دلالات وقضايا | أبجديَّة أوجاريت والأمن السِّيبرانيُّ
مهنَّا بلال الرَّشيد
قد يبدو من المغالاة بمكان أن نجمع بين قضيَّة الأمن السِّيبرانيِّ المعاصرة وأبجديَّة أوجاريت القديمة في عنوانِ مقالٍ واحدٍ؛ وذلك للتَّباعد الزَّمنيِّ الكبير بين هذين الموضوعين، ويفصل بينهما حوالي (3500) سنة، حيث ترجع أوائل النُّصوص اللُّغويَّة المدوَّنة بأبجديَّة أوجاريت في رأس شمرا على سواحل اللَّاذقيَّة شمال سوريا إلى ما بين (1500-1200) قبل الميلاد، أمَّا قضيَّة أمن المعلومات السِّيبرانيِّ فهي قضيَّة معاصرة وراهنة، وتتنافس الدُّول العظمى فيما بينها حول قدرة كلِّ واحدة منها على حماية أمنها السِّيبرانيِّ واختراق الأمن السِّيبرانيِّ أو أمن المعلومات السِّرِّيَّة لدى غيرها، ولكنَّنا سنكتشف أنَّ الإيبلاويِّين من كُتَّاب القصر الملكيِّ في إيبلا هم أوَّل مَن أدرك أهمِّيَّة أمن المعلومات السِّيبرانيّ بعد أن غزاهم سرجون الأكديُّ (2270-2215) قبل الميلاد، وأحرق حفيده نارام سين (2209-2155) مكتبة قصرهم الملكيِّ؛ فلم يستطع كُتَّاب القصر الملكيِّ في إيبلا بسبب ظروف الحرب وألسنة اللَّهب المشتعلة في المكتبة أن يحملوا إلَّا عدداً قليلاً جدًاً من المعلومات المهمَّة والمخزَّنة على ألواح الطِّين في رفوف مكتبة مملكتهم، الَّتي ضمَّت حوالي (15000) رقيم أو لوح طينيِّ، واشتملت على تاريخ العالم القديم ومعاهداته وعلومه وفنونه وآدابه وأساطيره في الألف الثَّالث قبل، ثمَّ استطاع تجَّار إيبلا بسرعة كبيرة أن ينهضوا بالتِّجارة والاقتصاد حين استقرُّوا في حلب (ALEPPO) أو (ELPA) وهي مقلوب كلمة (EBLA) عند قراءتها من اليسار إلى اليمين، وقد أشرنا إلى ذلك أكثر من مرَّة وفي أكثر من مناسبة من خلال زاويتنا الأسبوعيَّة هذه.
والحقُّ أنَّ نهضة التَّاجر بعد خسارته في صفقة مهمَّة أو بعد تعرُّض قافلته للنَّهب أو بعد سرقة ممتلكاته أسهل بكثير من نهضة العالِم إذا ما أُحرقت كُتبه، أو سُرقت أفكاره، أو سُيْطِر على قلمِه أو مجهوده الفكريِّ؛ لأنَّ التَّأسيس والبناء المادِّيَّينن أسهل بكثير من التّأسيس والبناء الفكريِّ؛ ومن هنا ندرك أهمِّيَّة التَّحدِّي التَّاريخيِّ الكبير، الَّذي وضعه غزو نارام سين على الأوجاريتيِّين من أحفاد الإيبلاويِّين حين استقرُّوا على سواحل اللَّاذقيَّة شمالَ سوريا في أوجاريت أو رأس شمرا بعد الغزو؛ ولأنَّ الحاجة أمُّ الاختراع كان الكُتَّاب والمفكِّرون وعلماء الفيلولوجيا الأوجاريتيُّون على َقْدِر المسؤوليَّة وعلى قدر التَّحدِّي، وإنَّهم-وإن تأخَّروا حوالي (700) سنة بعد غَزْوِ مملكة أجدادهم في إيبلا -فإنَّهم استطاعوا أن ينهضوا بالبشريَّة كلِّها وبالفكر البشريِّ عامَّة، وقدَّموا للإنسانيَّة الأبجديَّة؛ تلك الهديَّة العظمى، الَّتي يمكننا أن نسمِّيها وبكلِّ ثقة: (كُبرى المنجزات الحضاريَّة في العالم) منذ نشأة الكون حتَّى لحظة كتابة هذا المقال، وسنوضِّح هذه الفكرة في الفقرة الأخيرة من مقالنا هذا.
