أعيان حلب ودورهم الإصلاحي (مرعي باشا الملاح نموذجاً): التاريخ يصون سير شرفائه
بقلم: محمد منصور
تعرّض تاريخ سورية الحديث لعمليات انتقام طبقي وأيديولوجي. صُنّف رجاله الوطنيون، وبناته تصنيفات بعيدة تماماً عن جوهر الأدوار التي لعبوها بخيرها وشرّها. وجرى طمس شخصيات ورموز، وإبراز أخرى، تبعاً لاعتبارات لها علاقة بثقافة استئصالية معادية، غيّرت، ورسمت معالم الحاضر، والتفت نحو الانتقام من الماضي.
وقد تعرّضت المرحلة العثمانية في التاريخ السوري إلى واحدة من أشنع محاولات الطمس، والتنميط والتصنيف المُسبق، وجرى التعامل معها، ومع رجال عهودها من السوريين، باعتبارهم جزءاً من حقبة سوداء لا يمكن قراءتها، إلا من زاوية واحدة، ورؤية أيديولوجية واحدة.
صورة مختلفة ومنضبطة
كتاب (أعيان حلب، ودورهم الإصلاحي: مرعي باشا الملّاح نموذجاً) الذي أعدّه ثامر علي مطلق، وصدر عن دار نور حوران للنشر عام 2022 يخرق هذه القاعدة، ويتمرّد على النمط السائد، خلال عقود من حكم البعث، وفرض منهجه وتصنيفاته السياسية في قراءة التاريخ. يحاول أن يقدّم صورة مختلفة، لكنها منضبطة، وملتزمة بقواعد الموضوعية، لدور، وأعيان حلب، بعد تحوّل حلب إلى ولاية عام 1866م، بموجب قانون الولايات العثماني الصادر عام 1864 الذي كان أحد القوانين الإصلاحية، مع بدء حقبة الإصلاحات العثمانية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، جرّاء ظهور اللامركزية، وإعادة هيكلة الدولة العثمانية التي مهّدت لهذه الإصلاحات.
لقد كان هذا القانون خطوة هامة، على صعيد منح قدْر أكبر من الصلاحيات في إدارة الولايات، ما أفسح المجال، لمشاركة المجتمع المحلّي في عملية صنع القرار، وأدّى إلى بروز نخبة من الموظفين المحليين الذين دُمجوا في المؤسسة العثمانية، لكنهم استطاعوا أن يُحدثوا تحولات هامة في بنية العمل الإداري، وإبراز الصورة الجديدة للمجتمع الذي انتقل من تناحر العصبيات تارة، وتحالفها حيناً آخر، إلى دمجها ضمن التنظيم الإداري الجديد. اختار الباحث في كتابه الذي هو بالأصل رسالة، لنيل درجة الدكتوراه، شخصية مرعي باشا الملّاح، كنموذج لهذه الطبقة الإصلاحية من أعيان حلب، التي أنتجتها هذه التحولات، فتأثّرت، وأثّرت بها، ولعبت دوراً هاماً في صياغة العديد من المراحل، وخصوصاً أنّ مرعي باشا الملّاح عاصر فترات حكم مختلفة، بدءاً من عهد السلطان عبد الحميد الثاني الواصل بين العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، والعقد الأول من القرن العشرين، إلى عهد الاتحاديين، ووصولاً إلى الدولة السورية الأولى التي تشكّلت زمن الملك فيصل بين عامي (1918- 1920) وانتهاء بفترة الانتداب الفرنسي (1920- 1926)، بحيث نجد أنفسنا أمام شخصية بالغة الثراء، برزت فعاليتها الإدارية والسياسية في فترة تحوّلات كبرى، ساهمت في تحديث هوية مدينة هامة، وكبيرة كحلب على مرّ عقود طويلة، وتطوير اقتصادها بعد حالة التراجع التي شهدتها، من جرّاء افتتاح قناة السويس عام 1869. وهو أثر لا ينتهي بالتأكيد، عند سنة الافتتاح المشار إليها، وإنما يمتدّ لسنوات بعدها.
