أرشيف المجلة الشهرية

(إدلب من كوكب آخر) لمصطفى تاج الدين الموسى: التوثيق... سلاح الثورة الأخير

عرض وتحليلإيمان الجابر

“على المثقف بالدرجة الأولى أن ينحاز إلى شعبه بوجه الطاغية”، يقول: مصطفى تاج الدين الموسى.

من العام إلى الخاص، ذهاباً وإياباً، ما بعد نثر البذور في الماضي، وقبل تكوين الجذور في الحاضر، لا زلنا في انتظار الثمر، لابد من التوثيق؛ لمواجهة ماكينة النظام الإعلامية التي لا تتوقف عن التزوير والتحوير والمحي، (عملية التوثيق ترتقي مع انطلاقتها، واستمرارها إلى مرتبة الفن)، هذا تماماً ما حققه الكتاب.

 مهمة أخلاقية

استحضار التفاصيل التي عاشها الكاتب، والمؤثرات التي ساهمت بخلق مساحة للتفكير الحر في عقله مبكراً، عبر عنها بطرق مختلفة مباشرة وغير مباشرة، تنوعت لغته الرشيقة، المكثفة، ليؤكد حقيقة عاشها معظم السوريين في الثورة، ما حدث البارحة سيحدد ملامح اليوم، وما سنفعله اليوم سينتج الغد. إنها المهمة الأخلاقية الأكثر أهمية، بالنسبة لكل من له علاقة في الكتابة والإعلام، الفكر، والفن، من أبناء الثورة وجمهورها، هناك جيل جديد، ينتظر منا أن نخبره الحقيقة، (فالطفل الذي كان يحبو مع انطلاق الثورة السورية، أصبح اليوم شاباً يافعاً). يوضح مصطفى، إذاً لنروِ حكايتنا، نكتبها، نمثلها، نغنيها، نعزفها موسيقى؛ من أجل الخلود، نصورها أفلاماً سينمائية تحصد الجوائز العالمية.

الأحداث التي كنا شهوداً عليها، التجارب التي مررنا فيها، خلال مراحل مختلفة من حياتنا، كما في هذا الكتاب، (إدلب من كوكب آخر) إدلب التي  عرّفت نفسها (جمهورية صغيرة رئيسها حسيب كيالي) سابقاً، وعرفت بسيبيريا السوريين لاحقاً، (بمزيجها السوري من المنفيين إليها من المدن والأرياف السورية، لتعيد في كل يوم للثورة السورية حكايتها الأولى)، هذه المدينة لن تتوقف عن خلق ذاتها، تنهض من رمادها، تشفى من دمع نفسها؛ لتكون الطريق لتحرير سوريا كلها.

 من أزقة حسيب كيالي إلى قبو عبداللي

 هذه المدينة اسمها حسيب كيالي.

(قال لي ذات يوم أحد الكتاب السوريين: عندما أسمع بكلمة إدلب، تأتي إلى ذاكرتي فوراً صورة حسيب كيالي)،

حاراتها، وأزقتها القديمة، بتفاصيلها، وخصوصيتها الشديدة، تحضر في إبداع هذا الكاتب، الجد الكبير، شيخ الساخرين العرب على مر عقود حياته، كما يصفه مصطفى تاج الدين.

مجموعاته القصصية، مقالاته، وقصائده الساخرة تحولت إلى (فضاء إنساني كبير في خيال القراء، على الرغم من صغر مساحته على أرض الواقع). الجميع يعرف حسيب كيالي، ويدلونك على شخصياته القصصية والروائية، عند مرورها من أمام دكان صغير في إدلب (بشر من لحم ودم، يعيشون مع سخرياتهم اللاذعة وفكاهاتهم الجميلة، بين البيوت، وفي الشوارع الإدلبية). الكاتب ابن بيئته، وفي لحظة صحو تذهب نشوة الاحتفاء به، ينهض السؤال قارعاً جرس الخطر (من ينقذ قصص حسيب كيالي التي اتخذت شكل حارات قديمة، وأزقة عتيقة، من براميل الحقد الأسدي، من؟).