مملكة إيبلا وأبجديَّة أوجاريت تاريخ عظيم لا يمكن اختزاله:
دخل إلينا أستاذ النَّحو والصَّرف في السَّنة الثَّالثة في قسم اللُّغة العربيَّة في جامعة حلب سنة (2003) في مطلع الألفيَّة الميلاديَّة الثَّالثة، وكتب على السُّبَّورة كلمة (حتَّى)، وقال لنا: محاضرتنا اليوم عن (حتَّى)؛ فضحكنا؛ لأنَّنا توقَّعنا أن ينتهي درسنا خلال ربع ساعة؛ ثمَّ كانت المفاجأة بعد أن أملى علينا أستاذنا الدُّكتور (ظافر يوسف) حفظه الله، حوالي (15) صفحة عن أقوال العلماء والنَّحويِّين والكوفيِّين والبصريِّين في معاني حتَّى واستعمالاتها، وقال لنا: أنا بالطَّبع أختصر لكم، ويمكنكم الاتِّساع من خلال قراءة: (المغني اللَّبيب) أو قراءة (كتاب) سيبويه، وقال: (حتَّى حتحتت أو حتَّتت قلوب العلماء)، وإن كان هذا شأن حرف من حروف العربيَّة مثل (حتَّى) أو (الهمزة) أو (ال) التَّعريف، فلا شكَّ أنَّ المشتغلين بتفكيك الخطاب وتحليل النُّصوص الخالدة يدركون تمامًا أنَّنا يمكن أن نؤلِّف كتابًا كاملًا حول آية قرآنيَّة كريمة أو بيت شعرٍ عظيم مثل قول أبي فراس الحمدانيِّ:
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يطلبِ الحسناءَ لم يُغلِها المهرُ
وإن استطعنا تدبيج كتاب كامل عن حرف من حروف العربيَّة أو آية من آيات القرآن الكريم أو بيت شعر من الشِّعر العالي فكيف يمكن لنا أن نفهم لوحاً طينيّاً من ألواح إيبلا دون أن نعرف كثيراً من أسرار المنطقة وتاريخها؟ بل كيف لنا أن نختزل حضارة عظيمة مثل حضارة إيبلا بكتاب تعريفيٍّ بسيط مثل كتاب (وثائق إيبلا) للأستاذ عفيف بهنسي؟ وإن كان هذا شأن إيبلا ولُغتها، فكيف لنا أن نختزل الحديث عن (أبجديَّة أوجاريت) أمِّ أبجديَّات العالم الحديث كلِّها في مقال واحد أو في بضعة مجلَّدات؟
لا شكَّ أن المسألة أكبر من ذلك بكثير؛ ولكن يجب أن نفهم بدقَّة ماذا فعل الأوجاريتيُّون في ظلِّ زحمة الحديث عن تأصيل لغات العالم وشعوبها، وردِّ الأصول البشريَّة إلى (سام، وحام، ويافث) من أبناء نوح عليه السَّلام مرَّة، وردِّها هذه الأصول إلى تطوُّر بيولوجيٍّ عن مجموعة من القِردة مرَّة أخرى، والحقُّ لدينا نقدٌ موضوعيٌّ لهذين التَّصوُّرين، ولا يتَّسع المقال للحديث عنه ههنا؛ ويمكن أن نعود لهذه الفكرة في مقال آخر؛ لكنَّنا نحتاج إلى عرضٍ سريع عن واقع الكتابة وأمن المعلومات السِّيبرانيِّ قبل اختراع أبجديَّة أوجاريت في رأس شمرا.
واقع الكتابة وأمن المعلومات السِّيبرانيِّ قبل اختراع أبجديَّة أوجاريت:
عانى كُتَّاب القصور الملكيَّة في بابل وإيبلا ومصر الفرعونيَّة من مسألتين متناقضتين في ظلِّ صعوبة الكتابة على ألواح الطِّين والحجارة في العصور القديمة، فقد كانوا محتاجين لتدوين كلِّ شيء؛ لأنَّ الحروب بين هذه الممالك المتصارعة صارت مع مرور الزَّمن حروب علم ومعرفة، وقوَّة أيِّ مملكة منها سوف تتحدَّدُ بما لديها من علوم ومعارف وخبرات وعساكر وجنود مدرَّبين؛ وهذا يفرض على كُتَّاب القصور الملكيَّة أن يكتبوا كلَّ شيء؛ وتُسهم كتابة كلِّ شيء في اتِّساع اللُّغة، وزيادة وثائقها ومدوَّناتها، وسيكشف هذا الاتِّساع عن الحاجة الملحَّة إلى مزيد من الجدران والجداريَّات وألواح الطِّين ومساحات الكتابة والتَّخزين للتَّدوين عليها، وكذلك لا بدَّ من تطوير نظام الكتابة؛ لتمكين ألواح الطِّين ومساحات التَّخزين الصَّغيرة من استيعاب أكبر قدر ممكن من المعلومات، لكنَّ تطوير نظام الكتابة يحتاج إلى فكرة عبقريَّة، تلبِّي أو تدمج حاجتين شبه متناقضتين في نظام تدوينيٍّ واحد؛ فتساعد بذلك على اختزال المعلومات وتعليمها بالقراءة والكتابة للأجيال القادمة من جانب، وتحفظ أكبر قدر ممكن من المعلومات من جانب آخر، وإن مثَّلت معاجم إيبلا ثنائيَّة وثلاثيَّة اللُّغة قوائم مختزلة ضروريَّة للتَّرجمة والتَّعليم والتَّواصل مع الأمم الأخرى فإنَّها ليست إلَّا حلول مؤقَّتة سيحتاج المدوِّنون إلى تكرارها كلَّما اتَّسعت اللُّغة بين آونة وأخرى.
واستحقَّت فكرة التَّخلِّي-مع مرور الزَّمن-عن تصوير مشاهد البطولة أو رسمها عن طريق التَّقليد الواقعيِّ أو المحاكاة والانتقال إلى الكتابة الرَّمزيَّة الخالصة بالحرف المسماريِّ ما يليق بها من احترام وتقدير، ولولا كتابة الكلمات الأكديَّة والإيبلاويَّة بالحرف المسماريِّ الرَّمزيِّ الخالص والمتطوِّر نسبيًّا عن الرَّسم التَّصويريِّ والكتابة الأيقونيَّة؛ لاحتجنا إلى الآلاف من ألواح الطِّين لتدوين ملحمة جلجامش بالصُّور أو التَّمثيل الأيقونيِّ أو الواقعيِّ؛ لأنَّ كلَّ عبارةٍ من هذه الملحمة تحتاج إلى مشهد على جدار، وكلُّ جملة تحتاج إلى لوح طينيٍّ على أقلِّ تقدير؛ وهنا تبدو لنا جليَّة كميَّة التَّكثيف الدَّلاليِّ في الكتابة الرَّمزيَّة عند مقارنتها بالكتابتين التَّصويريَّة والأيقونيَّة؛ فتحدِّي تطوير مساحات التَّخزين لحفظ أكبر قدر من المعلومات حفَّزَ كُتَّاب القصور الملكيَّة على البحث الدَّائم عن وسائل لتطوير نظام الكتابة وحفظ المعلومات وجعلها أكثر أمنًا معلوماتيًّا أو أمنًا سيبرانيًّا (Cyber Security) من جهة، وجعلها أكثر محموليَّة (Portable) من جهة أخرى؛ وفكرة تصغير أحجام الأجهزة اللَّوحيَّة (Tablets) وتحويل الحواسيب إلى حواسيب أكثر محموليَّة؛ لتسهيل نقلها من مكان إلى آخر خلال أيَّام السَّفر أو العمل أو الحرب ترجع إلى مرحلة قديمة تنافسَ فيها كُتَّاب بابل وإيبلا ومصر الفرعونيَّة على تطوير ألواحهم وأنظمتهم الكتابيَّة وحماية أمنهم المعلوماتيِّ أو السِّيبرانيِّ؛ لإدراكهم أنَّ قوَّة أيِّ دولة تتمثَّل بمقدار ما لديها من علماء وعلوم ومعارف، وأدركوا أن حروب المستقبل هي حروب معرفيَّة وحروب أمنٍ سيبرانيَّة.
