إدلب تكتب فصلاً جديداً في معرض الكتاب وتنفض الغبار عن كتب ممنوعة!
بلال الخلف – العربي القديم | إدلب
بين رفوف ممتلئة بالأحلام وكلمات تحاكي ذاكرة المدينة، انطلق معرض الكتاب في إدلب في الفترة الممتدة ما بين (5-15) أيلول سبتمبر الجاري، حيث تصافحت أرواح الأدباء من جديد في عرس ثقافي لم تشهده المدينة منذ سنوات. لم تكن الكتب مجرد أوراق متراصة بل أصواتاً مكتنزة تحكي قصصاً وتختزل معرفة ناضلت للوصول إلى هنا، متحديةً الحرب والدمار. في مشهد يختلط فيه عبق الورق برائحة الزمن، توافد المئات ليشاركوا في استعادة نبض الثقافة، وكأن الكتابة ذاتها تحولت إلى لغة الحياة، تتحدى الانقطاع وتنتصر للكلمة الحرة.
الدورة الثالثة
في نسخته الثالثة، لا يبدو أن معرض الكتاب في إدلب مجرد حدث عابر، بل تحول إلى علامة فارقة في مسار المدينة الثقافي، وهو يرتقي مع كل عام ليصبح منبراً حقيقياً للعلم والأدب. هذا العام، شهد المعرض تطوراً لافتاً في حجمه ونوعيته، حيث استضاف أكثر من 150 ألف كتاب، توزعت على عناوين تجاوزت 17 ألف، لتشمل كل ما يمكن أن يلهم القارئ، من الأدب الكلاسيكي إلى أحدث الإصدارات الفكرية والعلمية.
أقيم المعرض في ساحة واسعة جمعت بين جمال التصميم وسحر الطبيعة، ما أضفى على الفعالية طابعاً مميزاً جعل الزوار يشعرون وكأنهم في واحة من المعرفة. المكان، الذي شيد خصيصاً ليكون ملاذاً للكتب، لم يكن مجرد مساحة عرض، بل مساحة للتفاعل الثقافي، حيث تلاقت العقول والأفكار.
عدد المكتبات ودور النشر المشاركة تجاوز التوقعات، حيث شاركت العديد من دور النشر المحلية جنباً إلى جنب مع دور نشر عالمية أتت من خارج الحدود، متحدية كل العقبات اللوجستية لتشارك في هذه الفعالية. وجاءت هذه المشاركات لتؤكد أن إدلب، رغم كل ما تمر به، لا تزال حاضرة في قلب الثقافة والفكر العالمي.
مسرح وصالون ثقافي
ولأن معرض الكتاب ليس مجرد مساحة للكتب وحدها، بل هو أيضاً ملتقى للفكر والإبداع، رافقت المعرض هذا العام سلسلة من الأحداث الثقافية التي حملت في طياتها روح الزمن الكلاسيكي وتوقاً للعودة إلى أيام ازدهار الأدب. في قلب هذا المشهد، كان “الصالون الثقافي” يشكل المنبر الأبرز، حيث توافد الأدباء والمفكرون في جلسات نقاشية امتدت لساعات، تتناول مختلف القضايا الفكرية الراهنة، بينما يستعيد الحاضرون عبق صالونات الأدب العريقة التي طالما جمعت بين عمالقة الفكر.
إلى جانب ذلك، كان المسرح حاضراً بروحه الفنية، حيث قدمت عروض مسرحية بسيطة لكنها عميقة، أعادت إحياء نصوص من الأدب الكلاسيكي وأخرى مستوحاة من واقع الحياة اليومية. وعلى وقع هذه العروض، تماهى الحضور بين الكلمات والمشاهد، وكأنها تأخذهم إلى عالم آخر، عالم يتحدى الحرب ويعانق الحياة.
أما للشعر، فقد كان له جناحه الخاص في ليالٍ شعرية ساحرة، حيث تبارى الشعراء في تقديم قصائدهم، يتناغم إيقاعها مع أنفاس الحاضرين، وكأن الكلمات نفسها تتحول إلى ألحان تتردد في فضاء المعرض. ووسط هذا الزخم الأدبي، شهدت منصات توقيع الكتب تجمعات مهيبة، حيث وقف الأدباء يوقعون إصداراتهم الجديدة، يخطون بأقلامهم رسائل خاصة لكل قارئ، ليبقى أثر الكلمة محفورًا في الذاكرة والورق.
ولم يكن المعرض مجرد ملتقى للكلمات فقط، بل تعددت أركانه لتشمل مجالات مختلفة من الفنون والحرف اليدوية التي تعكس التراث الغني لإدلب وما حولها. في أحد الأركان المضيئة، كان معرض النحاسيات يتلألأ بأعمال يدوية دقيقة، حيث اصطفّت القطع النحاسية المزخرفة لتروي حكايات الأيدي التي صنعتها، فتجسد عبق الماضي وروح الأصالة. كان الزوار يتأملون تفاصيل تلك الأعمال وكأنها تحمل في ثناياها ذاكرة الزمن البعيد.
وعلى مقربة من هذا الركن، كان معرض الرسم والسيوف يستحوذ على اهتمام الزوار، حيث تجتمع قوة السيف مع رقة الفرشاة، في مشهدٍ يتحدى التناقض. اللوحات الفنية المعلقة كانت تعكس حالات مختلفة من التعبير الفني، بينما كانت السيوف، بأنواعها وزخارفها، تجسد رموز الشجاعة والتاريخ، كأنها تذكر الحاضرين بعصور مضت.
