اللاذقية مدينة كلّ الأطياف وكلّ الأوجاع
أحمد رحال * – العربي القديم
تلك المدينة التي تغفو على شواطئ البحر المتوسط، مدينة ذات سحر خاص، يلامس فيها البحر جبالاً رائعة الجمال، كانت تعيش فيها كل الأطياف السورية دون تمييز، وككلّ المدن الساحلية كانت اللاذقية تلك المدينة المنفتحة على ثقافات العالم المختلفة، بساطة أهلها، منحتهم الكثير من محبّة زوّارها وضيوفها.
حتى عام 1970 لم يكن أهل اللاذقية يفرّقون بين مَن يقطن تلك المدينة، فاختلطت أسواقها، وفي شوارعها الغربية قرب الميناء التجاري انتشرت المقاهي والبارات والمطاعم الغربية؛ لتخدم بحّارة السفن التي ترسو على أرصفتها، وبتناغم ما بين الماضي والحاضر عاش سكان اللاذقية، وكوّنوا نسيجاً اجتماعياً، قلّ وجوده بأماكن أخرى.
يُخطئ الكثير من السوريين، عندما ينسبون مدينة اللاذقية للطائفة العلوية؛ ظناً أنها مدينة للعلويين، وكمدينة وُلدتُ فيها، وعشت فيها معظم حياتي، أذكر أنه حتى عام 1979 لم يكن هناك من أحياء علوية في مدينة اللاذقية، سوى حي الرمل الشمالي، وكلّ ما تبقّى للسُّنة والمسيحيين، ولم تكن هناك أسواق للعلويين داخل المدينة سوى سوق البلدية، وهو عبارة عن سوق مسقوف، تعداد محلاته لا يتجاوز 10_15 محلاً صغيراً، قرب ساحة البلدية القديمة، التي انتقل مبناها لاحقاً إلى شارع الكورنيش في حي مارتقلا، قرب نادي الضباط العسكري على شاطئ البحر.
كانت مدينة اللاذقية كسائر المدن السورية، ورغم انفتاحها على البحّارة الأجانب مدينة محافظة، وكان من يُضبط مُفطراً جهراً بشوارعها في شهر رمضان، يُوضع في السجن، حتى ما بعد انتهاء عيد الفطر المبارك، وكان لزاماً على المطاعم في شهر رمضان أيضاً أن تضع ستارة كبيرة على بوّاباتها؛ لمنع رؤية الطعام، ومن يتناول الطعام داخلها، لكن يد نظام الأسد الأب، امتدت لتلك المدينة كمعظم المدن السورية، وحاولت العبث بأحيائها وسكانها، و”علونتها”، لكن كل تلك المحاولات كان نصيبها الفشل، فكان قرار حافظ الأسد نقل كلّ مؤسسات الدولة إلى خارج المدينة، وبالتالي إفراغها من أهميتها، وزخم شوارعها وأسواقها الداخلية. ترافق نقل مؤسسات الدولة من داخل مدينة اللاذقية، مع خطوة أخرى تمثّلت ببناء حزام سكاني “علوي”، على محيط المدينة، فكانت أحياء مشروع الزراعة، والمشروع السابع، والمشروع العاشر، ومشروع الدعتور، ومشروع الريجي، وغيرها من المشاريع التي أحاطت بمعظم أحياء مدينة اللاذقية، وإليها نُقلت مؤسسات الكهرباء والماء، وكذلك مقرّات الأمن، وأمانة السجل المدني، وكلّ ما يتعلّق بخدمات المواطن، باستثناء مبنى قيادة الشرطة الذي بقي في مكانه، في بداية شارع بغداد، قرب الميناء التجاري.
مع العقوبات الغربية على سوريا في ثمانينات القرن الماضي، ظهرت عصابات التهريب التي تتبع جلّها للطائفة العلوية، ولأقرباء الأسد، فكانت مافيات منذر الأسد، وفواز الأسد (أبناء جميل الأسد شقيق حافظ الأسد)، وكانت عصابة شيخ الجبل (محمد الأسد)، وعصابة هلال الأسد. مع تلك العصابات اتشحت المدينة بالسواد (كانوا يرتدون ألبسة سوداء، ويحملون السلاح جهاراً دون رادع)، وأُطلق عليهم تسمية “شبيحة التهريب”، وكانت لبنان مقصدهم، وبدون أي رادع ينقلون منها ما يريدون لأسواق الساحل السوري والمدن السورية.