من هم الأعيان؟
ولعلّ من أبرز مزايا هذا الكتاب، شأنه شأن كلّ عمل بحثي علمي، هو التوقّف عند المصطلحات، والاهتمام بتحديدها وشرحها، ولا أدعى من ذلك الوقوف عند المصطلح الذي يتصدّر عنوان الكتاب “الأعيان”، أي أولئك الذين يستطيعون أن يلعبوا دوراً سياسياً ما، كوسطاء بين الحكومة وعامة الناس، وأحياناً كقادة، أو زعماء لسكان المدن… ويوضح الباحث استناداً إلى تعريف ألبرت حوراني، أن مصطلح الأعيان يشمل عموماً ثلاث فئات:
- العلماء بسلطتهم الدينية، وكانوا ضروريين للحكومة العثمانية؛ لإضفاء الشرعية لهم.
- الآغوات، وهم قادة الحاميات المحلّية بسلطتهم العسكرية.
- الأعيان المدنيون المحلّيون المتجذّرون بتقليد سياسي ما (آغا، أمير، باشا، أفندي)، كذكرى جَد، أو سلف، أو حتّى عصبية، أو من خلال السيطرة على الإنتاج الزراعي، عبر حيازة ملكيات، أو الإشراف على أوقاف معينة.
المجالس المحلية المستحدثة، بموجب قانون الولايات العثماني عام 1864، سمحت لعدد كبير من أبناء الأعيان بممارسة العمل فيها، وأصبحت أساساً لتقوية ودعم مركزهم، وازدياد نفوذهم الاجتماعي، وهذا ما جعل العائلات الكبيرة تسعى لإدخال أكبر عدد ممكن من أفرادها ليتبوّؤوا المناصب في آن واحد، فنجحت عائلات كالجابري، والمدرّس أكثر من غيرها في تنظيم انتشار واسع لأفرادها في المجالس، والمؤسسات الحكومية، فيما يضمّ هذا السجل الحافل أسماء عائلات أخرى كالأوبري، والشريف، والصيادي، والعادلي، والقدسي، والكيخيا، وآل الملّاح، إذ تعتبر عائلة الملاح التي قدِم أسلافها من اليمن إلى العراق في أوائل الفتح الإسلامي، ومن العراق إلى البادية الشامية في الربع الأول من القرن الثامن عشر الميلادي، واحدة من العائلات الحلبية التي حازت نفوذاً ومكانة، وامتدت فروعها في كلّ من دمشق، وطرابلس الشام، وحيفا، وغزّة وعمّان، وبغداد، وقد تمثّلت عائلة الملاح بثلاث شخصيات اضطلعت بعدد من المناصب الإدارية في حلب، فإلى جانب مرعي باشا الملاح، ثمّة: أحمد آغا الملاح، وعبد القادر ناصح الملاح.
صعود آل الملاح
ويتتبع المؤلف سيرة دخول عائلة الملاح في سلك الحكم والإدارة، فيشير إلى أنّ الدولة العثمانية لجأت في نهايات القرن السابع عشر إلى توطين العشائر الرُّحّل في كلّ من الأناضول، وبادية الشام، لا سيما في شمال شرق إيالة حلب التي كانت تعاني من التصحّر، بعد أن دمرها تيمورلنك، بشكل تام في القرن الخامس عشر، وذلك بهدف إعادة إعمار القرى، وتقوية العنصر الحضري، وتشجيعه على المحافظة على أرضه، وفي هذا السياق ولّتِ الدولة العثمانية آل الملّاح محافظة مملحة الجبّول، ومنحتهم لقب “آغا”، مقابل ضمان الأمن فيها، وحمايتها من تعديات البدو، وجباية ضرائبها، فانتقل آل الملاح من حياة البدو إلى التحضّر، وكان أوّل مَن تولّى أمانة المملحة عمر آغا، نزيل الجبّول، ثم عبد القادر آغا، ثم أبو بكر آغا، وعُرفوا بادئ الأمر باسم (الخميسي) نسبتهم إلى عشيرة البوخميس المتفرعة، من عشيرة الدليم إحدى عشائر العراق، ثمّ ببني (الجبّولي) ثم بـ (الملّاح)، وقد كان الملح المستخرج من سبخة الجبّول حكراً للدولة، إذ شكّل مصدر دخل كبير، ومورداً رئيساً للخزينة، كما أصبحت مملحة الجبّول، في مرحلة ما بعد إعلان الدولة العثمانية إفلاسها عام (1875) من الإدارات الملحقة بنظارة الديون العمومية التي كان يُخصّص ريعها؛ لسداد ديون الدولة العثمانية.
