسُ تسامحاً روحيّاً متأصلاً في نفوسِ أهلِها، هذا الجامعُ الذي بناه الخيّرون من أبناء المدينةِ قبل عدّ قرون، وكنّا نتباهى حين يعرف أهلُ المدينةِ أننا من بلدةِ (الشيخ سليم)، وهو طالبُ علمٍ من قريتِنا (كفرسجنة) قصدَ إدلبَ عالِماً ومعلّما وطالبَ علمٍ ليستقرّ فيها ويكسبَ احترامَ الجميع، إنه الشيخُ المرحوم بإذن الله (محمّد سليم الخطيب).

وشهرُ رمضان الذي كان يتزامنُ خلال دراستي (1983 – 1984) مع شهرِ حزيران (يونيو) حيث موسمُ فواكهِ جبلِ الزاويةِ وأريحا من كرزٍ ومشمش وخوخ، وخضرواتِ حارم والريف الشماليّ، وخيراتِ سهلِ الرُّوجِ وخصبِ سهولِ سراقب، ونتاجِ معرة النعمان وريفِها من الألبانِ والأجبان واللّحوم، وتفاحِ جبالِ جسر الشغور، كلُّ ذلك يصبّ في أسواقِها بأرخصِ الأسعار وأجودِ الأصناف، ومعَ الدرسِ الرمضانيّ بعدَ العصرِ في جامعِ الحمصي بالشارعِ الرئيسيّ (الجلاء) تدخل سوقَها، فتضوعُ رائحةُ (المعروك)، أما أفرانُها فكانتْ تعملُ مساءً لتأمينٍ رغيفٍ طازجٍ ساخنٍ يزفرُ من بين طيّتيهِ بخارَ النّضوج، ويثيرُ شهيّتكَ لتأكلهُ (حاف) دونَ إدام.

مواسم الكرز في أريحا (وكالة الأناضول)

ماؤها العذبُ ينسابُ إليها من جهة الغرب (عين مرتين) دونَ انقطاعٍ أو تقنين، وتُعقَدُ جلسةُ شبابٍ في بيتِنا المستأجَر من إحدى عائلات المدينة المعروفة (آل منّاع، آل سليمان عوض، آل قطّيع، آل اللّول) وهي بيوتٌ من الطرازِ القديم هجرَها أصحابُها لأبنيةٍ جديدةٍ في الأحياء الحديثة، وفي السهرةِ لا بأسَ بفيلم سينمائيّ مع (كازوز كراش) في سينما أوغاريت، التي تحوّلت لصالةِ مفروشاتٍ فيما بعد، ومع الحديثِ نغتابُ هذا المدرسَ ونمدحُ ذاك، حيث كان لدينا نخبةٌ من أهلِ العلمِ والأدب والفنّ الذينَ نفخرُ بهمِ، ويملؤونَ برنامجَ حصصِنا الدّرسيّة في المعهد بكل علمٍ مفيد ومنهم:

 عبدالغني غفير، أحمد حازم نجيب، د. هاشم دويدري، مصطفى نبهان، بسام مارتيني، خالد نينو، جوزيف غنوم، درغام قحفظان، مصطفى قطّيع وغيرهم، رحم الله من ارتحلَ منهم وأطال أعمار الباقين، ونضحكُ من سلوك هذا الطالبِ، وذاكَ البائعِ، ونختلي بدفاترِنا الخاصّة أنا وزميل دراستي وسكني الطالب الشاعر عبد القادر حمود، الذي جاءَ إدلبَ من أقصى ريفِها الشماليّ في قرية (حتّان) ونكتبُ أبياتاً ومساجلاتٍ شِعريةً في قدٍّ إدلبيٍّ مَيّاسٍ، أو عينينِ خَضراوين كالزيتون لطالبةٍ من عابراتِ السبيلِ في طريقِ ثانويةِ الخنساء لا نعرفُ اسمَها ولا عنوانَها، ولا بأسَ في الوقوفِ أما مكتبة (قباني) لاستطلاع آخر الكتب، أو المرور على مكتبة (الداي) لشراء قرطاسية لازمة.