وفي ركن آخر، كان فن الفسيفساء حاضراً ليضفي لمسة من الجمال الفني على المكان، حيث تميزت القطع الفنية الصغيرة بتفاصيلها الدقيقة التي تعكس المهارة العالية والحس الفني الراقي. هذه الأعمال كانت تستحوذ على الأنظار، تُعيد إحياء فن كان يومًا رمزًا للفخامة والتاريخ.
ركن فلسطين
وبينما يتجول الزوار بين الأركان، كان ركن فلسطين يبرز بمكانة خاصة، حيث حمل في طياته عبق التاريخ والمقاومة. تزين الركن بصور وأعمال فنية تمثل التراث الفلسطيني، إلى جانب منتجات يدوية فلسطينية، جعلت من الزاوية وقفة للتأمل في نضال شعب وإرث ثقافي عميق. كان هذا الركن بمثابة رسالة صامتة لكنها قوية، تذكر الزوار بأن قضية فلسطين تظل حاضرة في قلوب الشعوب، وأن الثقافة والفن هما أبلغ الأسلحة في الحفاظ على الهوية.
ومعرض الكتاب في إدلب لم يكن حدثاً محلياً فحسب، بل أحدث صدى واسعاً تجاوز حدود المدينة، ليصل إلى مسامع النخب الثقافية العربية التي أشادت بهذا الإنجاز الثقافي الفريد في ظل ظروف صعبة. تلقفت الأوساط الأدبية والفكرية خبر المعرض وكأنه شعلة أمل تنير درب الثقافة في منطقة تعاني من سنوات طويلة من الصراع. تحدثت الشخصيات الثقافية والإعلامية في أكثر من دولة عربية عن عظمة هذا الإنجاز، معتبرين أن إدلب باتت اليوم منارة ثقافية لا تُنسى في سجل التاريخ المعاصر.
وتعاقبت الوفود الزائرة للمعرض تباعاً، بعضها جاء من داخل سوريا، وبعضها الآخر من الخارج، محملةً بأمل كبير ورغبة في دعم هذا الحراك الثقافي. الزوار كانوا من خلفيات متنوعة؛ من أدباء ومثقفين إلى ناشطين اجتماعيين وطلاب جامعات. جميعهم اجتمعوا في إدلب ليشاركوا في هذا الحدث الذي يجسد الإصرار على الحياة والازدهار رغم الصعاب.
إطلالة للعقيد رياض الأسعد
من بين الشخصيات البارزة التي حضرت المعرض، كان العقيد رياض الأسعد، أحد الوجوه التي طالما ارتبط اسمها بالنضال من أجل الحرية. حضوره أضفى على المعرض طابعًا خاصاً، حيث التقى بالكتاب والأدباء وأثنى على الجهود المبذولة لإقامة هذا الحدث الثقافي الكبير. وجوده بين المثقفين والزوار كان بمثابة رسالة واضحة أن الثقافة لا تنفصل عن النضال، وأن الكلمة الحرة تظل سلاحًا قويًا في وجه الظلم.
والمثير للإعجاب أن كل هذا الزخم الثقافي والتفاعل الكبير جرى خلال الأيام الأولى فقط من افتتاح المعرض. لم يكن سوى بداية واعدة لما ينتظرنا من فعاليات وأحداث خلال الأيام القادمة. المعرض ما زال في بداياته، وها نحن أمام عدة أيام أخرى، تحمل في طياتها مزيدًا من المفاجآت، والأنشطة المتنوعة التي تعد بإثراء المشهد الثقافي بشكل أكبر. الجميع يتطلع إلى ما سيقدمه المعرض في الأيام المتبقية، وسط توقعات بزيادة الإقبال وزيارة المزيد من الشخصيات الهامة، ما يعزز من مكانته كحدث ثقافي استثنائي في المنطقة.
وفي النهاية، يظل معرض الكتاب في إدلب شاهداً حياً على أن الحياة لا تتوقف، حتى في أحلك الظروف. قد تمتلئ العيون بالدموع حين نتذكر الألم الذي مر به المكان، وحين نرى كيف تصافحت الأيادي على كتب كُتبت بدماء الحبر وصبر الأرواح. لكن في نفس اللحظة، لا يسعنا إلا أن نبتسم، ابتسامة ممتلئة بالأمل، حين ندرك أن هذا المعرض ليس مجرد حدث، بل هو شهادة على أن الحلم، مهما قست عليه الأيام، يظل يجد طريقه للنبض من جديد.
هنا، بين الكتب والناس، بين السيوف والمسرح، تنبت بذور الأمل، وتعلن الكلمة الحرة انتصارها. نغادر المعرض بأرواح مثقلة بالحزن على ما كان، ولكننا نحمل معنا شعلة فرح مشتعلة بما هو قادم، لأن الكلمة، مهما حاولت الأقدار أن تخنقها، تظل تولد من جديد، كالفجر بعد ليل طويل.
كتب ممنوعة
بقي أن نشير أن معرض إدلب للكتاب ينفض الغبار على عشرات الكتب الممنوعة تاريخياً في عهد نظام الأسد، حيث يمكن للباحث والمهتم الاطلاع على كتب الشيخ الدمشقي البارز حسن حنبكة الميداني وأبرزها “الكيد الأحمر” عن خطر الشيوعية، وكتب الشيخ الحموي سعيد حوى، وسواهما من الكتاب والمؤلفين الذين قارعوا نظام الأسد في سبعينيات وثمانينات القرن العشرين، وكان العثور على كتبهم بحوزة أي شخص سبباً للاعتقال والتغييب القسري وراء الشمس!