فصل من رسالة دكتوراه: زكريا تامر... عالم الرماد والحرائق (1 من 2)
بدر الدين عرودكي – العربي القديم
حين قرأت خبر الإعداد لعدد خاص من مجلة (العربي القديم) حول زكريا تامر، سارعت للاتصال بالصديق محمد منصور كي أقترح عليه نشر الفصل التاسع من الجزء الأول من أطروحة الدكتوراه التي نوقشت في جامعة باريس شهر حزيران 1981 والتي حملت عنوان: “مخطط من أجل سوسيولوجيا الإبداع القصصي في سورية 1946 ـ 1970، أبحاث حول الرؤيتين القومية والاجتماعية في الرواية والقصة القصيرة”، وهو الفصل الذي خصص لقصص مجموعات زكريا تامر القصصية الأربع التي صدرت حتى ذلك الحين، والذي كتب في سياق وضمن الإطار الذي حدده العنوان العام: أي سياق دراسة سوسيولوجية للأعمال القصصية السورية، لا سياق نقد أدبي. ولعل الدراسة/ المحاضرة التي سبق أن ألقيتها في حلقة بحثية تحت إدارة جاك بيرك، الأستاذ في الكوليج دو فرانس، خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1979 والتي ترجمتها بعد ذلك إلى العربية ونشرتها في مجلة المعرفة السورية (العدد 216، شباط/فبراير 1980) حول “الحركة القومية والإبداع القصصي” تناولت فيها روايتين لمطاع صفدي وهاني الراهب، في إطار محاولة دراسة سوسيولوجية للرواية العربية، يمكن أن تقدم توضيحًا أكثر دلالة لنص هذا الفصل الذي اقتطعته من سياقه، في محاولة مني لتكريم كاتب كبير وصديق، لم يسبق له بطبيعة الحال أن اطلع على ما كتبته عن أعماله الأولى!
***
بالمقارنة مع مجموع الإنتاج القصصي السوري، وخصوصًا مع المبدعات المدروسة في الفصول السابقة، يمتاز مبدع زكريا تامر [1] بخصوصية اقتصاره حصرًا على شكل القصص القصيرة وأنه يؤلف كليّة متماسكة، يمكن اكتشاف بذورها في أولى كتاباته عام 1956. وستحمل تلك التي تلتها حتى عام 1973 ثمرات تلك البذور. بين هذين العاميْن، كتب زكريا تامر باستثناء قصص الأطفال، سبعين قصة قصيرة، تضمنتها أربع مجموعات: صهيل الجواد الأبيض، وهي تجمع قصصًا كتبت بين 1956 و 1959؛ ربيع في الرماد، تضم بعض القصص التي كتبها بين عامي 1960 و1963؛ الرعد، جمعت عددَا من القصص التي كتبت بين عامي 1967 (وبصورة أدق بعد هزيمة حزيران/ يونيو في الحرب العربية ـ الإسرائيلية) و 1970؛ دمشق الحرائق، التي ضمَّت أخيرًا فضلًا على القصص التي كتبت بعد عام 1970، تلك التي كتبت بين عامي 1963 و1967 ولم تنشر في المجموعات الثلاث السابقة [2].
يقدم المجموع المشار إليه عالمًا حالته الثابتة هي حالة الأزمة (سواء تفكك الوحدة السورية المصرية أو هزيمة حزيران/ يونيو 1967) ونتائجها في كل مجال/ السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والتنظيمي. يتجلى تعبيره في شكل شديد الخصوصية، يتجاور فيه الاجتماعي والتاريخي الواقع والحلم، وبموجبه تصير هذه الأزمة قابلة للإدراك قبل أن تتجلى فجأة. أزمة مجتمع وثقافة، تكمن وراء انتصارات ظاهرية للأيديولوجيات أو هزيمتها المقنعة، وبالتالي أزمة مجتمع، كان بعض النقاد يظنون أنهم يكتشفونها في القصص المكتوبة بعد حزيران/ يونيو 1967، لأن الهزيمة كانت تعتبر مجرد حادث تاريخي عابر[3]؛ ومع ذلك، فإن السمات الجمالية ذاتها كانت تتواجد سواء في القصص التي كتبت قبل أو التي كتبت بعد عام 1967.