صار الحرف الواحد يدلُّ على كلمة واحدة، وصارت الكلمة الواحد تدلُّ على حرف واحد في معظم كلمات اللُّغات المدوَّنة بالحروف المسماريَّة القديمة الأولى في كلٍّ من بابل وفارس وإيبلا وغيرها، وكانت الحروف والكلمات الهيروغليفيَّة تتطوَّر بطريقة أيقونيَّة ورمزيَّة في مصر الفرعونيَّة حوالي (2500) قبل الميلاد، وفي معظم الكلمات المسماريَّة الأولى تَمَثَّل حرف (العين) بصورةَ (عين) الإنسان، ودلَّ على معنى (العين) ذاتها، ثمَّ تمثَّل هذا الصَّوت اللُّغويِّ بَحَفْرِ مجموعة مسامير متراكبة على لوح الطِّين، عندما بدأ الكُتَّاب يُبسِّطون أُسلوب الكتابة، ويتخلُّون عن معظم التَّشابهات الأيقونيَّة بين شكل الحروف أو الدَّوالِّ الكتابيَّة ومعانيها أو مدلولاتها الَّتي تدلُّ عليها؛ وهذا يعني أنَّه كان هناك تداخل إلى حدٍّ بعيد بين مفهوم الحرف والكلمة، ونلحظ مثل هذا في حرف (الثَّاء) الَّذي يرمز إلى صوت (ث) في العربيَّة، ويدلُّ على معنى (الثَّور)، وما زال شكل هذا الحرف في اللُّغة العربيَّة أو الخطِّ العربيِّ المعاصر يشبه قرنين ناتئين من طرفي رأس الثَّور، ولعلَّكم تعلمون أنَّ تنقيط الحروف العربيَّة جاء بعد تدوين مصحف عثمان بن عفَّان رضي الله عنه؛ ونخلص من هذا كلِّه إلى أنَّ عدد حروف اللُّغة وعدد كلماتها كانا شبه متطابقين في هذه المرحلة التَّاريخيَّة، وتعرَّضت هذه الحروف أو الكلمات لاختزالات متلاحقة بعد كلِّ اتِّساع لغويٍّ؛ للحفاظ على ألفاظ قلب اللُّغة؛ وهذا ما يُفسِّر وجود ما يقرب من (600) حرف في اللُّغة الصِّينيَّة، ويفسِّر أيضًا احتواء اللُّغة اليابانيَّة على (2000) حرف تقريبًا.
