أرشيف المجلة الشهرية

القصص التي تكتبنا ما أصعب قراءتها!

إيمان الجابر – العربي القديم

لا تجيد السباحة، إذن لا تقفز إلى النهر؛ لتثبت كيف يمكنك أن تغرق بسهولة، لا تسكن غرفة بلا نوافذ، ارمِ جسدك، فوق أقرب رصيف، ولا تمت مختنقاً بوحدتك، من يصنعون تابوتاً لك؛ لأنّك أصبحت ميتاً لا ترزق، لا تستسلم لهم، حتى لو كانوا أولاد قلبك، وحدك تعلم أنّك ما زلت حياً، حقيبة المرأة التي سقطت من يد سارقها، أنت التقطتها، لا تسلمها لشرطيّ، يهتمّ بإنجاز عمله بسرعة، حينها تكون أنت اللص.

 في عالم “زكريا تامر” القصصي، عليك أن تكون صبوراً، متقشفاً، قنوعاً، لا تطالب بالتشويق والمتعة، كن مستعداً للصدمات، خذ استراحة بعد نهاية كلّ قصة أو ما تظنه نهاية، هو فقط أغلق الباب عليها، وسيعود بعد قليل.

 المدينة ناسها من حجر، يعتقد أحد أبنائها أنّه عدوها المجهول، ترقد في جيبه سكينٌ عتيقة، لها تاريخ رهيب من التعوّد على القتل، لو أصبح ملكاً أوّل ما سيفعله، هدم المعامل، تحطيم الآلات، وستصبح المدينة قرية تزهو بأطفالها الكبار بعد رحيل الجواد الأبيض، سيخرج الملك من حلمه، يخرج السكين من جيبه، يستبدل بها كأس شاي.

في قصص أخرى قد تلتقي رجالاً يشبهونك، هم مثلك تماماً بلا ملامح، لترافق أوّل سكران يستوقفك قبيل الفجر؛ ليكمل سهرته معك، في المقبرة تغني معه، حتى ينهض الأموات من قبورهم، وهم يصرخون (لهون لاحقينا).

لا تصدق أن حبيبتك ذُبحت بسكين الأب أو الأخ، الجميع كان مشاركاً، ستكون محظوظاً إن سمحوا لك أن تُدفن معها.

انتهيت من القصة الأولى، بدأت بالثانية، شعرت بالاختناق، ازداد تورطي في المتابعة، ثمة ما يغريني ويشدني، لا أعرف ما هو، ربّما في القصة القادمة، سأكتشف السرَّ الذي قادني، لدخول هذا العالم الغريب (النمور في اليوم العاشر)، ثمّ (صهيل الجواد الأبيض). حملت في قلبي قنديلاً؛ لإضاءة دهاليزه المعتمة، وكثيراً من الصبر.

شخصيات لا بدايات لها ولا نهايات، تتحدث فجأة بأصوات مكتومة، حاولت الصراخ، وتعبت قبل وصولي، رجلٌ تقوقع على نفسه في زاوية المقهى الوحيد الذي يعرفه، صبيةٌ مرمية فوق سرير من حجر، تحاكي عصفوراً أبيض، تظنه كان إنساناً، وجثةٌ تحاول النهوض من قبرها؛ للعودة لحياة نسيت أن تعيشها، (واستفاق في نفسي حنين جارف إلى مدينتي التي أبعدني عنها الموت فقط ، فقلت لنفسي: ماذا سأخسر لو عدت إلى العالم؟).

ليست هناك مسافة كبيرة بين الحياة والموت. كيف ستعرف أنّك حي، ولست ميتاً، إن لم يكن هناك اثباتٌ غير الألم والشعور القاتل بالوحدة والعزلة القسرية؟

كلّ قصة نجوتُ منها، كنت أجد فيها ما يخصني، تلك الغرفة التي سكنتها يوماً تشبه غرفة (الرجل المتعب بلا ضوء، صامتة، سوداء، علبة صغيرة من الحجر الرطب، أعود إليها دون حنين)، بعد تشرد طويل في شوارع دمشق، تلك التي تمنّيت لو خُلقت فيها، وعرفتها منذ زمن بعيد، قبل ولادتي بأعوام ، ربما هذا ما يجعلني أرغب في معرفة خفاياها، من خلال هذه القصص، وملاحقة مصائر شخصياتها الرمادية الداكنة، بأرواحها المهزومة إلى الداخل، سجينة أقفاص، قضبانها فولاذية غليظة،(سمعتها تعوي بغضب في أعماقي، لحظة التقت عيناي ببناء المعمل الذي طردت منه قبل أشهر، ابتسمت، وقلت لنفسي: هذا المعمل سيهدم باسم الإنسان في يوم من الأيام). قال الراوي بطل قصته الوحيد: ما أجمل أن يبقى الانسان صغيراً، تسكنه الأغنيات والأحلام، وهو في حضن أمه!

