فصل من رسالة دكتوراه: زكريا تامر... عالم الرماد والحرائق (2 من 2)
بدر الدين عرودكي – العربي القديم
هنا القسم الثاني والأخير من أحد فصول رسالة دكتوراه الناقد والمترجم السوري البارز بدر الدين عرودكي، الذي خص به مجلة (العربي القديم)، وهو الفصل الخاص بأدب زكريا تامر.
اقرأ أيضاً القسم الأول: فصل من رسالة دكتوراه: زكريا تامر… عالم الرماد والحرائق (1 من 2)
2) المجتمع رأساً على عقب
على غرار السلطة السياسية المهيمنة في “التنويعات التاريخية”، التي تقمع حريات وإمكانات الإنسان وتفتح على هذا النحو الباب أمام الهزيمة، تقدم القصص الأخرى عنها جوانب مُتمِّمة: سلطة مشايخ الدين، سلطة التقاليد الموروثة من عصر الانحطاط، الذين يشكلون، هم أيضًا، هذا الواقع بعجزهم عن فهم ما يميز الأزمنة الحديثة. إنهم يفرضون قمعًا تؤثر آثاره الكابحة على بنى الحياة الاجتماعية التي تشهد مظاهرها على هذا التأثير.
السلطة الأبوية على سبيل المثال في قصة العرس الشرقي [1]، هي التي تحوِّل الراشدين إلى أطفال. تصف القصة بعض خصوصيات الأسرة، والزواج، والعلاقة بين الرجل والمرأة: على الإبن، مثلًا، أن يطيع أبيه طاعة عمياء قبل أن يقبل هذا الأخير السماحَ له بالزواج؛ وهذه الطاعة تشمل كل منظومة الأخلاق والتقاليد البالية، التي تسخر منها القصة ببساطة انطلاقًا من تسميتها. قبل كل شيء ترويض الإبن من قبل أبيه:
“أنتَ ولد عاق ولا تستحق أن أوافق على زواجك”.
” فقال صلاح بضراعة: “سأكون منذ هذه اللحظة إبنًا بارًا مطيعًا”.
” ــ ستصلي”.
” ــ سأواظب على الصلاة”.
” ــ ستصلي خمس مرات في اليوم”.
” ــ سأصلي خمس مرات”.
” ــستصوم شهر رمضان”.
” ــ سأصوم شهر رمضان كله”.
” ــ لن تسهر خارج البيت”.
” ــ لن أسهر وسأنام كل ليلة باكرًا”.
” ــ لن تسكر”.
” ــ لن أسكر، وسأذهب إلى مكة سيرًا على الأقدام”.
ففرح وجه الأب وقال: “تعال قبل يدي”[2].
بعد ذلك، تبدأ “المساومة” من أجل الزواج، ليست المرأة إلا سلعة، يتفاوت سعرها حسب ميزاتها:
يسأل والد الإبن والد الفتاة:
” ــ “أريد أن أزوج ولدي صلاح من بنتك هيفاء”.
“….”
“فابتسم والد هيفاء، وقال: “وهل هذا أمر يحتاج إلى سؤال؟ أنا بالطبع موافق فأنتم من خير الناس”.
” ــ كم تريد ثمنها؟”.
” ــ ابنتي جميلة، متعلمة، وسأقبل أن أبيعها إكرامًا لك بخمسة وثلاثين ليرة لكل كيلو”.
” ــ هذا ثمن باهظ”.
” ــ لو لم نكن جيران لطلبت أكثر”[3].
والمرأة، بوصفها سلعة تجارية، هي أيضًا سبب الهمّ، والقلق، وأحيانًا العار بالنسبة للرجال. في قصة الخراف[4]، يقول الشيخ محمد:
“المرأة مخلوق فاسد، وإذا أفلت زمامها عاثت فسادًا وخرابًا”[5].
ولهذا السبب، يجب قمعها، وكبحها، بل وقتلها إن حاولت قلب هذه المنظومة العريقة، بحجة أنها مساوية للرجل.
فالشيخ، ممثل السلطة التقليدية والدينية في آن معًا، يختصر الدين في مشكلة حجاب المرأة وفي تحررها. في القصة ذاتها، لا يفهم الشيخ سلوك الأب الذي، على الرغم من إيمانه وممارسته لواجباته الدينية، يسمح لابنته بالخروج بلا حجاب وبأن تلبس “كالرجال”. لكن الأب يرد:
“إذا ارتدت عاهرة ملاءة، فهل تصير شريفة فاضلة؟”[6].