في الفرق والتَّشابه بين دقَّة نظام التَّصوير ودقَّة نظام الكتابة:
أدرك الأوجاريتيُّون من أبناء الإيبلاويِّين وأحفادهم نتيجة لحسرتهم على ما تركوه من مدوَّنات أحرقها نارام سين حين غزا (إيبلا) أو (تلّ مرديخ) في إدلب أنَّهم لن يستعيدوا مجد أجدادهم في التِّجارة والتَّدوين والكتابة إن لم يحلُّوا معضلة تطوير نظام التَّدوين لمراعاة التَّكثيف الدَّلاليِّ وسهولة النَّقل والتَّخزين والحفاظ على الأمن السِّيبرانيِّ؛ ولأنَّهم لم يحملوا معهم إلَّا قليلًا من ألواح كتبوا فيها أرشيف العالم القديم؛ فقد أصرُّوا على البحث عن طريقة في تطوير نظام التَّدوين، ويمثِّل فصل التَّداخل الكبير بين الكلمة والحرف نقطة البداية لأيِّ فكرة تطوير جوهريَّة؛ لذلك كان لا بدَّ لهم من تحليل الكلمة إلى حروفها أو تبسيطها إلى حروف أو إلى أصوات أو فونيمات جزئيَّة، وهذا يحتاج إلى إعادة النَّظر في طريقة تدوين القدماء أو تحطيمها وإعادة بنائها مجدَّدًا؛ وههنا سأستعين (بصورة السَّاعة على التِّلفزيون السُّوريِّ في ثمانينات القرن الماضي)؛ لتبسيط الفكرة للقارئ الكريم، فإن تذكَّرتم معي دَنْدَنَات العود المترافقة مع صورة ما قبل بدء البثِّ وعند انتهاء البثِّ؛ فهي صورة ساعة فيها بضعة مستطيلات ملوَّنة؛ هي تمامًا تشبه مرحلة تطابق الحروف والكلمات في الكتابات المسماريَّة القديمة، وإن استطاع علماء التِّكنولوجيا تحليل هذه المستطيلات الكبيرة إلى بيسكلات (Pixels) صغيرة سيكون بإمكانهم دَمجُ البيكسلات، وبثُّ الصُّور الملوَّنة الثَّابتة والمتحرِّكة بتقنيَّة (4K) فيما بعد، ولِمن لا يَعرفُ البيكسل: فهو أصغر عنصر منفرد في مصفوفة نقطيَّة يمكن أن يتلوَّن بأيِّ لون من ألوان الطَّيف؛ أي هو نقطة صغيرة جدًّا بحجم رأس الإبرة، وكلَّما كان الفنَّان أو الرَّسَّام أو صاحب التَّطبيق الإلكترونيِّ مبدعًا استطاع أن يقدِّم صورة واضحة جدًّا، وفيها دقَّة عالية من الجودة والصَّفاء والبيكسلات، في حين تبدو صورة السَّاعة بالمستطيلات الملوَّنة صورة شبه مشفَّرة لا معنى لها، أو ليس فيها قيمة فنِّيَّة أو دلاليَّة كبيرة، ولن يستطيع مبدع التِّكنولوجيا تقديم الصُّور الواضحة حتَّى يتمكَّن من تحطيم المستطيلات اللَّونيَّة إلى بيكسلات صغيرة، وتحطيم نظام المستطيلات اللَّونيَّة الكبيرة إلى نظام البيكسل الجزئيِّ الدَّقيق محاكاة حقيقيَّة أو تقليد حقيقيٌّ لما فعله الأوجاريتيُّون حين اخترعوا نظام الأبجديَّة، أو حين طوَّروا نظام الكتابات المسماريَّة أو حين حطَّموا الكلمات المسماريَّة الكبيرة، وحوَّلوها إلى فونيمات أو أصوات جزئيَّة صغيرة، وبنوا منها نظام الكتابة الأبجديَّة العالميَّ؛ فكيف كان ذلك؟
كيف اخترع الأوجاريتيُّون الأبجديَّة في رأس شمرا على سواحل سوريا الشِّماليَّة؟
في فكرة جوهريَّة عظيمة تُعدُّ من (السَّهل الممتنع) أدرك الأوجاريتيُّون أنَّ نُطقَ جميع الكمات يصدر عن مخارج الأصوات في (الحلق واللَّهاة والخياشيم والشِّفاه واللِّثَّة والأسنان) لدى الإنسان؛ وحاولوا حصر مخارج هذه الأصوات فوجدوها (30) مخرجًا؛ فرمزوا بحروف الأبجديَّة الجديدة لأصوات مخارج الحروف بدل الرَّمز بمسامير أو قوالب شكليَّة جاهزة لقوالب من الكلمات الطَّويلة، الَّتي توارثوها عن الأجداد، واضطرُّوا إلى اختزالها كلَّما اتَّسع عدد مفردات لغتهم بسبب تطوُّر الحياة، وكانت النَّتائج ثوريَّة مذهلة إلى حدٍّ بعيد؛ فالنَّظام الأبجديُّ الجديد الَّذي يمثِّل لمخارج أصوات البشر بدلَ تمثيل الكلمات بطريقة أيقونيَّة متشابهة مع الأصل أو طريقة رمزيَّة معدَّلة أو مبسَّطة عن الطَّريقة الأيقونيَّة قادر على استيعاب كلِّ الكلمات القديمة؛ لأنَّها في المحصِّلة كلمات وأصوات لا بدَّ لها من أن تخرج جهاز النُّطق البشريِّ؛ لكن سينتج عن هذا أصوات أو تسميات مختلفة لشيء واحد؛ فالشَّجرة كلمة عربيَّة، ولها أسماء متعدِّدة في معظم لغات العالم وأبجديَّاته؛ فهي في الإنكليزيَّة (Tree) وفي التُّركيَّة (ağaç) مع أنَّ هذه اللُّغات الثَّلاث تستخدم نظام الكتابة الأبجديَّة نسبة إلى ترتيب الحروف في أبجديَّة أوجاريت (أ، ب، ج، د) أو (أبجد، هوَّز…)، ثمُّ تطوَّر هذا النِّظام إلى نظام (ألفبائيِّ) أو (Alphabet) حين أعاد المعجميُّون العرب ترتيب الحروف العربيَّة-الأوجاريتيَّة من نظام (أبجد هوَّز…) إلى نظام (ألف باء تاء ثاء)، وذلك بهدف جمع الحروف المتشابهة رسمًا (مثل: ب، ت، ث، ج، ح، خ)؛ ليكون الحرفُ الشَّبيهه مجاورًا لشبيهه في الكتابة.
حطَّم الأوجاريتيُّون نظام القوالب الكتابيَّة المسماريَّة الشَّكليَّة الكبيرة الممثِّلة للكلمات المنطوقة، وتمكَّنوا من تحليل الكلمة إلى أصواتها أو فونيماتها بعد أن كان مفهوم الكلمة متداخلًا مع مفهوم الحرف، وبسَّطوا الكلمة إلى حروف يُرمز لها بحسب مخارج أصواتها بدلًا من التَّرميز للكلمة بوصفها كتلة واحدة، ومثَّلوا للأصوات ومخارج الحروف برموز أو (حروف أبجديَّة)؛ فاستوعبوا أنظمة الكتابة لدى كلِّ مَن تعاملوا معهم بالتِّجارة؛ فانتشرت لغتهم وأبجديَّتهم انتشار النَّار في الهشيم، واستوعب هذا النِّظام اللُّغويُّ (الصَّوتيُّ والتَّدوينيُّ) المتكامل بسهولة كلَّ اللُّغات واللَّهجات المتشابهة مع لغة أوجاريت ولهجتها؛ بدءًا من لغة الآباء والأجداد في إيبلا الشِّماليَّة الغربيَّة حتَّى لغة الحروف المسنديَّة في اليمن حتَّى وإن اختلف رسم الحرف الدَّالِّ على مخرج الصَّوت من مكان إلى آخر، ولا يهمَّ ههنا إن رسمنا صوت الهمزة بالشَّكل العربيِّ (أ) أو الشَّكل اللَّاتينيِّ (A)؛ لأنَّ تمثيل مخرج الصَّوت بشكل خارجيٍّ مسألة ثانويَّة ليست من جوهر اللُّغة ذاتها، فالكلمات الأكديَّة والإيبلاويَّة مُثِّلت بحروف مسماريَّة، والكلمات الفارسيَّة والعثمانيَّة مُثِّلت بحروف عربيَّة-أوجاريتيَّة، والكلمات الإنكليزيَّة والفرنسيَّة مُثِّلت بحروف لاتينيَّة، والمذهل أنَّ جميع هذه اللُّغات المذكورة أخذت النِّظام الأبجديَّ من التُّجَّار الأوجاريتيِّين.