1) التاريخ حاضراً
سبع قصص [4] تبرز من المجموع، تصل بين مختلف عناصر بنية متميزة، من الممكن أن توضع تحت عنوان: “تنويعات تاريخية” تقول فيها القيم التي تتجسّد في شخصيات تاريخية أو في ضروب من واقع راهن.
ظهر هذا النمط من “التنويع التاريخي” في قصص زكريا تامر إلى النور من قبلُ في بعض قصص المجموعة الأولى، لكنه لم يتخذ شكله المكتمل وتتضح دلالاته إلا في عدد من قصص المجموعة الثانية: “الذي أحرق السفن” و”الجريمة“، مقدِّمًا إنجازًا فريدًا ولاسيما على الصعيد الجمالي. ويبدو غريبًا أن هذه القصة الأخيرة، المنشورة عام 1963، لم تسترع الانتباه في تلك الحقبة، في حين أن القصة الأولى التي نشرت للمرة الأولى عام 1968، على العكس، أسالت الكثير من الحبر، من دون أن تمسّ التعليقات كلها مع ذلك ما هو جوهري فيها: التشكيك في قيمة تاريخية إيجابية، جسّدها الفاتح طارق بن زياد. والواقع أن الاهتمام الذي نالته هذه القصة يرتد إلى أنها كتبت ونشرت بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967.
طارق في الوعي العربي، هو اسم فاتح إسبانيا. وقد أمر، بصفته قائد الجيش العربي، بحرق السفن التي نقلت جنوده عبر المضيق الذي حمل منذ ذلك الحين اسمه، مضيق جبل طارق؛ وخطب على إثر ذلك قبل المعركة في جيشه خطبته الشهيرة: “العدو أمامكم والبحر من و رائكم، وليس لكم إلا النصر أو الموت”. وقد جعل النصر الذي تبع ذلك من طارق نموذج الجرأة المطلقة والإيمان بالمستقبل والطموح الملتهب إلى ما هو مثل أعلى. يُبرِزُ زكريا تامر، باختياره هذه الشخصية، الجانب المحفّز لفعله الحاسم.
تتكوّن القصة من خمس حلقات صغرى. في الأولى، الاعتقال، فريق من الشرطة بوجوه متجهمة يحيطون مارًّا ويطلبون منه أوراقه. على هذا النحو يكتشفون أنه طارق، أي من يريدون توقيفه، ولأنه يرفض طاعتهم، ينتهون إلى إرغامه على السير معهم.
منذ البداية إذن، تهاجم السلطة القمعية، بشرطتها وسلوكها، القيمة التاريخية التي تمثلها شخصية طارق. مجاورة سياقيْن تاريخيين يجعل تعارضهما، بل وحتى تناقضهما، أكثر إقناعًا، وبذلك يستطيع القارئ بحق أن يتساءل عن سبب اتهام طارق في العصر الحاضر، ولماذا، خصوصًا، تعتمد السلطة اتهام مثل هذه الشخصية.
الحلقة الثانية، الاستجواب، تجيب عن هذه الأسئلة:
” طارق بن زياد، أنت متهم بتبديد أموال الدولة”.
” ــ مخطئون. أنا لم أبدد أية أموال”.
“ألست أنت الذي أحرق السفن؟”.
” ــ حرق السفن كان لابد منه لكسب النصر”.
” لا نريد سماع أعذار. أجب عن سؤالنا فقط. هل أحرقت السفن أم لم تحرقها؟”
” ــ أنا أحرقت السفن..”.
” وأحرقتها دونما إذن؟! لماذا لا تجيب؟ هل حصلت على إذن من رؤسائك بحرق السفن؟” [5].
من الواضح أن شخصية طارق الشهيرة مستخدمة من أجل نقد ميزات المبادرة، والاستقلال التي سمحت بانتصاره: ففي ظرف الهزيمة، لابدّ من صرف العقول عما هو جوهري: الانتصار، الذي لم تحققه هذه السلطة نفسها التي تتهم طارق. وهو ما يحمل هذا الأخير على أن يصير فجأة هو من يتهم:
” ــ أين كنتم وقت الحرب؟”.
” كنا نؤدي واجبنا”.
” نحن أيضًا حملنا السلاح”.
فصاح طارق بن زياد بصوت نزق: “حملتم السلاح وجلستم وراء المكاتب تحتسون الشاي والقهوة وتتحدثون عن الوطن والنساء” [6].
حمْل السلاح لا يعني القتال؛ هذا التأكيد يتجاوز دلالته الأدبية: لا شك أن هناك فرق كبير بين الكلام والفعل، بين النظرية والممارسة.
يُقاد القارئ في متابعته لمنطق الذين يستجوبون طارق، إلى أن يراه بوصفه قيمة، لا مجرد شخصية حقيقية؛ وفي الوقت نفسه، تدفعه التقنية القصصية إلى الوقوف على مسافة ما إزاء الوضعيْن التاريخيين، اللذيْن تحمله مقاربتهما على التفكير. إنه يعي آنئذ ما يعنيه توقيف طارق التاريخي في الظرف الراهن. هذا المقطع، هذا الذهاب والإياب بين حقبتيْن، يسمح بفهم درس التضاد التاريخي؛ ليس لأنه أحرق السفن هو ما يجعل من طارق متهمًا، ثم مُدانًا، بل لأنه استطاع أن يكون منتصرًا، وهو ما ينزع القناع عن السلطة الحالية ويرغمها على المراوغة. لكي يخرج من المأزق، عليه أن يعزل بأي ثمن الفعل التاريخي موضوع التجريم، من دون أي حساب لظروف تلك الحقبة، ولا للنتيجة. حين يبرر طارق نفسه مُذكِرًا أنه هزم العدو، يعترض قضاته على أن هذا التفصيل لا علاقة له بموضوع الدعوى!
ما الذي يمكن أن يعنيه حرق السفن، سواء في التاريخ أو في المخيّلة، سوى أن الانفصال عن الماضي هو شرط ضروري للتقدم نحو المستقبل؟
وطارق، الذي اتخذ مثل هذا القرار وحصل على الانتصار، يُقدَّم للقارئ بوصفه قيمة إيجابية حيّة، أي بوصفه تهديدًا مُحتملًا للقادة الحاليين، الذين يذكرهم بشرط كل تقدم. باتهامه وببتر المشكلة، تأمل السلطة أن تفلت من خضوعها للإدانة ثم للمحاكمة.
الحلقة الثالثة، مشروع خطبة، تعطي الكلمة للسلطة المعاصرة، عبر صورة سلبية لطارق، حبيس المعارضة الغريبة لموقف بعيد في العمق عن قيم الماضي والتي تعبر مع ذلك عن التاريخ الحاضر، مع اعتماد قاعدة الديماغوجية:
“… ومن أجل أن يظلَّ الوطن حرًّا سعيدًا، عشتم أيها المواطنون الشرفاء مئات السنين بلا خبز، عشتم بلا حرية، عشتم بلا كرامة، نسيتم الابتسامة، كرهتم الورد والقمر وأغاني الحب، فحمى الله اليوم وطننا الغالي من أخطار الخونة المتآمرين مع العدو”.[7]؛
خليط من ضروب الدناءة يحاول انطلاقًا من تأكيدات صحيحة أن يلوي عنق الحقيقة لصالح فكرة تجريدية عن وطن سعيد وحرّ.
هذان الموقفان يبرزان التضادّ بين ماضي التزام مطلق وحاضر الهروب والتهرب. بين إدانة (في الحلقة الثانية) و إعدام (في الحلقة الرابعة) للقيمة التي يمثلها طارق، يفرغ خطاب السلطة على امتداد هذه الحلقة الحالية مفهومَ الوطن من معناه؛ وهي طريقة أساسًا، قبل الأوان، للتخلص منه.
إنه إذن، في الحلقة الرابعة، الإعدام، “جثة” تاريخية “جاؤوا” لأخذها. على الرغم من موته منذ زمن طويل، إلا أن الحكم قد قُرِئ، ثم نفِّذَ حرفيًا: طارق، جثة، جرى شنقه. ضمن هذه الشروط، الأمل الوحيد الذي بقي للمواطن هو أن يموت: الحلقة الأخيرة، من مواطن مثالي، لا تتضمن سوى رسالة قصيرة، وجهها إلى مدير الشرطة:
“خضوعًا لأوامركم، أرجو السماح لي أن أموت…” [8].
لم تعد البطولة هي التغلب على العقبات كلها، ولا على إحراق السفن لفتح الطريق نحو المستقبل، بل الخضوع بكل بساطة للسلطة أيًا ما ستكون نتيجة ذلك: فالمعيار الذي حكم بموجبه على طارق يجعل من البطولة خيانة: تأتي بعد ذلك اللحظة التاريخية التي يتغير فيها النصر بفضل الديماغوجية السائدة ويتحول إلى هزيمة.
ما كان من الممكن لهذه القصة أن تكتب في واقع آخر غير واقع الهزيمة: ههنا فقط تجد سبب وجودها. لقد جرى تأليفها ونشرها، في الواقع، كما سبق وأشرنا، في عام 1968، في جو هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967 الملتهب. فهل كانت تبعًا لذلك قصة ظرفية، وبالتالي قصة عرضية؟
إذا كانت مثل هذه الكتابة مبررة بالظرف الذي ولدت فيه، فلا بد من الاعتراف أن الهزيمة هي هنا، في حاضر القصة. لكنها مع ذلك ليست هي وحدها الموجودة على المسرح، بل واقع مأزوم سابق عليها ويتجاوزها، صارت فيه القيم التي كانت إيجابية، من قبل، موضعَ تشكيك.
واقع وتشكيك لا يعودان إذن إلى عام 1967 حصرًا: فنحن نعثر عليهما من قبل، وقد قوربا بالطريقة ذاتها، ومع الكثافة ذاتها، ففي قصة الجريمة [9]، التي كتبت قبل ثمانية سنوات من ذلك، أي عام 1960، في ظل الوحدة السورية ـ المصرية، على إثر حملة القمع ضد الشيوعيين والتي يمكن اعتبارها، هي الأخرى، محض قصة ظرفية. ومن المؤكد أن مثل هذه القراءة ليست واجبة الاستبعاد ومن الممكن دعمها [10] لكن التاريخ المعنيّ يشحنها بدلالات تتجاوز إلى حد كبير مجرد تأثير الحدث الآنيّ الراهن.
نلتقي في هذه القصة سليمان الحلبي، المواطن السوري الذي قتل في عام 1800 الجنرال كليبر، في مصر. ينطوي هذا الاختيار على دلالة في ظرف الوحدة السورية المصرية: إذ أنه يشهد على الأخوة التاريخية العريقة بين سورية ومصر؛ أليس صحيحًا أن السوري سليمان الحلبي أقدمَ على قتل ضابطٍ غزا مصر؟
(كان سليمان في الشارع:)
” وحين توقف لحظة عن السير ريثما يشعل سيجارة، دنا منه رجلان، وجهاهما متجهمان، وطلبا منه هويته بلهجة صارمة. وارتبك إذ عرف مهنتهما.”[11].
