حكاية أمين أبو عساف كما تتجلى في مذكراته
إيمان أبو عساف – العربي القديم
الحكاية التي بدأت في زمن كان الشوق الوطني والقومي، قد أولمَ لموعدٍ ولقاء، مع دولة تحمل جناحين، أحدهما يرفرف على طول مسافة ممتدة من الماء الى الماء، والآخر يذهب بعيداً، ليوقظ سورية الوطن من اغترابها الجغرافي، والسياسي والحضاري والأخلاقي.
أمين أبو عساف عاش ذلك العصر، دون أحمال عقائدية، ولا توجهات نحو قوة ما، وقد يميز هذا الرجل الذي أحيل إلى التقاعد عام 1958 في بداية عهد الوحدة بين مصر وسوريا، تلك المساحة من الأخلاق التي ولفته، ليتجه في مساره السياسي والعسكري، دون زيف أو تسويغ، فهو بحق سليل نوع من الرجال، الذين أحالوا الحسّ الوطني للشعور المنزه عن الأغراض إلى واقع وسلوك، وببساطة وشجاعة امتلك ذلك الفهم لمشروعه الوطني.
ولما كان الحراك النهضوي برمته بحالة ركود، كانت الرؤيا التي امتلكها رجال ذلك العهد أكبر من إمكانيات الواقع، والأهم هو علاقة التحقق المتعلقة بالتاريخ، إذ إن التاريخ هو الذي يهيئ لولادة كاملة، وفقد هذه العلاقة مع التاريخ قد يأتي بولادة متعثرة.
ولكن لا يمكن إنكار ذلك العزم، وتلك الإرادة أمام التاريخ والضمير الإنساني، فلقد كان الرجل على عزم وإرادة وخلق، لكن التاريخ كان يغيب بهذا القدر أو ذاك عن الأذهان، ويكفي أنهم كافحوا في ظل وقت مأزوم، ومزدحم بوطأة الأثقال والأحمال الاستعمارية، والوضع المتردي انحطاطاً وتخلفاً.
ومن هنا يأتي التقدير لرجال المرحلة، ومنهم أمين أبو عساف، فهم قوة الصدق، والنية الخالصة نحو الوطن، ويقال إن أمين أبو عساف لقب برجل الانقلابات، وإذا تناهى هذا الوصف لأذهان العامة، لارتسمت صورة لرجل ذي طموح سلطوي، وله من الدهاء الكثير؛ الأمر الذي جعله يحرك الانقلابات، كما يرغب، ولكن الواقع كان غير ذلك تماماً. أمين أبو عساف، كما ظهر لي كقريب، وله سيرة عامة وخاصة، كان حريصاً على مرجعيات التربية والأخلاق، وتبدو مذكراته انعكاساً للواقع المحلي والوطني في ذلك الحين.
ويبدو أن مذكراته الضخمة التي تأخر في كتابتها، وصدرت عام 1996، وتجاوزت الستمئة صفحة، كانت لها بداية ولكن تركت بلا نهاية، وكان يقصد أن هناك الكثير مما لم يتسنّ الوقت ليُسجل، وليس على قارئها أن ينطلق من مكان معين، أو حدث معين، ولا تحتاج لأي تأويل أو إعادة إنتاج، والنية كانت واضحة تماماً، وكان القصد ترك أثر لا يثير جدلاً، ولا أي نوع من الحنق.
وبدا بحياته الاجتماعية البسيطة، والتي أثرتها الى حد كبير التربية التي تلقاها في بيئته الاجتماعية، وذكر تحفظات البيئة الاجتماعية. في انطلاقته الأولى ودراسته، ولكنه لم يأبه، ويثق إلى أبعد حد، بأن مسلك أي فرد سيحدث عن هذا، أو ذاك من المزايا والصفات والأفعال، ولا يخفى أن دراسته في الكلية العسكرية، كانت في مرحلة تتعلق بتساؤلات مصيرية، وفي الكلية كان باحثاً عن حقيقة الإنسان السوري، دون أن يأخذه ضغط العاطفة، وغلواء العروبة.
وبحس فطري، عمل على أن تكون سوريا شعباً واحداً، وأدرك أنه ابتدأ زمن البحث عن الإنسان والجغرافيا، وأظهر تفانياً لا نظير له، بإيمانه بقضية شعبه، وخلال تنقلاته العسكرية في الجغرافيا العسكرية، علم أن البلاد تخوض معتركاً لم تعد له ما استطاعت، إلا عبر تجميع بسيط، يبدو مثل خردة، إن كان متعلقاً بالعتاد أو الرؤية.
وأعتقد أنه كان يحمل فكراً نهضوياً، ويثق أن يقظة عربية يجب أن يكون متنها غير مستورد، ولا مغترب.
هكذا فكر الرجل، فقد رأى أنه من الأهمية بمكان توليف جيش وطني بعدة وعتاد وتنظيم، ويأتي على ذكر هذا في مذكراته بلغة بسيطة لا يمكن أن تحمل ما يثير الجدل.
وأخذ يتبوأ مراكز عسكرية، أظهر فيها كلها إخلاصاً من نوع استثنائي، وكان يردد دائماً منطلقاً من الواقع والمعطى: إن وجودنا كطائفة، ليس بالضرورة أن يحضر في هرم السلطة، يكفي أن نقدم ما يخصنا من مشاعر عروبية بالعمل المخلص، وهنا يظهر لمن يقرأ مذكراته، أو يسمع رأيه، أن يراه بغير طموح ولا أفق.
ويمكن أن أفسر هذا الموقف، من خلال إدراك الرجل للحالة المعقدة المركبة من الانحطاط، وسوء الفهم التي كانت تسود الواقع، وهذا يعني أنه عقد العزم؛ لأن يفعل ما عليه ضمن المعطيات كلها، وسيترك للباقي مهمة إكمال ما يعتقدون أنه ضروري.
اتصف أمين أبو عساف بحاسة الشم القوية، والتي تشي بعلاقة ما بين زعماء المرحلة والقوى الخارجية، وكان بدون حرج، يخضع من كان محل شبهة للمساءلة، واستطاع سحب سلطات الرؤساء، وهذا الأمر معروف تماماً، ومن هنا أتى لقبه برجل الانقلابات.
كان خُلقه وحسه الوطني هما البوصلة، فوعى أنه ليس من البطولة بشيء أن يستقوي صاحب السلطة بغريب، وليس من شيم الحاكم العادل ممارسة الفساد بأي شكل، وليس لمن يبني ويعمر البلد أن يشرعن ما يتعارض مع مشروع الوطن الناهض، ولعل قصته الأشهر مع أديب الشيشكلي، والتي تكللت في تلك الفترة بعمل وجهد أمين أبو عساف في الثورة عليه.
وفي مذكراته يؤرخ تفصيلاً لتلك المرحلة، لقد بلغ الشيشكلي حد الإفراط في التعصب الديني، وذهب بعيداً في شهوة السلطة، وكان لزاماً أن يغير الوضع، منطلقاً من كرهه للتعصب، وشروط الضرورة الواقعية؛ لذلك قرر ألا يتأدلج ولا ينظر، وأن يكتفي بشرف العسكري الوطني الذي كشف الستار عن بداية حكم العسكر القمعية، وأدخل رجال تلك المرحلة الى متون السرديات والحكايات. وهو يوثق الصدامات التي حدثت في الجبل، والأحداث التي انتهت بسقوط الشيشكلي بكمّ من الوثائق والبرقيات العسكرية التي رسمت التفاصيل كافة، وباتت مرجعاً له.
المشهد الأخير في مذكرات أمين أبو عساف الذي أحيل على التقاعد في زمن الوحدة بين مصر وسورية، كان هو انقلاب الانفصال، وقد تحدث عن أسبابه بواقعية وصدق في ختام مذكراته فقال:
“كان يأتي لزيارتي أحيانا بعض الضباط الذين خدموا تحت قيادتي وكذلك صف الضباط، وكنت أسألهم عن الأحوال؟ وعنما يأتي ذكر الجيش عرفت ما يلي: إن أكثرية الضباط المصريين معاملتهم لزملائهم ومرؤوسيهم من صف الضباط والأفراد، وحتى لرؤسائهم السوريين أحيانا سيئة، وكأنهم من طبقة أعلى من هؤلاء، وأتوا إلى الإقليم الشمالي لحكمه، ويروون حوادث واقعية عن إهانات وبذاءة لسان. ربما لأنهم في مصر معتادون علـى إهانة جنودهم وصف الضباط، بينما العسكريون في سوريا يعتزون بكرامتهم ولا يتقبلون الكلام البذيء من رؤسائهم. منذ أيام الفرنسيين كانت كرامة الفرد مصانة. بعد ذهابهم، كنت أوصيهم أن يخبروا القيادة عن رؤسائهم عن طريق التسلسل. هؤلاء الضباط لم يتلقوا من القيادة التوجيه اللازم لفهم نفسية السوريين.”
كان أمين أبو عساف متمسكاً بكرامة الجيش أفراداً ومؤسسة، وقد عاش إلى زمن صار الجندي يخاطب فيه ب: “ولاك كر” و “ولاك حيوان” لكن لحسن حظه لم يكن له علاقة بهذا الجيش.
كان مؤمناً أن الدرب طويل وشائك، وأن حمولات التخلف بصورها المتنوعة والمتعددة، مازالت قائمة تعترض طريق الوطن المتطلع إلى النهوض، لتنتج حالة قمعية شرسة، على السوريين مقاومتها في غير عهد، ويكفي أنه شكّل شرارة تمرد، وحالة احتجاج ومقاومة للظلم والظالم، ثم غاب عن العمل السياسي والعسكري، قبل أن يأتي حكم البعث بما أتى به على سورية. هنا تصمت الذاكرة وينتهي الدور والأثر.
___________________________________
من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024