ويمكن أن نختم هذا المقال بإشارات تستحقُّ من علماء الفيلولوجيا أو علماء فقه اللُّغات المقارن أن يقفوا عندها في بحوثهم المستقبليَّة بعد قراءة هذا المقال؛ مثل قضيَّة التَّوافق الكبير بين نظام التَّدوين الأوجاريتيِّ ونظام التَّدوين المسنديِّ في اليمن؛ فهذا عندي دليل على الأصول المشتركة لدى الشُّعوب العربيَّة من حلب وإدلب وإيبلا وتلّ مرديخ حتَّى جنوب اليمن؛ لأنَّ أيَّ مدوَّنة لغويَّة أكثر ما تُحقِّق انتشارها الواسع بين أبنائها النَّاطقين بها، حتَّى وإن اختلفت طريقة رسم الهمزة أو الياء أو أيِّ حرف من الحروف من مكان إلى آخر، ويمكن لعلماء اللِّسانيَّات أن يُعيدوا النَّظر في قضايا مهمَّة جدًّا مثل: توقيفيَّة اللُّغة وإلهامها، ودور أبجديَّة أوجاريت في اعتباطيَّة العلاقة بين الدَّالِّ والمدلول في لُغات العالم، ويمكن مقارنة هذا الدَّور بآراء فرديناند دو سوسير (1887-1916) حول اعتباطيَّة العلاقة بين الدَّالِّ والمدلول أو بين الكلمة ومعناها، واختلاف تسمية الشِّيء الواحد من لغة إلى أخرى، والاقتراض اللُّغويِّ أو تشابه تسمية الشِّيء الواحد بين لغتين متجاورتين أو لُغتين متباعدتين، وإلماحات نعوم تشومسكي (1928-) المشرِقة حول نظريَّة الدَّمج أو دمج كثير من الأشياء في شيء واحد؛ وههنا لا أستغربُ أبدًا أن يكون العالم الأمريكيِّ من أصول سوريَّة ستيف جوبز (1955-2011) هو الَّذي دمج كلَّ التِّقنيَّات في هواتف (Apple) المحمولة، ولا نستغرب أبدًا أن يخترع الدُّكتور حاتم زغلول؛ العالم المصريَّ الَّذي يحمل الجنسيَّة الكنديَّة نظام (Wi Fi)؛ فهذان عالمان يحملان جينات ومورِّثات من آباء بنوا حضارات عريقة قبل أكثر من (4500) سنة.
