الرأي العام

قصد السبيل | في أساسيات التفكير المجتمعي: اختبار الأفكار قبل الاختيار

 د. علاء الدين آل رشي

إحدى مداخل التغيير ومستوياته، تكمن في أن تتطلع إلى تغيير النخب من أجل تغيير المجموع؛ فغالب المجتمعات ترنو إلى وجود القيادات التي ترسم الهدف وتخطط له وتشرف على خطوات التنفيذ، وعامة المجتمع هم القوة الصلبة التي تنقل الفكرة من المثال والتجريد إلى الواقع والتجسيد وهذا يختلف عن منهج التغيير الشامل باستهداف المستويات جميعاً.

انفصال الفكر النخبوي عن استحقاقات الواقع

يرى سي دي جاكسون “أن الأفكار العظيمة تحتاج إلى عجلات وأجنحة هبوط.. فكل فكرة لا تدخل حيز التنفيذ، لا تُحدث أثرًا عظيما، فالقوة الحقيقية للفكرة تظهر عندما تنتقل من الحيز التجريدي إلى التنفيذي”.

والحقيقة إنني أرفض عاجية بعض النخب، بل لا أؤمن بمقولة فولتير في حديثه إلى الفلاسفة: ” تفلسفوا فيما بينكم ما طاب لكم … ولكن احذروا من أن تقوموا بالعزف أمام الجهلة السوقيين … فقد يكسرون آلاتكم على رؤوسكم”

 إن عدم تسليمي بصحة تلك المقولة يعود إلى واقع ملموس، من الانفصال بين الفكر النخبوي واستحقاقات الواقع أو مطالب عامة الناس، حتى بات الطرح النخبوي  معقدا في ظاهره روح الجدية وفي باطنه الهزل والانعزال عن فهم الواقع. بل بات حديث بعض النخب يمس حياة المجتمع ويسعى لتقويض تاريخه وإرثه وينال من قيمه وأذواقه وتركيبته الاجتماعية؛ فلم السكوت عنه إذن!

المقال ليس دعوة لأن يتفلسف الناس؛ بل دعوة لأن يعوا الحدث؛ ويدركوا ما يهدد وجودهم من خلال إحياء مفهوم اختبار الأفكار قبل اختيارها… وغياب ذلك دفع بالنذر السلبية التي تلوح جوائحها في أفق الإنسانية الضيق.

(المجتمعات لا تتغير في يوم الثورة، ولا حتى في عام الثورة. فالناس لا تستيقظ بثقافة سياسية جديدة في اليوم التالي. إن بناء ثقافة المواطنة وسيادة القانون، والمؤسسات هو صيرورة تحتاج إلى وقت وجهد، وإلى من يراها عملية انتقالية نحو هدف؛ وهذا يعني أنها تحتاج إلى حد أدنى من وحدة القوى الثورية وتنظيمها. فحصر الخيارات بين العفوية من دون تنظيم من جهة، وفرض الأيديولوجيا من أعلى من جهة أخرى، يقوم على منطق مناقض لمراحل التحول نحو الديمقراطية.)   وهذا يتطلب جهداً مكثفاً وحقيقياً من النخب .

اختبار صحة أفكارنا

وإذا بات الناس عاجزين عن الوعي بما يهددهم؛ فلننزل تلك الأفكار من مستوياتها المعقدة ولنطرحها بمستويات أدنى من الفهم؛ ولنختبر صحتها عبر خطاب يعانق  الجمال ويمتزج حرارة المقصد و يلتزم بمسؤولية الواجب وإيصال المعنى المراد؛ وليس دحض الأفكار ومعارضتها أو الأخذ بها فحسب.

في كتابه كيف (يفكر الناجحون) يذكر   John Calvin Maxwell  ما تفاخر به في وقت من الأوقات الديكتاتور أودلف هتلر حيث قال: “من حسن حظ الحكام أن الناس لا يفكرون”  

إن مجتمعاتنا تمر بمنعطف خطر، حيث تواجه الحكومات والشعوب مسؤولية القرارات التي يتعين اتخاذها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة. ومن المهم جداً أن تكون لدينا القدرة على التفكير بشكل واضح ومنطقي قبل التصديق بأي فكرة .

عندما تسمع أحدهم يقول: أقول هذا دون تفكير فتوقع أن  يقول كلاماً فارغاً، ذلك أن استخدام خطوط الإرشاد لا يمكن أن تكون فعالة دون اتباع أسلوب تفكير منطقي وفعال.  وواحدة من أساليب التفكير الفعالة التي يمكن للإنسان أن يتبعها قبل اتخاذ أي قرار يمكن تعريفها ب (اختبار الأفكار) وذلك عبر عملية تجمع بين: تقييم الأفكار + التفكير بمآل الفكرة.

وهذا يتضمن:

•           فحص الأفكار لمعرفة مدى مصداقيتها وفعاليتها قبل اتخاذ القرار.

•           التحليل والتقييم لضمان أنه يتخذ القرار المناسب الذي يدعم أهدافه وتطلعاته.

