الرأي العام

نوافذ الاثنين | رحلة في عالم البالة العالمي

يكتبها: ميخائيل سعد

قريبا من سكني في اسطنبول، وعلى مدار ثلاث سنوات، كان يقام بازار الأحد للأشياء المستعملة، أو لأقل: إنها الأشياء المنتقاة، في أغلبها، من القمامة، ومن بقايا المنازل المهجورة أو المنهوبة؛ ليس بالضرورة بسبب الحروب. كان كل يوم أحد، عندما أزور هذا البازار في شارع ”دولابدير“، في وطى الشيشلي، أتذكر مونتريال، وتحديدا Marché aux Puces Saint-Eustache، وسوق النسوان في حمص، وسوق الجمعة في حلب، وسوق الخميس في حماه. وهذه كلها تذكرني بكنوز”علي بابا“  الضائعة ومغارته العجيبة. ولكن كان الأكثر حضورا ووضوحا في الذاكرة، قبل نشوء ”سوق السنة في حمص“، هو Marché aux Puces Saint-Eustache، والترجمة الحرفية للاسم هو”سوق القمل“، إلا أن تداوله جرى بمعنى ”سوق البراغيث“، وهو موجود بنفس الاسم في باريس وبيروت، وربما في مدن أخرى من العالم.

يقع Marché aux Puces Saint-Eustache، شمال مونتريال بحوالي ٣٠ كم، وهو الآن جزء من مدينة سان أوستاش، القريبة من مزارع التفاح، وغابات شجر”الايرابل“ التي يؤخذ نسغها ليُحضر منه مشروب حلو، أطيب من العسل، حسب بعض الدراسات، والكثير من الدعايات التجارية.

قد تكون فكرة إنشاء أسواق مواز للأسواق النظامية في كندا هي السبب في وجود سوق ”سان أوستاش“ لتحقيق مجموعة أهداف دفعة واحدة؛ فهو يلبي حاجات سكان القرى المحيطة به من حيث حصولهم على حاجاتهم الزراعية والمنزلية، ويوفر لهم مكانا لتسويق بعض انتاجهم الزراعي مباشرة، كما أن السوق تُباع معروضاته دون ضريبة، مما يوهم الزبائن أن سلعه أرخص من التي في أسواق مونتريال.

ما ينطبق على سوق ”سان أوستاش“ ينطبق بنسب مختلفة على كل بازارات ”البراغيث“ في المقاطعة، ولكن الحديث سيكون عن سان أوستاش لأنه الأكبر والأشهر بالنسبة لسكان مونتريال.

المعروضات

تتوزع المعروضات في الصيف على قسمين؛ مستعمل وجديد، وهي موزعة على مساحة كبيرة خارجية للمستعمل والجديد، أما البناـء المغلق، فهو حصرا للجديد. ويستمر البيع طوال العام (ثلاثة أيام في الأسبوع؛ جمعة وسبت وأحد)، بينما المساحة الخارجية الكبيرة فموزعة إلى ثلاثة استعمالات؛ الجديد والمستعمل، والثالث هو المكان المخصص لركن السيارات، ومساحته هي الأكبر.

في قسم الجديد يستطيع الانسان أن يجد كل ما هو بحاجة إليه من ألبسة وأغذية ومفروشات وأدوات كهربائية والكترونيات ومجوهرات، ومطاعم، وأحذية، تقريبا كل شيء. وفيه الثياب من كل الماركات المشهورة، وكذلك العطور والمحافظ النسائية. التقيت صبية عشرينية من أصل فلسطيني، أعرف والدها، سلمت عليها وسألتها إن كانت قد وجدت شيئا خاصا للشراء، فقال: نعم، انظر إلى هذا الجزدان النسائي الصغير، اشتريته بخمسين دولارا فقط. قلت لها ولكن هذا سعر كبير. قالت: انظر الى ”الماركة“، وفتحت هاتفها على موقع للتسوق الاكتروني، وأرتني سعر الاصلي (٤٥٠٠) دولار. قالت: هل ترى؟؟