اُكتشفت مملكة أوجاريت سنة (1928) بالصُّدفة، واستدلُّوا عليها من خلال ذِكرها في لوح من ألواح إيبلا باسم (أوغارو)؛ أي (الحقل)؛ وهذا ما يدلُّ على أنَّ مملكة أوجاريت جزء لا يتجزَّأ من مملكة إيبلا، وكانت تمدُّ المملكة بالمنتجات الزِّراعيَّة، وإن أحرق نارام سين مركز العاصمة في تلّ مرديخ فقد استعصى عليه ملاحقة التُّجَّار إلى تقاطع طرق التِّجارة العالميَّة في حلب، وصعُب عليه ملاحقة الكُتَّاب وتُجَّار البحار إلى مرفأ أوجاريت؛ فاستجاب الأوجاريتيُّون من أبناء الإيبلاويِّين وأحفادهم لهذا التَّحدِّي الكبير-وفقًا لنظريَّة أرنولد تويمبي في التَّحدِّي والاستجابة (1889-1975)-بأفضل طريقة ممكنة، واخترعوا الأبجديَّة، الَّتي ننعم بها جميعًا؛ أنا حين أكتب هذا المقال؛ وأنت قارئي العزيز تنعم بها حين تقرأ الآن؛ أنا أكتب، وأنتَ تقرأ هذه الكلمات بنظام أجدادنا الأبجديِّ، وينعم كذلك كثير من سكَّان العالم بهذا الاختراع دون أن يشعروا بلذَّته وحلاوته، ثمَّ دثرَ الزَّمان مملكة أوجاريت، حتَّى اُكتشفت-كما قُلنا-صُدفة سنة (1928)، مثلما اُكتشفت مملكة إيبلا بالصُّدفة أيضًا سنة (1964)، وفي سنة (1931) نشر العالمان الفرنسيَّان (شارل فيروللو) و(إدوار دوروم) بعض النُّصوص من أبجديَّة أوجاريت بعد أن فكَّا رموزها بمساعدة آخرين، وتبيَّن لهم أنَّها لغة (ساميَّة نسبة إلى سام بن نوح إن صحَّ هذا النَّسب) أو (شماليَّة غربيَّة مثل لغة إيبلا في تلِّ مرديخ وإدلب تمامًا)، ثمَّ أسهم (جيوفاني بيتيناتو) (1934-2011) مع رئيس البعثة الإيطاليَّة (باولو ماتييه) (1940-) ومساعده (ألفونسو أركي) في فكِّ شيفرة لغة إيبلا، لكنَّ كثيرًا من التَّعتيم والتَّجهيل يُفرض على السُّوريِّين حول وثائق أجدادهم في إيبلا وأوجاريت، ولا يعلمون من نتائج دارسة هذه الوثائق غير الكتابة الوصفيَّة والشَّذرات البسيطة الَّتي قدَّمها الأستاذ عفيف بهنسي عن (وثائق إيبلا)، وقد أُقصي الباحث الإيطاليُّ جيوفاني بيتيناتو عن عضويَّة لجنة التَّنقيب الإيطاليَّة، وأشار منذ عام (1981) إلى ضرورة تحرِّي الموضوعيَّة ونشر نتائج التَّنقيب ودراسة النُّصوص وعرضها لأهلها في إيبلا وأوغاريت وحلب واللَّاذقيَّة وسائر سوريا وسائر علماء الفيلولوجيا وأحرار العالم بعيدًا عن أيِّ تحيُّز غير موضوعيٍّ، ومات جيوفاني بيتيناتو- رحمه الله- سنة (2011) دون أن يرى نتائج دراسة وثائق إيبلا منشورة باستثناء ما نشره هو، وعلاوة على ذلك كرَّم المجرم بشَّار الأسد رئيس بعثة التَّنقيب الإيطاليَّة في إيبلا باولو ماتييه، ومنحه وسام الاستحقاق من الدَّرجة الممتازة في ذكرى نكسة حزيران تحديداً؛ أي في الخامس من حزيران (2023)؛
فلماذا لم تُنشر نتائج دراسة وثائق أوجاريت؟ ولماذا لم تُنشر نتائج دراسة وثائق إيبلا؟ ولماذا حورب جيوفاني بيتيناتو؟ ولماذا يُحرم السُّوريِّون من الاطِّلاع على لغة أجدادهم وتُراثهم العريق؟ وأين هي رُقم إيبلا ورُقم أوجاريت؟ ولماذا اختار المجرم بشَّار الأسد يوم الخامس من حُزيران ليُكرِّم باولو ماتييه؟ إنَّها أسئلة ونقاشات كثيرة جدًّا مررنا بها خلال مقالنا هذا اليوم.