لكن الشيخ على العكس، يعود على الدوام إلى التأويلات الماضوية:
“في آخر الزمان.. النساء يهجرن الملاءات ويمشين في الطرقات حاسرات الرؤوس، مرتديات ثياب الرجال، فلا يستطيع المرء التفريق بين الرجل والمرأة”[7].
ولأنها موضوع العيب والعار في مجتمع الحي، وهو نفسه سليل المجتمع القبلي، لابد للمرأة أن تكون الهمَّ الوحيد للرجل: وفي المقام الأول أن تكون همَّ أبيها وأخيها، وإلا فإن على كل رجل في الحي أن يغسل الإهانة بالدم، مع مباركة الشيخ طبعًا، الذي يرى أن في ذلك محافظة على الفضيلة في المجتمع.
بعجزه عاجز عن فهم الحقبة الراهنة، وبقائه حبيس الماضي مع قدرته اللامتناهية على التأثير على سلوك جماهير من الأميين، يدعم الشيخ المصالح الحيوية للسلطة السياسية المهيمنة، أيًا كانت؛ ولهذا فهي تتركه في سلام ما دامت ترى في سلوكه ما يخدمها[8]. في قصة التراب لنا وللطيور السماء[9]، تبدو الهزيمة العسكرية، وهي التعبير عن الأزمة الاجتماعية ـ الثقافية، بوصفها الانتصار المشترك للسلطة السياسية ولسلطة التقاليد. يقدم فيها عالم للملك ابتكارًا علميًّا قادرًا على التغلب على العدو: طائرة. يستشير الملك الشيخ، الذي يرى فيها تقليدًا لما خلقه الله، ومن ثم فهي فعل كفر، لا يمكن لمبتكرها إلا أن يكون شيطانًا جاء لإبعاد البشر عن الطريق إلى الله:
“إذا ساعدنا إبليس على الانتصار على أعدائنا، ألا نكون قد ربحنا الدنيا وخسرنا الدين؟ وهل فينا من يتنكر للدين ويفضل دنيا زائلة لا بقاء فيها؟”.
فتعالت الأصوات مستنكرة الدنيا الزائلة.
وقال قائد الجند: “أجدادنا وأجداد أجدادنا خاضوا كما تعلمون آلاف المعارك وانتصروا فيها، وكان سلاحهم السيف والأخلاق الحميدة. […]. هذا السلاح الجديد […] يناقض عاداتنا وتقاليدنا…”[10].
كلٌّ فريق منهم يجد سببًا كافيًا كي يرفض الحداثة بحجة المحافظة على التقاليد. فالملك شديد الحساسية لتنبيه قائد الشرطة: “الطائرة التي تطير فوق الأعداء، تطير أيضًا فوق قصر مولانا الملك”؛ تستطيع الحداثة إذن أن تكون تهديدًا دائمًا ضد الأعداء، لكنها أيضًا يمكن أن تشكل خطرًا على السلطات القائمة. ولهذا السبب يتفق الجميع على رفضها: هكذا تؤول مدينة الملك بفعل ذلك إلى الدمار.
رفض كل تغيير هو واقع اجتماعي، لكنه أيضًا أحد الأسباب المفترضة للهزيمة. فالحداثة، وفق القصة، هي العلم الذي يقتضي رفض التقاليد: ولا شك، أنها هي الممثلة بالشيخ وبالسلطة التي أحرقت العالِم، مثلما أعدمت من قبل طارق الذي أحرق السفن: ذلك أن كلًّا منهما كان يحاول تغيير الوضع القائم باسم المستقبل.
في مجتمع تعامَل فيه النساء كما لو أنهن أشياء، حيث لا يهتم فيه الرجال بالاحتفاظ من الماضي سوى ما فيه مما عفا عليه الزمن، تتخذ قيم الحياة معنى آخر: تحرّر المرأة هو صنو الفوضى، والزواج صنو التجارة، والابتكار صنو الكفر؛ المرأة موضوع العار، والرجل طفل مطيع… والكائنات البشرية خراف؛ الشيخ والشرطي هما في النهاية من يملك السلطة التقديرية.
ما هو مكان المثقف في هذا المجتمع؟
يقدم زكريا تامر نموذجين عنه: المثقف المغترب بفعل الثقافة الغربية والمثقف المناضل الملتزم.