يظهر الاتهام منذ السطور الأولى: ولكن، بخلاف القصة السابقة، لم يكن ممثلو السلطة هنا شرطة بالملابس الرسمية؛ إذ أن مهنة هذين الرجلين، من دون تسميتها، يُشار إليها من خلال رد فعل الشخصية التي عرفتها: “وارتبك إذ عرف مهنتهما”. لا تشير القصة إلا “سرًّا” إذن إلى الشرطة السرية التي سجنت سليمان. إنه ليس متهمًا بأنه ارتكب عملًا بطوليًا، بل لأنه حلم بالقيام به فقط:
“وقال الرجل الأسود متسائلًا: “هل أنت سليمان الحلبي؟”.
فأحنى سليمان رأسه بالإيجاب دون أن يتفوه بكلمة، وتناول الرجل الأسود ورقة بيضاء موضوعة على المكتب، وطفق يقرأ برتابة وكسل: “في ليلة السادس من حزيران شاهد سليمان الحلبي حلمًا قتل فيه الجنرال كليبير” [12].
ولكي تؤكد السلطة التهمة، تعتمد هنا إلى جانب ممثليها، على التقاليد القديمة، المجسّدة بثلاثة أشخاص، شهود حلم سليمان: أبوه، وأمه، وأخته الذين ينصهرون في شخص واحد عبر تطابق مواقفهم: كلا الثلاثة يؤيدون إدانة سليمان، الذي يمثل التحرر من قيود التقاليد. وفي العمق إنما أرادت السلطة أن تستأصل هذه القيمة:
“…وجمع الرجل الجلاد قوته، وضغط على المدية، فاخترقت اللحم والعظم اللدن، وفصلت الرأس الذي تدحرج مبتعدًا عن قطعة اللحم الباقية، وكان قلبًا وكتفين” [13].
تترجم هاتان القصتان، الممثلتان لـ”التنويعات التاريخية” التي تنسج مُبدَعَ زكريا تامر، وعيًا حادًّا بالواقع الاجتماعي، الذي يعيش أزمة (خصوصًا) أيديولوجية. ونعتقد أن بالوسع التفكير بأن المقصود هنا الأيديولوجية القومية، كما يشهد على ذلك لجوؤه المنهجي إلى التاريخ. إذ قبل أن تتشكل هذه “التنويعات”، كان زكريا تامر قد كتب في عام 1957، قصة النهر الميت[14]، حيث تقارن شخصية فيها شرطها الخاص بها بشرط طارق التاريخي، الذي تحمل اسمه نفسه. ففي هذه القصة إنما يظهر التضاد للمرة الأولى، بين طارق بن زياد، الذي أحرق سفنه للحيلولة دون أي انسحاب أو تراجع، وطارق اليوم الذي لا يريد حرق أي سفينة وليس لديه حتى الرغبة بمقاربة المستقبل. كان طارق بن زياد في مرحلة من التاريخ كانت فيه هويته مرتبطة بمشروع تاريخي في إعادة صوغ العالم؛ أما طارق اليوم، سليل أربعة قرون من الانحطاط، فهو على العكس، محروم من كل وسيلة يستعيد بها نفسه، بله أن يحقق نفسه.
طبعًا، تستدعي هذه القصة الأخيرة التاريخ، لكن هذا الاستدعاء لا يؤسس بنيتها ذاتها، كما هو حال القصص التي تنتمي إلى “تنويعات” 1960 وما بعدها. لكنها تسجل، على صعيد الدلالة، بداية هذا التحول في الأزمة الذي يتخلل مُبدع زكريا تامر. في قصة النهر ميت، لا وجود لأية إرادة في المضيّ قدمًا: حتى الوعي السياسي فيها كان شبه غائب. مشروع يرتسم حوله في قصة الجريمة، عبر موقف السلطة وممارساتها السرية: لا بل إنه أكثر من مشروع، لأن سليمان لا يقتل كليبير إلا في الحلم. على أن استشراس السلطة في قمع ها الحلم يصل بالأزمة إلى أقصاها: فـالذي أحرق السفن تعبر عن سلطة قوية، واثقًة من هيمنتها، يمكنها التصرف في وضح النهار بأنها قضت على كل ميل للمعارضة.