وبعد أن يستعرض المؤلّف ما قام به أبو بكر آغا ابن عبد القادر آغا، وهو ثالث أمناء الجبّول، والجدّ الثالث لمرعي باشا ما قام من أعمال، ثم يأتي على سيرة قاسم آغا بن حسن الملاح، والحاج صالح آغا الملاح (والد مرعي باشا) يصل إلى موضوع بحثه: مرعي باشا الملاح، فيتحدث عن تكوينه العلمي والثقافي بدءاً من المدارس الاعتيادية الحديثة التي أنشأتها، وأدارتها البعثات التبشيرية والمصطلح على تسميتها بـ “المكاتب العادية”، وانتهاء بتحصيله العلمي العالي في إسطنبول، حيث حصل على شهادة تخوله حقّ الدخول في سلك القضاء، كما خضع لامتحان في القانون التجاري الهمايوني، بإشراف نظارة التجارة، وحصل فيها على شهادة أخرى، وعُيّن في منصب رئاسة محكمة التجارة، نتيجة حصوله عليها، كما انتظم في سلك الإدارة العثمانية، بتشجيع وتوجيه كامل من باشا “الصدر الأعظم”، وأجاد الملاح اللغات العربية، والتركية، والفرنسية التي كانت ضمن مواد القانون التجاري الذي حاز شهادة فيه. كما يشير المؤلف إلى الثقافة الواسعة التي حصّلها مرعي باشا الملاح، من خلال مطالعة أمهات الكتب، ناهيك عن شغفه الكبير باقتناء الكتب، حيث أسّس مكتبة ضخمة تضمّ آلاف الكتب والمخطوطات، فجمع عدداً ضخماً من نوادر المخطوطات، ونفائس المطبوعات التي كان يحملها من البلدان التي يزورها… ويستدل على عمق ثقافته – كما يرى المؤلف – من خلال الرسائل، أو الخطابات التي أرسلها إلى الحكومة العثمانية، والمحفوظة في الأرشيف العثماني، وهي رسائل كُتبت بخطّ يده، وتتميّز بدرايته الكافية بأسلوب الصياغة، والهدف المراد إيصاله، فضلاً عن تمكنه من قواعد اللغة.
مرعي باشا، الدور، والسمات الإصلاحية
لقد برز مرعي باشا الملّاح، خلال مسيرته كرجل دولة ذي شخصية إصلاحية وقانونية وحقوقية، يعالج ما يصادفه من حوادث وقضايا بالأطر القانونية، دون أن يفقد الحصافة، والمرونة التي تجعله يقدّر الحالات الخاصة والاستثنائية، فيجد لها حكماً عادلاً، إن لم تشملها النصوص القانونية الحرفية. ولم يكن معتبرَاً، ومقدّرَاً عند الباب العالي وحسب، حيث كان يوجّه خطاباته، ومراسلاته إلى أصحاب الشأن في الدولة العثمانية، ممثلة بالصدر الأعظم، ورئيس مجلس شورى الدولة مباشرة، دون وسيط، بل كان محبوباً عند عامة الناس أيضاً، وقد بلغ صيته عند الأهالي أن محلّة خان السبيل عُرفت، وما زالت تُعرف بـ “حارة الباشا” نسبة إليه.
وإلى جانب نشاطه التجاري الذي بدأ، وختم به حياته، فقد انتظم مرعي باشا الملاح في العديد من المناصب، والوظائف الرفيعة التي توزّعت، ما بين القضاء، والإدارة، والمالية، والاقتصاد، والتعليم، والأشغال العامة، والمواصلات، إلى جانب رئاسته وعضويته في الهيئات التمثيلية المحلية كمجلس إدارة الولاية، والمجلس البلدي، ناهيك عن عدد من المهام التفتيشية الحسّاسة.