طبختُنا بسيطةٌ، لكنّها أشهى من وجباتِ الفنادقِ الفاخرةِ، و 240 ليرة سورية نتقاضاها كتعويضٍ شهريّ من الدّولةِ تُعيننا على نفقاتِ المدينةِ والمواصلاتِ إلى قرانا البعيدةِ كلّ يوم خميس.

في بيتِ الحاجّة أم محمّد اللّول، القابعِ في نهايةِ زقاقٍ يبدأ من الساحة التّحتانية (ساحة ميس الريم) كما كنّا ندعوها، عبرَ (سيباط) لآل الباشا، وصولاً لجامع (المبلّط) كنّا ذات رمضانٍ جميلٍ كأننا عندَ أمّنا، فهي الوحيدةُ في الدارِ، وأسكنَتنا معها في غرفةٍ تجاورُ غرفتَها، حيث تتهادى أطباقُ الأطايبِ قبيلَ المغربِ من أبنائِها وبناتِها وأحفادِها، فتقولُ لنا – رحمَها الله – هيَ لكم رزقٌ مقسومٌ من الحيّ القيوم، وكانت تدعو لنا صبيحةَ كلّ يوم امتحان، فنشعرُ أن قوةً عجيبةً تدفعُنا للطموحِ، وكانَ توفيقُ اللهِ وَاجتهادي ودعاؤها مع دعاءِ والدتي – رحمها الله – سبباً من أسباب تخرّجي بالمركزِ الأوّل على الدفعةِ البالغِ عددُها 417 طالب وطالبة.

كانتْ إحدى جاراتِ بيتنا ترفعُ صوت المسجلّةِ بشريطٍ فيه أغنية للفنانةِ شادية تقول فيها:

مين قلّك تسكن بحارتنا؟ تشغلنا وتقلّ راحتنا

يا تشوف لك بحكايتنا يا تعزّل وتسيب حِتّتنا.

لكنّ الفتى اختارَ الحلّ الثاني، وعزّلَ من الحارةِ، لأنه – رغم وسامتهِ – ليس كفؤاً للحلّ الأول، الذي أرادتْه الفنانةُ شادية والجارةُ المعلومةُ المجهولة..

في إدلبِ لا تعرفُ حِبالَ الحبّ التي تجذبُكَ من أيةِ جهةٍ تمتدُّ إليك..

جمالُ المكان، وطيبةُ الناس، والتآخي والحضارة، والبساطةُ والخيرُ، والماءُ والخضراءُ والوجهُ الحَسَن.

ويرقّ قلبُكَ وأنتَ تسمعُ مآذنَها تودّعُ رمضانَ في لياليه الأخيرةِ بنشيدِها المُحزِن:

يا شهرَنا هذا عليكَ السَّلام يا هاشمي منّا عليكَ السّلام.

فتشعرُ بأن قلبَك صارَ في حَنجرتِك، وأنّ دمعةً محبوسةً تنتظرُ أن تذرفَها، وأنتَ بعيدٌ عن مئذنةِ جامعِنا الوحيدِ قرب دارِ أهلي في قريتِنا (ركايا كفرسجنة).

(المعزوفةُ الخضراء) كان عنواناً لقصيدةٍ من بداياتِ أبجديةِ الحبّ، نشرَها لي مديرُ دار المعلمين آنذاك الأستاذ محمود حميداني، في المجلة المدرسيّة، فبقيَتْ خالدةً في ورقِ الأيامِ وجدرانِ الفؤاد، وضمنَ ديواني الأول المطبوع عام 1995 والموسوم بـ (ليلى وأحلام الرجال).

رمضانُ وإدلبُ والفتى القرويّ الذي جاء للمدينةِ، مثلثٌ للجمالِ والتّاريخِ والمحبّة، وحكايةٌ للذّكريات، والعُرى التي لا تنفصمُ، مهما ادلهمّتِ الأيّام، واشتدَّ أوارُ الحربِ وتهاوَتْ شرفاتُ الأبنيةِ البيضاءِ بالقصفِ الغادرِ، ومهما حاولَ الأغرابُ تغييرَ اللّونِ الإدلبيّ، فسيبقى دائمَ الخضرةِ كالزّيتون، حاضناً كلَّ السوريين، لا يَمحو لونَهُ الماحون، ولا تقَلّلُ محبّتَه الأيامُ والسِّنون.

***   ***

________________________________

إيميل الكاتب: adbabd1965@yahoo.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى