مقامات أمريكية | كم هي جميلة شاحنة السايبر ترك
د. حسام عتال
“أقبح ما رأيته في حياتي” قال أحدهم.
“هل هذه حاوية قمامة” سأل آخر.
“أسوأ ما وضع فوق عجلات” استنكر ثالث.
“في طفولتي رسمت سيارة أفضل من هذه”…
هذه بعض الأوصاف التي وصف بها أعضاء نادي السيارات الشاحنة الپيك أب، شاحنة تسلا الجديدة (سايبر ترك) في مجموعة التواصل الاجتماعي الخاصة بهم.
هل شاحنة السايبر ترك بهذا القبح فعلاً… ابقوا معي.
في زمن يُلَقِّبه البعض بالزمن الجميل – زمن امتد من ستينيات من القرن الماضي حتى أوائل قرننا الحالي – كانت السيارات أنيقة التصميم، لها روح وشخصية وكيان وحضور. كنا بسهولة نحزر نوع السيارة من بعد، نعرف المرسيدس بمقدمتها الشهيرة من الكروم المصقول، والفولسفاغن بخطوطها الانسيابية، والبيجو بخلفيتها المنحنية (و برُّكابها الأربعة من عناصر المخابرات). وكنا نشتري مجلات السيارات، وننتظر بشوق الموديلات الجديدة ونحتفل بتصميمها وبخياراتها الداخلية من التابلوه والعدادات، وبصفات محركاتها، وأنواع علب نقل الغيار فيها. وكان كلٌ منا يتبنى نوعاً من السيارات يحبه ويدافع عنه بكل حميّة، وكأنه مالك لنصف الأسهم في شركته المنتجة. السيارات وقتها كانت صعبة المنال بسبب قرار الحكومة السورية بمنع استيرادها، وكأن استيراد السيارات سيقضي على صناعة السيارات السورية شهيرة السمعة.
بعد ذلك أتى زمن ارتفع فيه الوعي بأمور تلوث البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية، وظهرت عوامل سياسية مقلقة للدول المنتجة منها قدرة دول الخليج العربي في التحكم بمخزون البترول (وحتى استعماله كسلاح كما حصل في حرب ١٩٧٣)، فبدأت حكومات الدول المصنعة للسيارات بفرض معايير على شركات التصنيع لكي تصبح السيارات أكثر كفاءة في استخدام الوقود. تزامن هذا مع عوامل أخرى مثل تطور تطبيقات السلامة في السيارات في حال الصدمات أو حوادث المشاة، وتوحيد طرق التصنيع القياسية، واستخدام المواد والقطع المصنعة بالجملة، فبدأت اتجاهات التصميم بالاندماج ورويداً وجعلت السيارات متشابهة الشكل، معظمها مفلطح منحن الحواف للتحسين ديناميكيتها الهوائية، ولم تعد موديلات السيارات تختلف سوى بعلامة الشركة المصنعة. لهذا لجأت الشركات لتضخيم شبكة السيارة الأمامية بشكل مبالغ لإعطائها بعض الخصوصية البصرية المميزة… هذا للأسف لم يفلح في تمييز السيارات، لأنه وحّدها أكثر بكونها أكثر بشاعة من السابق.
ثم أتى السايبر ترك، وقبل أن أدخل بموضوع جماليته أو بشاعته، دعنا نأخذ خطوة للوراء لنراجع بعض الأمور المتعلقة بالتصميم، وهي أمور يتشارك فيها معظم المنتوجات الصناعية:
عندما يصمم المهندسون غرضاً ويريدون تسويقه، ينظرون لأمرين، شكله ووظيفته. المظهر البصري عليه أن يعطي فكرة (بواسطة إشارات علنية أو خفية) تدل على كيفية تصرف الغرض، وتساعد على فهم طرق استخدامه. بهذا الشكل يصبح الشكل استمرارا للوظيفة. وعندما تلقى هذه الوظيفة رضى المستهلك، يتجاوز المستهلك انحيازاته الشخصية ويميل لحب الشكل والتصميم بشكل رجعي، لأنه أصبح مرتبطاً في ذهنه بالوظيفة.
باستخدام هذا المبدأ، نرى بوضوح أن السايبر ترك يختلف في تصميمه عن كل ما سبقه منّ التركّات. السؤال إذاً هل الشاحنات السابقة له كانت تقوم بوظيفتها بشكل جيد؟ أنا كمزارع استخدم الشاحنات لأكثر من ٢٥ سنة (آخرها هو فورد ف )١٥٠ أعتقد أنها لم تكن. ذلك لأن مهمة الشاحنة الأساسية هي نقل الأشياء الثقيلة من مكان لآخر بقوة وسلامة، والشاحنة تمشي (عندما يستخدمها المزارعون أو العمال كما يجب) في أماكن ترابية يتطاير فيها الحصى ويرتع فيها الطين، وفي منطقتنا يغطي الثلج الطرقات في الشتاء. لكن إن نظرنا للشاحنات المتوفرة حالياً نجدها مركبات جميلة المظهر، لها سطوح منحنية (كبقية السيارات)، ومدهونة بألوان مختلفة فوقها طلاء لمّاع جذّاب، ونلقى مقدمتها طويلة ومرتفعة بسبب حجم محركها الكبير، فهي تعيق رؤية الطريق. وبسبب حجم السيارة وضخامة دواليبها، نجد أن قطر دائرتها كبيرٌ مما يجعل مناورتها صعبة. أما السرير الخلفي المفتوح فيسبب ارتجاجاً هوائياً ينقص من كفاءتها الوقودية التي هي سيئة أساساً بسبب كبر المحرك.
لذلك عندما أراد إيلون موسك تصميم السايبر ترك أراد تجاوز هذه المشاكل الجوهرية التي تعيق وظيفة الشاحنة. وكعادة العباقرة بدأ من الصفر ملقياً في القمامة كل الافتراضات القديمة. هذه صفة نادرة في المصممين لا يستطيع تطبيقها سوى قلة من المفكرين البارعين مثل موسك، ومن قبله ستيڤ جوبز في شركة آپل.
ماذا فعل موسك؟
أولاً، قلب هيكل الشاحنة داخله خارجاً، فأصبح سطحها من الفولاذ المقوى (الذي يمكن طرقه بالمطرقة الحديدية دون تأثير، كما في ساعة الرولكس)، وغدا مضاداً للخدش والصدأ، وكأمر ثانوي وفر كلفة الطلاء بالدهان.
ثم استخدم الأسطح المستوية والحادة الزوايا بدل المنحنية فزاد من القوة الهيكلية، ووفر أيضاً كلفة كبس معدن الهيكل العالية (لتحويله منحنياً)، وكلفة التجميع لأن العمل مع السطوح المستوية أرخص وأسهل.
وعندما اختار الشكل المثلث أضفى ديناميكية هواء ممتازة، وأضاف قوة هيكلية للترك فوق قوة الفولاذ. أما الزجاج فجعله مقاوماً للرصاص.
ولأن الترك يعمل بالبطارية، استطاع اختصار حجم المقدمة لغياب المحرك، وزاد من انحناءه، فصار مقعد السائق أقرب للأمام ، فتحسنت الرؤية بالمقارنة مع التركّات القديمة.
وبسبب التصميم، تدور الدواليب الخلفية قليلاً مع الأمامية عند الدوران، فتحسنت بذلك زوايا الاقتراب والمغادرة.
وهناك أمور أخرى تم تحسينها مثل ارتفاع الخلوص الأرضي، وتحسين الديناميكية الهوائية بواسطة غطاء السرير الخلفي (والذي ساعد في حفظ الأدوات من السرقة).
ويجب ألا ننسى الصفة الأكثر إثارة، فاستخدام البطارية أعطى الترك عزماً هائلاً، فهو ينطلق من الصفر حتى ٦٠ ميل في ٢.٦ ثانية، أي أنه أسرع من لامبورغيني.
فهل السايبر ترك جميل أو قبيح؟ يقول معظم الناس أن الترك قبيح ولا يعدو عن كونه فكرة سخيفة، هدفها أساساً الاستهلاك العالي من قبل سكان ضواحي المدن الغنية، وكأنه لعبة أخرى لمن يملكون المال ويريدون التظاهر والتباهي، ولكن، وبعد استعراض التكامل الشكلي والوظيفي لهذا الترك، أرى العكس، أرى أن السايبر ترك قد غير قواعد اللعبة كلها. ومن هنا أرى جاذبيته في اكتمال الشكل مع الوظيفة.
منذ أيام، أنا ومجموعة أصدقاء، نقلنا ابنتي من مدينتنا لتسكن في ضاحية يسكنها العرب جانب دترويت. بعد العمل المرهق في نقل المفروشات والأغراض، ذهبنا لتناول طعام العشاء في مطعم عراقي. بعد الوجبة اللذيذة خرجنا وسمعت طفلاً يصرخ: بابا بابا، انظر هذا سايبر ترك. نظرت ورأيت في البعد، بين سيارات عديدة من كل الأنواع، سايبر ترك واقفاً بتميز عن كل ما حوله. ذكرني الطفل بأيام طفولتي عندما كنا نحزر نوع السيارة من بعد، وهو أمر لا استطيع ادعاءه اليوم. هذا الطفل لا يعرف ميزات الترك الوظيفية لكنه أدرك من تصميمه الواضحٌ، البيِّن، والفريد أنه مختلف عن غيره. تصميم لا يقبل المساومة لأنه قوي، عنيف، قاطع، وجريء. تصميمٌ رائع الجمال.