يغوص الكتاب في دور مرعي باشا الملّاح السياسي والإداري، ولعلّ أهمّ ما يقوله عن نشاطه السياسي في عهد السلطان عبد الحميد الثاني مثلاً، ما أشارت إليه وثائق الأرشيف العثماني، عن وجود نزاع حصل بين أعيان ومُلّاك أراضٍ في ولاية حلب، كان أبرزهم الملاح من جهة، والسلطان عبد الحميد الثاني من جهة أخرى، لاسترداد قرى تابعة لقضاء منبج، جرى انتزاعها من أصحابها، وإلحاقها بإدارة الأملاك السلطانية، ضمن مشروع استصلاح الأراضي الموات، بهدف إحيائها، وجعلها صالحة للزراعة.. وهذا يكشف لنا أنّ الولاء للدولة العثمانية، من قبل طبقة الأعيان، لم يحل دون الالتزام بمصالح الناس، والدفاع عن الحقوق ضمن ثقافة، وآليات قانونية مشروعة… كما تُطلعنا وثائق الأرشيف العثماني على أبرز المواقف التي اتخذها الملاح، تحت قبّة مجلس المبعوثان الذي انتُخب عضواً في الشعبة البرلمانية الأولى فيه عام (1908)، إزاء قضايا مصيرية تتعلّق بشكل الدولة، ونوع السلطات فيها، واختصاصها قبيل الإطاحة بحكم السلطان عبد الحميد الثاني، وقبل الخوض في هذا الأمر.. وفي عام 1909 تقدّم مرعي باشا الملاح بطلب إيضاح إلى رئاسة مجلس المبعوثان، بشأن عدم المصادقة على ضريبة التمتّع قائلاً: “معلوم لديكم أنّ لزوم التكاليف الأميرية (الضرائب) مستند إلى وجود قانون من مجلس المبعوثان، ومع أن المجلس لم يصادق بعد على القانون، نجد أن القانون قد وُزّع، ونُشر في حلب، فينبغي مراجعة، واستيضاح نظارة المالية”.
صوت الناس
استند الملاح في طلبه هذا إلى برقية، أُرسلت من أهالي ولاية حلب مذيّلة بحوالي ستين توقيعاً، فكان بذلك صوت الناس، والبرلمانيّ الحُرّ الذي لا يخون ثقتهم.. ولعل الغوص في مواقفه كافة، وتحليل أبعادها الدستورية والقانونية، في مختلف المراحل التاريخية التي عاصرها، وعمل بها أمر صعب في مقال كهذا، لكن الوقوف على بعضها، ربما يضيء ما يقدّم هذا الكتاب، حول سيرة هذا الرجل الذي يحمل في حياته العامة والخاصة نموذجاً فريداً لشخصية روائية بالغة الثراء، كنت أتمنّى لو أنّ الكاتب عالجها بهذا الحسّ في رسم معالمها، دون الإخلال بالاستشهادات التاريخية طبعاً، أو لو تخلّص من بعض التكرار والسرد الجاف، مقابل الاهتمام برسم الملامح والأبعاد، لكنني أتفهّم دور، وطبيعة الكتاب البحثي، الذي يفتح لنا أفقاً واسعاً، أمام إعادة قراءة طبقة من طبقات المجتمع السوري، شُوّهت ونُمّطت وتمّ الافتراء عليها، حتى صرنا إلى زمن يُمدح فيه الوضيع والمجرم والقاتل والمرتشي، ويتمّ النيل من المُصلحين، والشرفاء على صفحات كتب التاريخ، لا في الصحف والجرائد وحسب.. لكن معركة التاريخ، هي معركة مستمرّة تستهدف تحرير العقول من الأضاليل التي تلصق بالماضي كي تبرر جرائم الحاضر، وهي معركة تُخاض بأساليب علمية، فتنتصر الوثيقة، والحجّة، والمرجع، والتحليل على الروايات والفبركات، والمزاعم الشفهية… ونقرأ في كتاب كهذا فصلاً من فصول هذه المعركة التي لا تنتهي.
_____________________________________________
من مقالات العدد السابع من مجلة (العربي القديم) كانون الثاني/ يناير 2024