في قصة الراية السوداء [11]، يضع في المشهد النموذج الأول: مسافة ما تفصله عن بيئته: فسلوكه لا يتحدد انطلاقًا من الواقع المادي الذي يحيط به، بل من خيالات تكونت لديه من قراءاته التي لا علاقة لها بالحاجات الراهنة لمحيطه. بالطبع، إنه يتطلع إلى حلول اللحظة التي يتغير فيها كل شيء:
“…وينصت توّاقًا إلى سماع صرخة تنبثق من البيوت الطينية منادية الشمس والعاصفة، …”[12]
ومع ذلك، فهذه الرغبة ليست هدفًا واجب التحقيق، بل هي بالأحرى أمل يجب الوصول إليه: ويتبين في النهاية أنه عاجز عن خلق علاقة مع أولئك الذين يرجون رؤية التغيير؛ بل أنه عاجز عن التدخل مباشرة في هذا التغيير. يصف زكريا تامر بدقة هذا الشرخ القائم بين المثقف المستغرب وبيئته الشعبية. غسان، المثقف، يسكن في حيٍّ شعبي، ذات ليلة، بينما كان عائدًا إلى بيته، يمر بالقرب من رجلين من الحي ويصيح به أحدهما:
“يا أخ… يا أخ…”.
“(…) “السلام لله. ماذا ستخسر لو قلت السلام عليكم أو مساء الخير؟”
“يرتبك غسان، ويحاول الابتسام، ويهمّ بالرد، ولكن الرجل الثاني يقول لرفيقه:
“لا تغلط يا صياح. الناس الأكابر لا يقولون السلام عليكم. عيب. يقولون بونسوار”[13].
يقول صياح: “ليقل لنا بونسوار. الذين يقول لهم بونسوار ليسوا أحسن منا. قل يا قاسم.. هل هم أحسن منا؟”.
يقول قاسم فورًا: “أحذيتنا أفضل من أجدادهم”.
فيقول صياح لغسان بنزق: “تكلم.. هل الذين تقول لهم بونسوار أحسن منا؟”.
يقول غسان باضطراب: “عفوًا. كنت أفكر ولم أنتبه لكما”.
فيلتفت صياح إلى قاسم ويقول له: “أسمعت؟ الأخ كان يفكر” [14].
يستمر حوار الطرشان هذا لحظة ثم ينتهي بمقتل غسان على أيدي جاريْه في الحي. من الواضح أن هذه الجريمة تقول دلالة القصة: عدم التواصل بين نمطين من التفكير، بين رؤيتيْن مختلفتيْن لطريقة الحياة. مادام المثقف لا يتوصل إلى أن يجعل من نفسه مفهومًا بواسطة استخدامه لغة مشتركة، ولا إلى أن يفهم مجتمعه، فإن هذا الأخير يستطيع تجاهله تمامًا: تجاهل يمثل طريقة أخرى في قتله.
في قصة يا أيها الكرز المنسي [15]، يتخذ المثقف الملتزم طريقًا آخر، ويتحدث لغة أخرى. انطلاقًا من واقعه الخاص، ينجح في إقامة علاقة حقيقية مع الشعب وفي استنفاره. لكنه ما إن يستحوذ على السلطة ويصير بوسعه أخيرًا أن يغير ويقلب الوضع الذي كان يثور عليه، ويحقق من ثمَّ أهداف الثورة، حتى ينسى وعوده: فالفلاحون الذين علموا أن صديقهم الشاب، معلم المدرسة، صار وزيرًا، يفكرون في إهدائه الكرز من مزارعهم. لكن المناضل السابق، وقد صار اليوم حاكمًا، يرفض استقبال القرويين المكلفين بتذكيره بصداقتهم وبوعوده… هكذا صار الكرز منسيًا كالوعود تمامًا..
على هذا النحو يتكشف المثقف الملتزم عاجزًا عن الفعل؛ على الرغم من التزامه، وذلك بسبب الشرخ بين قناعاته وسلوكه، بين نظرياته وممارسته.
أما المجتمع، بعد المحنة القاسية قسوة هزيمة الخامس من حزيران 1967، فيجد نفسه مهانًا أكثر أيضًا، كما يبدو ذلك في قصة الهزيمة، التي كتبت في عام 1968 [16]. إنه مجتمع من الجرذان، البشر فيه مخلوقات هامشية، والأطفال يؤدون دور الكلاب في المجتمع البشري. هذا التحول الذي يُذكّر بتحول غريغور سامسا في رواية فرانز كافكا، ليس فرديًا: إنه يطال مجموع المجتمع، ويقلب القيم والأوضاع رأسًا على عقب. مجتمع الجرذان، هو مجتمع الهزيمة؛ كل الطرق تؤدي إلى طريق مسدود وهذه الهزيمة تصير نتيجتها الحتمية.
