التاريخ السوري

بطل معركة الذاكرة: فريد المذهان الذي كشف وجهاً مخيفاً للدولة الأسدية

الصور التي حملها لم تكن مجرد تقارير باردة، بل كانت شهادات حية من أرواح أناس تم قتلهم بأبشع الطرق

سامي زرقة – العربي القديم

في عالم مليء بالصمت والتواطؤ، استطاع فريد المذهان، الذي عُرف لاحقاً بلقب “قيصر”، أن يكشف الستار عن وحشية لا يمكن تصورها كانت تحدث خلف جدران السجون السورية.. هذا الرجل الذي كان يعمل في صفوف الشرطة العسكرية السورية، أصبح في وقت لاحق رمزاً للعدالة والإنسانية بعدما اختار أن يفضح النظام السوري عبر تسريب آلاف الصور التي وثقت جرائم تعذيب وقتل ممنهج ضد المعتقلين.

بداية المعاناة.. من ضابط إلى شاهد على الجرائم

فريد المذهان، المساعد أول في الشرطة العسكرية في دمشق، كان في موقعٍ حساس داخل جهاز النظام السوري.. لكنه رغم ذلك، لم يكن يوماً جزءاً من آلة القمع هذه.. في بداية الثورة السورية عام 2011، كان يعمل رئيساً لقلم الأدلة القضائية في الشرطة العسكرية، حيث كان مسؤولاً عن تصوير جثث الضحايا الذين ماتوا تحت التعذيب في السجون العسكرية والمعتقلات.. كان يرى كل يوم فظائع جديدة يرتكبها النظام، والتي لم تقتصر على المعتقلين السياسيين فحسب، بل شملت الأطفال والشيوخ والنساء، الذين تم اعتقالهم بسبب مطالبهم بالحرية والكرامة.

كانت مهمته توثيق هذه الجرائم عن طريق الصور، وهو ما جعله في مواجهة مباشرة مع الواقع الصادم: جثث مشوهة وعلامات التعذيب القاسية التي أظهرت مدى الوحشية التي كان يمارسها النظام ضد الشعب السوري. وعندما كان يرى الصور التي التقطها لنفسه، كان يشعر بأنها تحكي له قصصاً من الألم والمعاناة التي عاشها المعتقلون، وكان يرى في تلك الصور رسالة من أرواحهم الطاهرة، وهي أن عليه أن يفضح هذا الظلم للعالم.

تحمّل الأمانة الصعبة

ومع ازدياد القمع وارتفاع عدد الضحايا في السجون، اتخذ المذهان قراراً شجاعاً وهو جمع أكبر عدد من الصور التي توثق الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة بحق المعتقلين، ثم شرع في تسريبها إلى الخارج.. كانت تلك خطوة محفوفة بالمخاطر، لكنه أدرك أن الحقيقة لا يجب أن تُدفن.

عمل فريد المذهان على تهريب الصور عبر بطاقة ذاكرة “فلاش ميموري”، وكان يخبئها في أماكن غير متوقعة، مثل جواربه أو حتى داخل أكياس الخبز، ليتمكن من تجاوز الحواجز الأمنية التي كانت تفصل بين المناطق التي يسيطر عليها النظام وتلك التي تخضع لسيطرة فصائل المعارضة. ورغم كل المخاطر التي واجهها، كان يعلم أن حمل هذه الصور هو حمل أمانة لا بد أن يصل بها إلى العالم.

صور قيصر”.. الشهادات الحية على جرائم النظام

ابتداءً من عام 2013، بدأ المذهان بنقل الصور عبر الحدود، ليكشف العالم على آلاف الصور التي تظهر مشاهد مرعبة لجثث تم تعذيبها وقتلها بشكل ممنهج. هذه الصور التي عُرفت فيما بعد بـ “صور قيصر” أصبحت تمثل الدليل القاطع على وحشية النظام السوري، وتوثق أسوأ الانتهاكات التي حدثت في سجون ومعتقلات النظام.. وعُرفت تلك الصور بأنها توثّق لحظات الموت البطيء، والتي كانت تنتهي غالباً في المقابر الجماعية التي كان النظام يدفن فيها ضحاياه.

تعتبر هذه الصور واحدة من أبرز الأدلة على ارتكاب النظام السوري لجرائم حرب ضد الإنسانية، وقد أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الحقوقية والسياسية، مما أدى إلى تحركات دولية لفرض عقوبات على المسؤولين السوريين.

“قانون قيصر”.. ثمرة الشجاعة

وبفضل شجاعة فريد المذهان، بدأت الحقيقة تتسرب إلى عيون العالم. في عام 2020، كان تأثير تسريبات “صور قيصر” واضحاً في السياسة الدولية. فأدى ذلك إلى فرض “قانون قيصر” الذي يحمل اسم “قيصر” تكريماً له، وهو قانون عقوبات أمريكي هدف إلى معاقبة النظام السوري على جرائمه ضد الإنسانية، بما في ذلك فرض عقوبات اقتصادية على أفراد وشركات تابعة للنظام.. هذا القانون جاء ليكون إنذاراً من العالم بأن الطغيان لن يبقى بلا حساب.

وقد أيدت دول عدة، بما في ذلك هولندا وفرنسا وألمانيا، هذا التحرك عبر إصدار مذكرات توقيف بحق كبار المسؤولين في أجهزة الأمن السورية، بناءً على الأدلة التي أظهرتها “صور قيصر”.. كانت هذه بداية مرحلة جديدة في تعزيز الضغط على نظام الأسد، ولكن مع ذلك، يبقى المذهان أكثر تأكيداً على أن العدالة الحقيقية تكمن في المحاسبة والمصالحة، لا في الانتقام.

فريد المذهان اليوم.. بطل معركة الذاكرة

رغم تقدير العالم لشجاعته، يظل فريد المذهان يرى في الكاميرا التي حملت له هذا العبء، رمزاً لألم لا يمكن نسيانه.. فهو لا يعتبر الكاميرا مجرد آلة تصوير، بل تذكيراً دائماً بالوجوه التي شاهدها وبالآلام التي كان شاهداً عليها.. تلك الصور التي حملها لم تكن مجرد تقارير باردة، بل كانت شهادات حية من أرواح أناس تم قتلهم بأبشع الطرق.

اليوم، يعيش المذهان في فرنسا، حيث يواصل عمله في فضح الجرائم السورية والعمل على تقديم دعم أكبر للمجتمع السوري. ومع ذلك، لا يزال يشعر بثقل الأمانة التي يحملها على عاتقه، ويؤمن أن العالم يجب أن يظل مفتوحًا على هذه الحقائق من أجل أن يبقى صوت العدالة مسموعًا.

إرث “قيصر

فريد المذهان لا يعد مجرد ضابط سابق أو ناشط حقوقي، بل هو رمز للإنسانية، ورمز للثبات في وجه قوى الظلم.. اختار أن يكون شاهداً على معاناة شعبه، فكان شاهداً حياً على مذبحة حقيقية.. في عالمنا اليوم، حيث يكثر التكتم على الحقائق، لا يزال “قيصر” يمثل صوتاً حقيقياً لا يمكن كتمه، رسالة للإنسانية بأن الظلم مهما طال، لا بد أن تُكشف حقيقته، وأن الصوت البشري الذي يطالب بالحرية والعدالة سيظل يصدح حتى لو كان وسط أعظم المحن.

زر الذهاب إلى الأعلى