إن اختبار الفكرة يسهم في استثمار الوقت وتحجيم الكوارث وعصمة الدم.. ف “الشعوب التي تفشل في تشخيص أمراضها بشجاعة تموت نتيجة تناول الدواء الخطأ”. 

إن طرح |أو اتباع فكرة خاطئة لا ينعدم ضررها بأن نكف عنها ولا نعود إليها، بل ربما تكلفنا ثمنا كبيرا في تصحيح وتعويض الخسائر التي نجمت عنها جهد المضي في سبيل فكرة لم تختبر وجهد استعادة المسار الصحيح وجهد ترميم ما بلي.

من هنا نؤكد على أهمية فحص الفكرة وذلك لما له من آثر في توجيه قرارات المجتمع نخبا وشعبا نحو النجاح والتحقق من الأهداف. وهذا يتطلب كما سلف وأشرت ضرورة أن يمتلك المجتمع القدرة على:

1.         تحليل وتقييم الأفكار بشكل منطقي وعقلاني.

2.         اختبار الأفكار.

إن امتلاك القدرة على اختبار الفكرة يساعد على التفكير بحذر وتقدير المخاطر المحتملة قبل أن يتخذ القرار النهائي.

 اختبار الأفكار يبني ذائقة مجتمعية تسهم   في زيادة معرفة وثقافة وتطور  الفرد وتعزز من قدرته على التحليل والتقييم والتفكير النقدي والابتكار، وهذا يؤدي إلى تطوير قدراته الإدراكية والعقلية ويساهم في بناء الثقة بالنفس للشخص.

عندما يكون الشخص قادراً على اتخاذ القرارات بناءً على تحليل وتقييم الأفكار بشكل صحيح، فإنه يكسب ثقة بنفسه وقدرته على التفوق والنجاح في الحياة.

الأفكار الصحيحة + الأشخاص المناسبين + البيئة الملائمة +الوقت الصحيح من أجل الدافع الحقيقي = النتيجة المرجوة

خطوات مجربة

هناك عدة خطوات يمكن للشخص اتباعها لاختبار أفكاره قبل اتخاذ القرار.

 ومن الأهمية بمكان أن يكون الشخص واثقاً من أنه يتبع هذه الخطوات بكل تركيز ووعي وانتباه.

1.         ما هو الهدف: قبل أن يبدأ الشخص باختبار أفكاره، يجب عليه تحديد الهدف المرجو من الأفكار التي يريد التصديق بها. وهذا يتطلب تحديد ووضوح الهدف  لكي يكون بإمكانه تقييم الأفكار بناءً على مدى توافقها مع الهدف.

2.         تحليل الأفكار: بعد تحديد الهدف، يجب على الشخص أن يبدأ في تحليل الأفكار التي بدأ في التفكير فيها  وهذا يقوده إلى طرح أسئلة جوهرية :

ما هي البديلات المتاحة؟ وما هي النتائج المحتملة لكل بديل؟ وما هي الأفكار التي تدعم الهدف وتخدم الغرض المطلوب؟  وغيرها من الأسئلة التي يمكن أن تساعده على تحليل الأفكار بشكل أفضل.

3.         تقييم المعلومات: بعد التحليل، يجب على الشخص أن يقوم بتقييم المعلومات المتاحة له والتي يعتمد عليها في اتخاذ القرار.

عليه أن يتأكد من:

•           المعلومات المستخدمة صحيحة وموثوقة ودقيقة فلا يكفي وفرة الأفكار، بل لا بد من صحتها وركائزها الاستدلالية

•           مناسبتها ومطابقتها للبيئة.

4.         التفكير المنطقي: وهذا يعني التركيز على الأدلة والحقائق بدلاً من الانحياز الشخصي أو العواطف في اتخاذ الأفكار

5.         العقلانية والواقعية: وهذا يعني تصحيح  الأخطاء وعدم إلفها  وتنزيل الفكرة في سياق صحيح وجو مناسب لها

أفكار متوحشة!

لقد أردت فيما سبق، تعميق فكرة الوعي الراشد بالفكرة وعدم شرعنة الفساد نتيجة إلفة واعتياد معه. لقد وقعت مجتمعاتنا في براثن أفكار متوحشة حرقت شبابها وكسرت رجلها وأدخلتها في متاهة الدورة الرديئة وإذ حق لنا أن نقول: بأن الحاضر هـو مستقبل الماضي، أدركنا أن واقعنا وحاضرنا جاء ثمرة للفكرة التي  لم تكتمل ومع هذا  سادت أو لفكرة قاصرة وفدت  ومع هذا راجت وشاعت وأن فجوة التخلف التي نعاني منها، أو المعادلة الصعبة التي نعيشها إنما هـي بسبب انسلاخنا عن اختبار الفكرة قبل اختيارها  وبسبب أننا نعاير واقعنا وحاضرنا، ونحاول قياسه، وتصويبه، بفكر ماضوي أو حداثي، مع أن الأمر المنطقي كان يقتضي في دراستنا لمشاريع النهوض وفكرها، وإبصار سبل الخروج أن نقيس واقع كل أمة وحاضرها بأصولها وقيمها الحضارية، لا بأصول وقيم حضارية غريبة عنها.

زر الذهاب إلى الأعلى