كيف الخروج من هذا الطريق المسدود؟
في البداية، في مجموعة صهيل الجواد الأبيض، تحمل شخصية القصة بعض الأمل وتستدعي حلم مستقبل أفضل حين يتطلع أحد شخصيات قصصها إلى زرع الأمل في دمه بانتظار أن تشرق شمس سعيدة حاملة للقلوب فرحًا حقيقيًا ودائمًا، بحيث تختفي لديه مشاعر الكراهية أو الحقد[17]. لكنه لا يفعل شيئًا كي يحقق ذلك عيانًا. يبدو عالم زكريا تامر في هذه المجموعة، مطبوعًا برغبة جامحة بالخبز، والحب، والحرية، وحدها ما يؤلف هموم شخصياته. سنعثر في المجموعات الثلاث التالية عليها على ضروب العطش ذاتها، في مواجهة الشرطة التي تحتل مكانًا واسعًا في هذا العالم، محطمة هذا الأمل الضئيل الذي كان بطل زكريا تامر يحلم بترسيخه في نفسه. للخروج من الطريق المسدود، لم يبق سوى المخرج الوحيد: الدمار الكامل. سنجد الطفل، بطل القصة الأخيرة في مجموعة الرعد[18] في وضع يأس مطلق. يكره الرياضيات، وكذلك كل ما يحيط به. فيقوم، في الحلم ثانية، بصنع قنبلة ذرية سوف تقضي على كل شيء، وحينئذ سوف “تشرق الشمس على أنقاض”.
عالم الهزيمة قائم إذن، مع موكبه من الجوع، والقمع، والكراهية، والقتل، والضياع، والأكاذيب، والمعايير الماضوية الصارمة، ورفض الحداثة، والشرخ بين النظرية والتطبيق؛ يجد في هزيمة الخامس من حزيران 1967 تجسيدًا صارخًا لذلك كله. كان بوسع هذه الهزيمة، هذه الأزمة ذاتها، أن تكون فرصة لتغيير عميق؛ لكنها، على العكس، فاقمت من الشروط التي كانت قد سبقتها، لأن القوى التي تملك السلطة قبلها بقيت بعد ذلك في مكانها. ولا شيء، في هذا العالم، لا يحول دون التفكير بأن مثل هذا التغيير يمكن أن يحدث، ولو كان ذلك على صعيد الأمل المحض، كما في قصة النابالم.. النابالم [19] حيث يحاول زوجان، في ذروة الدمار، توليد لحظة جديدة في اتحاد حبهما؛ مرة أخرى أيضًا، تتدخل الشرطة والتقاليد. يتخيل الشاب حينئذ أن النساء لا يلدن أبدًا في هذا العالم إلا أطفالًا ذوي كتل لحم منتنة محترقة:
” تساقطت قنبلة إثر قنبلة، ودمرت المقاهي والمآذن والمدارس والمستشفيات ومخادع النوم، وأحرقت الليل والمطر غير أن أحمد أمر بقذف المزيد من القنابل”.
هذا الأمر بمزيد من القنابل، تعبيرًا عن رفض حاسم، يرمي إلى التغيير الكلي الذي يدعو إليه مجمل مُبدع زكريا تامر.
____________________
من دراسات العدد الحادي عشر من مجلة (العربي القديم) الخاص بزكريا تامر – أيار/ مايو 2024
[1] زكريا تامر، الرعد، دمشق 1970، ص. ص. 57 ـ 64.
[2] المرجع السابق، ص. 58.
[3] المرجع السابق، ص. ص. 61 ـ 62.
[4] زكريا تامر، دمشق الحرائق، دمشق، 1973، ص. ص. 109 ـ 116.
[5] المرجع السابق، ص. 111.
[6] المرجع السابق، ص. 111.
[7] المرجع السابق، ص. 111.
[8] سواء السلطة الناصرية، أو سلطة البعث القومي، أو سلطة البعث الاشتراكي، لم تتصد أي منها لمواجهة سلطة الشيوخ؛ على العكس، كانت التسوية، مصدر الفوائد المتبادلة، هي القاعدة في العلاقة بينهم.
[9] المرجع السابق، ص. ص. 55 ـ 61.
[10] المرجع السابق، ص.ص. 57ـ58.
[11] المرجع السابق، ص. ص. 117ـ118.
[12] المرجع السابق، ص. 118.
[13] استخدمت الكلمة الفرنسية وكتبت بالأحرف العربية.
[14] المرجع السابق، ص. ص. 119ـ 120.
[15] المرجع السابق، ص. ًص. 29 ـ 38.
[16] في مجموعة الرعد، مرجع سابق، ص. ص. 79 ـ 88.
[17] زكريا تامر، صهيل الجواد الأبيض، مرجع سابق، ص. 62.
[19] المرجع السابق، ص. ص. 37 ـ 42.