من أزقة حسيب كيالي انطلقنا، إلى قبو يقع فوق سطح الأرض بآلاف الكتب وصلنا، (نحن أصدقاء، وجيران وأقارب الراحل عبد القادر عبد اللي (من الأدالبة) نعتبره مدخلاً رئيسياً لفهم أي شيء يمت بصلة لتركيا، سياسياً، ثقافياً، أدبياً، وحتى تجارياً وجغرافياً، ويصل الأمر إلى معرفة العائلات التي قسمتها الحدود بين الدولتين). هكذا يفتح الكاتب لنا باب المقال؛ لندخل إلى بيت الراحل (يخرج أحدنا منه معبأ بمعلومات مهمة، شيقة وشهية للعقل والروح)، لـ “عبد القادر عبد اللي “مكانته في ذاكرة النزوح الفردية والجماعية لا تمحى، كل من احتاجه حين دخوله الأراضي التركية، وجد لديه المعلومات التي تعينه في حياته الجديدة المؤقتة، (إنه يفهم تركيا أكثر من الأتراك أنفسهم). ثمة أحاديث، وفكاهات وسخرية لا تنسى، تحضر بنبرة صوته المميزة، (حديثه كان رائعاً، قريباً من القلب، معلومات مهمة وغزيرة يقولها صاحبها بثقة عالية، بدا لي وقتها أنه ليس من سكان هذا الكوكب، وإنما من كوكب جميل).

“عبد القادر عبداللي” غادر الحياة في سنة ٢٠١٧، (شعرت أن أبي مات للمرة الثانية)، يقول مصطفى واصفاً حزنه، كان علينا العودة معه، نحن القراء، إلى ما قبل الثورة؛ لنتعرف على الأديب الراحل “تاج الدين الموسى “الذي ضاع قبره في الشمال، حينما مات في المرة الأولى.

(حياتي مع أبي تصلح؛ لأن تكون مادة رواية، أو فيلماً سينمائياً طويلاً). يقول الابن عن أبيه الذي انتظر الثورة زمناً طويلاً، ثم رحل مع شروق شمسها في سنة (٢٠١٢).

خط سير الحكاية إدلب، حماة، حمص، ثم العودة النهائية إلى إدلب. (في حمص، عاش متنقلاً بين حاراتها كمستأجر، لم يغادرها، (بالرغم من زواجه من أمي في سنة ١٩٨٠ التي ظلت تعيش في فيلا جميلة في إدلب). التنقلات بين المدينتين صعبة وخطيرة جداً في ذلك الوقت، هكذا كانت سنوات الطفولة، بين مكانين، بيت واسع أشبه بزنزانة في إدلب، وبيت ضيق أشبه بسماء واسعة في حمص).

 حضور الآباء وغيابهم!

الأب الذي يأتي مرة في الشهر، ليوم واحد، لابد من اكتشافه، ولو من خلال الكتب والرسائل التي تركها خلفه في بيت إدلب، (لم أكن أشعر أنه أبي، بقدر شعوري بأنه ضيف غريب وجميل). قراءة الجمل المطبوعة التي رسم تحتها الخطوط بأقلام الرصاص، الملاحظات التي كتبها على هوامش الكتب، وكذلك الرسائل المتبادلة بين الأب، الأم، والأصدقاء كان لها دور مهم في رسم صورة “تاج الدين الموسى” في خيال ابنه الطفولي.

توفي الأب في 2012 (دفناه بصعوبة، وألغينا العزاء الرسمي؛ بسبب تهديد الأمن، وخرجت من سوريا في بداية 2014 إلى تركيا).

 في آذار 2015، غادر أفراد العائلة، مع غيرهم من سكان إدلب المدينة، مع دخول قوات الفتح إليها، وخروج قوات النظام، وعندما عادوا بعد سنة كبرت المقبرة، تغيرت، الموت الكثير تسبب بازدياد هائل لعدد القبور، (ضاع منّا قبر أبي… صرنا نشعر أننا غرباء هنا.. يشعر الإنسان أن هذه الأرض لا تعنيه، إذا لم يكن لديه فيها قبور لأهله وأجداده).