تكشف الإدانة والموت المأساوي لهذه الشخصيات في حاضر التاريخ الشرخ الذي يعتوره. هي ذي، فيما نرى، دلالة “التنويعات التاريخية” التي تضمنتها هذه المجموعات الثلاث والتي تقوم بوظيفيتين مرتبطتين عضويًا: فهي تؤكد من جهة، على خاصية واقع في أزمة، بكشفها طبيعة السلطة المهيمنة التي ولدت أيديولوجيتها وممارستها عادة التراجع والهزيمة على مستوى الأحداث؛ ومن جهة أخرى، تضيء في كل مجموعة كما في مجموع قصص زكريا تامر [15]، مختلف دلالات الظواهر ذات الأهمية التاريخية.
يتبع غدا: المجتمع رأساً على عقب
الهوامش:
[1] ولد زكريا تامر بدمشق عام 1931. لم يتمكن من متابعة الدراسة بعد المرحلة الابتدائية وبدأ حياته المهنية عاملًا. لكن شغفه بالقراءة قاده إلى طريق كتابة القصص القصيرة التي بدأ بنشرها اعتبارًا من عام 1956. وكان نشر مجموعته القصصية الأولى عام 1960، صهيل الجواد الأبيض، إعلان مولد كاتب قصة استثنائي، لا في سورية فحسب بل في مجمل العالم العربي، كما برهنت على ذلك مجموعاته القصصية المتوالية طوال نيف وخمسين عامًا.
[2] بخلاف القسم الأكبر من القصص السورية، لم يكن خيار زكريا تامر للقصص المكرسة لتجمع في المجموعة ذاتها تعسفيًا ولم يكن يخلو من الدلالة: فقد كان اختيارها يستهدف إضاءة وجهة أو دلالة محددة.
[3] بو علي ياسين و نبيل سليمان، الأدب والأيديولوجيا في سورية (1967 ـ 1973)، دار ابن خلدون، بيروت، 1974.
[4] هي: الجريمة، جنكيز خان، في مجموعة ربيع في الرماد، دمشق، الطبعة الثانية، 1978؛ الذي أحرق السفن، المتهم، في مجموعة الرعد، دمشق 1970؛ الإعدام، الاستغاثة، الشنفرى في مجموعة دمشق الحرائق، دمشق 1973.
[5] زكريا تامر، الرعد، ص. 18.
[6] المرجع السابق، ص. 19.
[7] المرجع السابق، ص. 20.
[8] المرجع السابق، ص. 20.
[9] زكريا تامر، ربيع في الرماد، دمشق، الطبعة الثانية، 1978. (الطبعة الأولى 1963).
[10] إذ أنها سواء في تقنيتها أو في شكلها، تختلف هذه القصة عن قصة المهجع الرابع، لسعيد حورانية التي درسناها في الفصل السابع، على الأقل في الفرق بين كتابة تبث إيديولوجية محددة وكتابة تتجاوز كل أيديولوجية.
[11] المرجع السابق، ص. 27.
[12] المرجع السابق، ص. 28.
[13] المرجع السابق، ص.ص. 38 ـ 39.
[14] زكريا تامر، صهيل الجواد الأبيض، بيروت 1960، ص. ص. 97 ـ 104.
[15] تجدر الإشارة هنا إلى اختلاف في طريقة وهدف استخدام التاريخ بين قصص زكريا تامر وقصص عبد السلام العجيلي (الفصل الرابع). كل واحد من الكاتبيْن يستدعي التاريخ بوصفه عنصر تعارض بين ظرفيْن؛ لدى العجيلي، يرمي استخدام التاريخ الماضي المنتصر أو المهزوم إلى الدلالة على الحاضر، أما زكريا تامر فيستهدف التشكيك برواية الماضي من خلال الحاضر وفي الوقت نفسه يتيح له الماضي فرصة نقد قاس للحاضر.
__________________________________________________
من دراسات العدد الحادي عشر من مجلة (العربي القديم) الخاص بزكريا تامر – أيار/ مايو 2024
تعليق واحد