عرفت جزءاً من هذه المدينة التي تشبه مدينة (زكريا تامر) المنهكة، من ثقل البشر التي تمشي فوق أرصفتها، شوارعها، تؤكدها الانحناءات والحفر التي حدّدت مسارها، تظنه ذهاباً وإياباً، لكنّه ثباتٌ في المكان والزمان، لأقدام تنتعل أحذية يابسة، مثقوبة، مقيّدة بسلاسل غير مرئية، تدور حول نفسها، كلّ الطرقات تقود المشاة إلى مصائرهم المحتومة المرسومة لهم قبل ولادتهم، تضعهم بمواجهة واقع، لا يمكن تغييره إلا في أحلام اليقظة كحلٍّ اضطراري مؤقت!

(وبحركة يائسة من يدي أفرغت في جوفي كأس الويسكي دفعةً واحدة، ثم مسحت فمي بظهر يدي، ورحت أحدق إلى ما حولي، وتسمرت نظراتي على رجل بائس المظهر، يجلس على طاولة قريبة، كان يرتشف من كأسه بين الفينة والفينة رشفة ضئيلة، ثم يحملق لحظة، وبغتة ينفجر ضاحكاً ضحكة كئيبة أكثر من البكاء). شخوص هذه القصص قد تبدو لي مضلّلة، ربما كانت تتحدث عن نفسها، فيما هي تشير لآخر يجلس أمامها مثلاً.

تبدو لي مثل الملابس الجاهزة ذات التصميم الواحد، ولكن بمقاسات مختلفة، بلا وجوه واضحة.

أعتقد أن الكاتب ترك للقارئ مساحة؛ ليعيد ترتيب القصص، وكأنّها حكايات مسربة، مقطعة الأوصال، هاربة من زمنها، تخفي ملامح أبطالها كنوع من الحماية، على قارئها ملء الفجوات في ما بينها؛ ليحصل على صورة كاملة، جلية واضحة، إنها صورة لمجتمع عربي يعيش أفراده وحدةً رهيبة، وعندما يجتمعون يصبحون جموعاً غفيرة، تهتف لزعيم واحد، فتُمحى ملامحهم، وتسقط أساميهم من ثقوب جيوبهم الخاوية.

لكل شخصية نوافذ، ابحث عنها، افتحها، دع الضوء يتسرب إليها، وقليلاً من الهواء؛ لتستعيد صحوها، لتبوح لك بأسرارها، حينها ستكتشف أنّها هي ذاتها تتنقل بين القصص،

فهي تجيد لعبة الاختفاء والظهور، من وقت لآخر، كما تجيد التنقل بين القبر والقبو بسهولة.

(هأنذا مرة أخرى في قبوي، لا أقدر على الفرار من قبضته الحجرية).

ما أصعب أن تعيش ألم التجربة مرتين، ككاتب، قارئ، حين كتابتها، ثم قراءتها؛ لتكتشف أن هذه التجارب المتشابهة قد أغلقت أبواب روحك على ندوب لا تمحى!

قالت الأم لابنها: (هل جننت؟ إنك تتحدث وحدك)، نحن الذين قيلت لنا تلك الكلمات، لطالما سمعتها من أمي، وهي تدفعني للخروج من الغرفة؛ لمساعدتها في مسؤوليات البيت، والاهتمام بأخوتي. القصص التي تكتبنا، هي ذاتها، وإن اختلفت المدن والحارات، ونحن حين نروي، نقول: إنّها قصص لغيرنا، من يجرؤ على الاعتراف، بما كان يدور من حوارات داخلية مع شخصيات اخترعها، حاورها، ضحك معها، ثم بكى، وعندما اختلف معها قتلها.

(أمّا أنا فلا أتحدث عن مستقبلي؛ لأنّني أعرفه فهو سيكون كيومي هذا الذي أعيشه الآن)، ثم يهتف الرجل الزنجي في داخله: (ما أجمل أن أكون حياً!)، كطفل بريء، وُلد بعيداً عن المدن.

خلال اللقاء الأول والوحيد مع الأستاذ زكريا تامر في دمشق، اللقاء الذي غدا كأنّه حلم اليوم، عرّفني عليه الأستاذ عادل أبو شنب، مددت يدي لمصافحته سعيدة، يمكنني أخذ صورة مع هذا الكاتب المشهور، حتى لو لم أقرأ له كلمة!

وعدت نفسي أنني سأقرأ يوماً كلّ ما كتبه، نظرت إلى يدي، وأغلقتها على تلك اللحظة التي تشرفت فيها بمصافحته.

مهلاً، كنت صبية صغيرة، أسعى لمستقبل ملوّن بأحلامي الوردية، ماذا لو أنّني قرأت قصص (زكريا تامر) حينها؟!

كن بخير أيها الأستاذ، سأحلم بمصافحة ثانية في بلدنا سوريا.

____________________________________________

من مقالات العدد الحادي عشر من مجلة (العربي القديم) الخاص بزكريا تامر – أيار/ مايو 2024

زر الذهاب إلى الأعلى