في سنة 2020، وقبل عيد الفطر بأيام، وخلال رحلة بحث جديدة عن القبر (صرخ أحدهم بصوت عالٍ: عثرت على قبر أبو صطيف).

  فكرة تعويض الأب، البحث عنه، هل هي من قادت الكاتب مصطفى عبد الفتاح إلى اختيار أدب الطفل؟ يتساءل مصطفى تاج الدين الموسى، في مقالته عن ابن مدينته، طبيب الأسنان الذي أصبح صائداً للجوائز في ميدان الأدب، والده الشاعر محمد عبد الفتاح الذي حُرم منه باكراً؛ بعد أن تم اعتقاله؛ بتهمة معارضة النظام السوري في سنة ١٩٧٩، جعلت رحلة طفولته بلا نهاية.

لدى النظام السوري مواهب استثنائية، في لعبة إخفاء الآباء، يسرقهم من أطفالهم، من غرف نومهم، من ذواتهم، يغيّبهم؛ من أجل تحقيق الأمن والأمان، الطاعة والخنوع.

 كتاب توثيقي أدبي نابض بالحياة

الشخصيات والأمكنة في هذا الكتاب كثيرة، تسلم بعضها بعضا، تدور في فلك لا يعترف بالترتيب الزمني، ولا المكاني للأحداث والحكايات، الغياب لا يلغي الحضور، الماضي يحضر في الأزمنة الراهنة، ما حدث في مدينة السويداء في الأربعاء الأسود، سيحدث في مكان آخر بعد صفحتين وعنوان، ستجد نفسك قريباً من بيت الكاتب الذي كان عرضة للمداهمات في إدلب. تدخل لتقرأ سيرة الحب، تزيل صورة حسن نصر الله عن الجدار، لتبقى مونيكا بيلوتشي متربعة على عرش جمالها، بجانب تشي جيفارا، وهو يدخن السيجار الكوبي الفاخر، سوريا البعيدة جداً تصبح قريبة، تكاد عيناك أن تلمس وجوه المتظاهرين في إدلب، وتسمع هتافاتهم.

(إدلب مرة أخرى)… لم نخرج منها، إلا لنعود إليها، لنشعل شمعة؛ من أجل روح سورية عابرة للطوائف في سبيل الحرية، بجناحين من وعي، بهذه الكلمات يصف الكاتب (العقيد، المهندس جمال حمدون (أبو محمد) الذي توفي في هولندا، بعد معاناة مع أمراض القلب ومع النظام).

جمال حمدون مع غيره من أحرار الفوعة، الوجه المضيء لهذه البلدة (لكل منطقة في سوريا وجه مضيء، ووجه معتم: الوجه المضيء منحاز للحرية والكرامة، والتغير أياً كانت طائفته ودينه أو قوميته).

أخذني الكتاب في رحلة إلى أمكنة كانت ضبابية بالنسبة لي، صارت الآن أوضح، مقالات ونصوص كتبت بلغة مرنة، رشيقة، قريبة من القلب والوجدان، اختيرت بوعي وإحساس عالٍ بالمسؤولية، قلما تجده بهذا المستوى من النزاهة والشفافية، في زمن التطرف والانغلاق على الذات المتضخمة المريضة بفردانيتها، فكان كتاباً توثيقياً أدبياً نابضاً بالحياة، لمرحلة هي الأعظم في تاريخ سوريا، فتح أمامي  نافذة أطل منها على جيل يعرف تماماً ماذا عليه أن يفعل؛ كي تثمر ثورته ولو بعد حين.

يوماً ما سأزور قبر (تاج الدين الموسى) العائد من الضياع.

* (إدلب من كوكب آخر: مقالات ونصوص عن الثورة والأدب والحياة): مصطفى تاج الدين الموسى، سلسلة كتاب أورينت، العدد الرابع: تموز/ يوليو 2022

__________________________________________

من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024

زر الذهاب إلى الأعلى