المستعمل

في قسم المستعمل يدخل الانسان إلى العالم كله دون مبالغة، وينتقل ببساطة مدهشة وسهولة بين عوالم سحرية لا نستطيع أن نميز فيها حدود الخرافة والسحر عن الواقع الذي أصبح ماضيا. نستطيع أن نلمس ”بوذا“ المقيم على إحدى الطاولات، ونسافر عبر الزمن إلى”كونفوشيوس“ الصيني، وعصر العبودية الإفريقي، ونرتد إلى عصر البخار مع مجسم لقطار بريطاني يعمل على الفحم الحجري، ونستعيد قصة حب على سفينة ستغرق بعد قليل قرب الحدود الكندية (تيتانيك)، محفورة على قرص صلب ثمنه دولارا واحدا بعد أن كان ثمنه عشرين دولارا في يوم ما ليس ببعيد. نلمس ماكينة خياطة ماركة سنجر، كانت تعادل ثورة في يوم ما قبل قرن من الزمن، والآن يتم شراؤها كي يكون حديدها حمالة لمزهرية في زاوية بيت أو واجهة دكان. ترى طاولة زهر شامية، وكوفية فلسطينية، وتمثالا فرعونيا من مصر ولكنه مصنوع في الصين، ومجسما لبرج ايفيل الباريسي، وآخر لبرج ساعة بيغ بن في لندن، وتتابع العيون ”الزوغان“ بين الطاولات المنتشرة في صفوف كصفوف العسكر غير المدربين جيدا، وتتوقف من جديد عند وعاء زجاجي ضخم ”مقشش“ يتسع لحولي أربعين لترا من النبيذ أو الزيت، وبقربه ”مخباط“ خشبي، كان يستعمل في يوم ما لخبط الثياب عند غسلها بالبليون على ضفاف الأنهر الصغيرة في قران. تصل الى نهاية الصف، وتنتقل الى الصف التالي، ولكن ”زوغان“ العينين لا يتوقف. إنه عالم الاشياء الفائضة عن الحاجة، التي استغنى عنها بعض الناس، ليعود بشر أخرون لالتقاط ما تبقى منها، وإعادة إحيائها بعد أن أصبحت قطعا ”نادرة“.

فرش البيوت

في السنة الأولى لوصولي الى مونتريال زرت بيت معلمتي الشابة الجميلة، ووجدت نفسي في متحف من المفروشات القديمة واللوحات والصمديات. سألت المعلمة بلغتي المكسرة، كيف حصلتْ على هذا الأثاث المدهش، فقالت: إنها لا تترك فرصة تفوتها لزيارة كل (فانت دو كراج)، يعني بيع من كراجات البيوت، في نهاية الاسبوع إلا وتزوها. وكل أغراض بيتها تم جمعها بهذه الطريقة، فكان مرشدتي عندما بدأت بشراء أثاث بيتي، ولكن بفعل الحاجة وليس الفن.

أخيرا لا بد من الإشارة الى أن الأسعار ليست رخيصة دائما، والبضائع ليست جيدة وسليمة أحيانا، ولكن الناس تذهب بالألوف كل نهاية اسبوع إلى هذه البازارات للتريض، وتمضية الوقت، والمتعة، وربما العثور على قطعة نادرة، أو ربما برغي نادر وقع من أحدى صمدياتنا أو آلاتنا القديمة، ومن الصعب العثور عليه إلا صدفة أو في البازارات التي تبيع ”الزبالة“ التي يعيد الناس اكتشاف أهميتها، واذا ملّ الزائر من كل ما سبق ذكره فأمامه بالإضافة إلى المطاعم وصالات الرياضة، خمس شاشات عرض سينمائية عملاقة، يرتداها الناس ليلا في سياراتهم لمشاهدة أفلام حديثة أو لفعل أشياء أخرى!

الحروب وكورونا والفقر

في نهاية الثمانينات، عندما وصلت إلى مونتريال، كانت في المدينة شركة واحدة (فيلاج دو فالور) تبيع الأغراض المستعملة، وخاصة الثياب وأدوات المطبخ. قبل ”كورونا“ وبعدها، انتشرت محلات البالة في أغلب أحياء المدينة، وبعد حرب روسيا وأكرانيا، وأزمة المواد الغذائية التي رافقتها، أصبح من المألوف جدا رؤية ظاهرة ”الشحادة“ منتشرة في كل مكان في مونتريال، وخاصة عند تقاطع الشوارع، أو إشارات المرور، حيث تجد أشخاصا من أعمار مختلفة يمدون أيديهم التي تحمل علبا بلاستيكية فارغة للسائقين، وعندما بدأت أرى نفس الأشخاص كل يوم في أماكنهم، يخطر ببالي أن هناك نوعا من التنظيم يدير ظاهرة الفقر والشحادة.

إذا كان هذا ما حصل بعد حرب أوكرانيا ومرض كورونا، فماذا سيحصل في العالم، عامة، والشرق الأوسط خاصة، هل سنرى الشرق الأوسط الجديد الذي تكلم عنه الأمريكيون ويتم تنفيذه في فلسطين ولبنان وسورية والعراق وإيران.

ليس من المستغرب أن تتحول قريبا كل تلك البلدان المذكورة إلى أسواق تغزوها البراغيث والقمل، كما أن كتابتي هذه هي نوع من أنواع البالة المعاد استعمالها!!!

مونتريال: 28/10/2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى