13 سنة ثورة | سقوط الخوف ومراوغة الموت
بقلم: مصعب الجندي
من الكفر الاعتقاد أن ثمة تحضيراً طويلاً لإسقاط النظام في سوريا، وأبتعد دوماً عن فكرة المؤامرة وإن كان ثمة الكثير ما يشير إليها بالصورتين المتعاكستين: أولاهما منع التغيير بمعناه الواسع: التحول البنيوي في (المجتمع / الدولة)، وما يستتبع ذلك من ارتدادات على المحيط (شقيقاً أو صديقاً أو عدو). قد أكون مخطأً؟ فالأمر بالنسبة لي سيراً بعكس نمط عيش يفرض نفسه بكل ما تحتويه كلمة الفرض من قسوة على النفس البشرية، أفراداً وجماعات، فكيف إذا ترافق مع ما يزيد عن خمسة عقود متواصلة من تعرض ذات الإنسان السوري إلى الصدمات والهزات العنيفة والمتنوعة الأسلوب لتنوع المصادر واختلاف الاتجاهات، يصنعها عقل عصابّي ندر في التاريخ الإنساني أن شابهه عقل آخر!
تارة كان هذا العقل العصابي يجعل من هذه الصدمات والهزات صورة متخيلة كرسالة وتهديد غير مباشرين، وأخرى كحالة صادمة في الواقع لتثبيت صدق الوعيد وروابط الديمومة والقسوة والعنف والوحشية، عدا عن مركزيةً منفلتة كحالة نادرةٍ في إدارتها، يجمعها هدف واضح هو الاستحواذ كلياً على الذات السورية، فرداً وجماعات.
أجيال عوقبت علناً عن طريق الإخضاع القسري لتدجين مسلسلات الرعب، بدءاً من الحلقة الأدنى في التراتبية الغريزية للحفاظ على الحياة (لقمة العيش) ومسك مفاصلها _ إشباعاً وتجويع _ كحالة تبيح الدناءة في النفس الضعيفة، صعوداً من خلالها لتشكيل طبيعة العلاقات المجتمعية في السياسة ومروراً بالاقتصاد والثقافة، لتبقي سوريا في حالة جمود ثابت، إن كنّا متفائلين!
أما وقد سقط دستور الخوف وبناؤه (2011)، فالذكرى لا تعني سرعة السقوط فقط، وبقدر ما يراها البعض لحظة مبنية على تراكم طويل أدى إليها كمفصلٍ حياتيّ، بقدر ما هي مليئة بأسرار وغموض السقوط نفسه، لحظةً نتوازع معانيها اختلافاً بالتعريف والتحليل، وكلنا يخطئ ويصيب إلاّ في حقيقة واحدة أنها مثلت للسوريّ صدمة في الوجود الكياني (العيش)، حيث وجد السوريّ نفسه وجهاً لوجه أمام حالة ذاتية بالكاد يعرفها ضمن مستوياتها الدنيا، هي (المستقل)، أو التفرد بلا حدود لا تطوقه قوانين الطاغية: منظومته الهرمية، قيمه والطاعة لتقيمه للبشر والناس والعلاقات، إدارته المركزيّة الصارمة والمنفلتة في الآن معاً لأصغر صغائر الحياة. لحظة استثنائية عظيمة التفرد والإرباك للمشاعر والأحاسيس، مزقت كل التجربة الذاتية والجماعية التي اعتادها السوريون ودربوا أنفسهم تدريباً صارماً وحذقاً للتكيف مع متطلباتها الُمّتصفةِ كشكل من أشكال الموت الرتيب البائس، حتى ألفوها مع مرور ما يزيد عن خمسين عام، لدرجة تجاوز كثير من السوريين حالة التعود إلى العادة، كنموذج صارخ لفقدان السويّة النفسية المتوازنة، وحلّت مكانها الغرائز (غرائز الحب والكره) بتنظيم فعلها وفاعليتها، لتغدو تفسخاً في الضمير، وتعفناً يتغلغل في ذات بعض السوريين عميقاً في ثوابتها ومثلها الإنسانية العامة.
نظرة سريعة لمؤسسات الدولة وأجهزتها تظهر هذه الحالة كصدعٍ في البناء الاجتماعي نحتاج الكثير الكثير لرأبه. أمام هذا العبء الثقيل من القهر البشع في معاناة السوريين أصبحت معضلتهم الكبرى تتركز تركزاً مكثفاً مع اللحظة ذاتها (سقوط الخوف)، أسرارها وغموضها والقوى الفاعلة فيها التي تطيل أمدها، معضلةٌ تتركز في هدف ٍ سلوكي (أداء / فعل / فكر)، هو الحاجة والضرورة للإبداع الذي لا يستهلكه الحدث اليومي الآني _ وإن شاغله قليلاً _ للانتقال من مركزية التنظيم الاجتماعي (الصارم / المنفلت)، إلى حرية تنظيم المجتمع في علاقاته دون تردد المساكين أو خوفهم، ومن خلال العنف (قسراً)، أو السلم (اختياراً).. بوصف آخر بسيط: استعداد ذات السوريين أو مقدرتهم للتحول في اتجاه نمطِ عيشٍ آخر، نظرة أخرى للحياة، والانتقال من الاختلاط في زيف الكره والحب كغرائز وكحالة تَمزقٍ في البنية النفسية وفصام في الشخصية في تعامل (العقل / المحاكمة) مع العواطف، إلى حرية الحب والكره كمحاولة لإعادة توازن النفس ورأب تصدع الشخصية …. لحظةٌ هي تاريخٌ بعينه، تعبّر عن قسوة سابقها (الحياة كموت رتيب)، لتتجاوزه قسوةً في بناءها ونسيجها وعلاقاتها، وحجرها وبشرها، حتى تحاكي مرحلة (مراوغةٌ الموت).. يراوغ السوريّ موته، لينتقل لإنسانيته، أنسنةً حضاريةً كاملة…..
كيف يبدع السوريون أسلوب وبرامج وعقل التعامل مع لحظة سقوط الخوف لتفكيك قواها والتخلص منها ليتمكنوا تجاوزها باتجاه المستقبل؟ .. بادئ ذي بدء، الإقرار كيقين، أن ليست ثمّة وصفة أو برنامج علميّ محدد في التعامل مع عبء الماضي والمُسقط، حكماً، على الحاضر وما سينتجه من آثار على المستقبل، وإنما دعوات ومبادرات، تخطئ وتمتلك قدرة التصحيح، ومن خلال امتلاك السوريّ ذاته (عقلاً / سلوكاً / فعلاً)، ليخرج من شرنقة الكلام الطوباويّ، إلى أداءٍ فرديّ قابلٍ لأن يترجم جماعياً.. والبدء أيضاً حتى وإن كان عودةً (عودةً وليس نكوص) إليه بعد ثلاثة عشرة من سنين مجالدة النزع الحضاري، أن يبدلوا نظرتهم إلى ( 15 / 18 آذار 2011 ، ولا خلاف على التاريخ) ، فلا يعتبرون ما حصل في التاريخ إياه وحده، حداً فاصلاً بين فريقين، وإنما بين حقبتين بكل ما تحتويهما من قوى تصادم (ثقافة / سياسة / إدارة / أخلاق …… وبشر تعمل من خلالها)، وأن يرسخ لدى السوريين في الشعور وألا شعور أنهم شعب أسقط التردد، وإن غالبهم التعب أحياناً، وأنهم فرحون بشرارة الفيصل بين الحقبتين غير خائفين عليها، لأنها حقيقة متمادية لا تنتهي مع الزمن. بل أكثر: التحدي الكبير أمام السوريين أن يصير ( 15 / 18 آذار )، هو بالذات، لا ذكراه، وبكل شعاراته والرموز، كائنٌ حيّ نابض بالاستمرار والحياة، ولا نظن ذاك مستحيل لأن من ينظر إلى الصورة الآن ويتذكر أن كل السوريين كانوا هناك (وإن ادعى البعض رفضها)، كحقيقة جامعة، مادةً وروح، وبكل جوارحهم ، لم يستقطبهم أحد على حساب أحد، وإن حصل اختلاط فهو من طبيعة قسوة مرحلة تفكك الحقبتين وما تحتويهما من سوريّ وغير سوريّ، فالله كلف نفوس السوريين فوق وسعها، حمّلهم سوريا أرض الشهادة، ولا من خوف في قلب أو عقل أو بصيرة أبناءها، فذاك هو الفرق بين الحقبتين……
أما ما يلي البدء مع الذكرى وكلّ لحظة تذكر هو خوفي أن البعض منّا انتقل إلى مرحلة نبش أو (اختراع)، فسحاتٌ للتخويف والتخوين، تارةً بحدث آني وأخرى من مخزون الخوف والخيانة السابقين المُحتَفَظُ منها في الذاكرة أو الثقافة، أو في مستودعات كانت مُغلقةً إلى أن حان موعدها. يجدر بنا الحديث: منذ البداية، وخلال السرد، وحتى الخاتمة أياً كانت صورها فهي خاتمة مرحلة، وتعني الاستمرار لما بعدها،.. يجدر الحديث: أن لا مبادرة واحدة نبني عليها، أو كيان واحد يمثلنا إن لم يمتلك آلية التجديد ويسقط الاستئثار أمام الإيثار، ولا فعل وأداءٌ واحدٌ بخطٍ مستقيم نسير عليه….. ثم ننسى؟.. حينها نفشل (إدارةً وسياسة)، ونعود نكوصاً إلى دستور الخوف. فشل السياسة وحدها ومجرّدة يحتمل الصورتين (الوهم والواقع)، لنبقيه في إطار الوهم فما أكثر السياسيين الفاشلين بيننا.
ماذا عن الآخر، الآخر نفسه ونقيضه، أو الآخر الغريب. حديث آخر قد يطول في الحقبتين وليس الفريقين.
يبقى أن أذكّر وأكرر التذكير في مجال الإدارة وليس في مجالات الثقافة أو السياسة أو الفن أو الاقتصاد .. أو.. أو.. الزمن السوريّ هو الآن (الآن.. لا ماضياً ولا مستقبلاً، والآن هذه قد تمتد عقداً أو أكثر فلنبقى….. مستمرون).
__________________________
* ملاحظة: المقال جزء من بحث طويل احتاج مني بالإضافة لتجربتي، العودة إلى الكثير من المراجع. أرجو من الله أن يطيل في العمر قليلاً لحين موعده. حقوق النشر محفوظة للكاتب ولـ (العربي القديم).