كان أصحاب المناصب في المدينة من المحافظ لقادة الأفرع الأمنية، وقيادة الشرطة تتحاشى الاصطدام مع أقرباء حافظ الأسد من الشبيحة، وعصابات التهريب، وأذكر أثناء عملي كقائد سرب زوارق صاروخية في البحرية السورية، وأثناء مَهمّة تدريبية لي في البحر، وردتني برقية، ومهمّة تطلب مني استطلاع هدف بحري، قرب جزيرة أرواد، فتوجّهت إلى المكان، فكان هناك قارب كبير مُعدّ للتهريب، قال ربانه إنه مُلك لفواز الأسد، وعندما أبلغت القيادة العسكرية عن الموقف طُلب مني ترك القارب، ومغادرة المكان، وعدم تسجيل محضر ضبط بالحادثة، وبتلك الطريقة كانت تتمّ كلّ عمليات التهريب برّاً وبحراً، و”على عينك يا تاجر”.
مواجهات النظام مع سكان المدينة بدأت منذ عام 1980، مع المجازر التي ارتُكبت في مدينة حماة، فأراد نظام الأسد الأب إرضاخ المدينة، بعد افتعال جريمة على يد المخابرات السورية، عندما قتلت أحد رجال الدين العلويين المعروفين، فتحرّك مئات الشباب العلوي لداخل أحياء اللاذقية، وأذكر، ووفق مشاهداتي يومها أنّه بمجرّد وصولهم لمبنى جامعة تشرين في مدخل حيّ الصليبة، اصطدموا مع سكان هذا الحيّ المشهور بشجاعة رجاله الذين هاجموا مخفر حيّ القلعة، وحصلوا على كامل السلاح الموجود فيه، وواجهوا مسيرة العلويين، وقُتل حينها ابن حيّ الصليبة “نادر الحصري” الذي كان يحمل معولاً زراعياً “كريك” على زاوية المقهى الصيفي بحيّ الصليبة، وعلى إثر المواجهات القوية تفرّقت مسيرة العلويين، وغادروا شوارع اللاذقية، لكن وكانتقام لمقتل الشيخ العلوي، تمّ إطلاق النار على أحد أهم وجهاء اللاذقية، وهو صبحي جود الذي أُصيب بالشلل نتيجة الحادثة.
شكلت مواجهات اللاذقية نقطة فاصلة لدى النظام، عاد بشار الأسد ليعيش فصولها نفسها، مع انطلاقة الثورة السورية عام 2011، حيث كانت مدينة اللاذقية، وحي الصليبة بالتحديد أوّل مَن خرج بمظاهرات مؤيدة للثورة، ولما حصل بدمشق ودرعا.
عمل حافظ الأسد على عسكرة سكان الساحل، وجعل التطوّع بأجهزة الأمن والجيش، هو الملاذ الوحيد لسكان الساحل وخاصة العلويين، فمنع إقامة أي منشآت صناعية من معامل وسواها في الساحل السوري، وحتى عام 2000 لم تكن هناك منشآت، سوى معمل الكونسروة في جبلة، ومعمل الألمنيوم في اللاذقية، ومعمل الإسمنت في طرطوس، والغاية كانت تتمثّل بهدفين: الأول تغليب الصبغة العلوية على أجهزة الأمن والجيش السوري، والثاني نقل شباب الساحل (العلويين) للعاصمة دمشق، وجعل خدمتهم العسكرية، أو الأمنية بالعاصمة أو محيطها؛ لتشكيل الحزام الطائفي العلوي، حول مدينة دمشق التي استعصت أيضاً على نظام الأسد، بعد رفض سكانها التخلي عن عقاراتهم، أو بيعها للعلويين.
الساحل السوري اليوم، ومعه مدينة اللاذقية يعيش أوضاعاً كارثية في ظل تفشي قطعان الشبيحة، وعصابات الأسد من الدفاع الوطني، إضافة لكل أجهزة الأمن التي تخدم نظام الأسد، ومع ذلك تبقى مدينة اللاذقية شامخة بقدرات عائلاتها، وبشهامة أبنائها، وبإصرار شبابها على المواجهة، وعدم ترك الساحة للنظام للسيطرة على مدينتهم العزيزة على قلوبهم.
* عميد ركن منشق عن البحرية السورية وباحث ومحلل عسكري
___________________________________
من مقالات العدد الثاني عشر من (العربي القديم) الخاص باللاذقية – حزيران/ يونيو 2024
لتحميل العدد كاملاً اضغط هنا.