في أخطر تحقيق لديرشبيغيل: الاقتصاد السوري يتابع انهياره وسورية تتحول إلى شبكة مافيوية
كريستوفر رويتر وكرم الشعار
بدا وكأن شيئاً لم يحصل. في أيار 2023، رحّب القادة العرب بالرئيس السوري بشار الأسد في قمة جامعة الدول العربية بعد عزله لفترة طويلة. وُضِعت سوريا على القائمة السوداء في العام 2011، حين بدأ النظام في دمشق يطلق النار على المتظاهرين الذين كانوا سلميين في تلك الفترة. وفي السنوات اللاحقة، حوّلت قوات الأسد مناطق الثوار إلى أكوام من الأنقاض، فقتلت مئات آلاف السوريين وأجبرت الملايين على الهرب. لكن خلال القمة الأخيرة في جدّة بالسعودية، أوحت الأجواء بأن دول الجامعة العربية نسيت كلّ ما حصل، وكأن الخلاف السابق اقتصر على سوء تفاهم بسيط. هكذا عادت سوريا إلى الحضن العربي بزخمٍ كبير، فقال الأسد: «نحن نقف ضد التيار الظلامي». هو تكلّم وكأن الجرائم الجماعية التي ارتكبها النظام كانت مهمّة نبيلة.
تملّق واضح للأسد
في غضون ذلك، لم يتغيّر الوضع، إذ تتابع الهياكل شبه المافيوية الازدهار في الاقتصاد أيضاً. يستمرّ تهريب المخدّرات بوتيرة متسارعة، لا سيّما إلى السعودية والأردن، مع أن دول الجامعة العربية التي أعادت الترحيب بدمشق كانت تأمل في أن تبطئ هذه الخطوة تدفّق المخدّرات غير القانونية.
لا تزال السلطة الحاكمة في سوريا متورّطة في عمليات غير شرعية. تتّضح هذه الممارسات في قضية مدير تنفيذي سوري كُشِفت صفقاته على يد فريق من الصحافيين السوريين والدوليين بالتعاون مع صحيفة «دير شبيغل». في بداية آذار 2023، أعلنت وكالة السفر «فري بيرد» على موقعها الإلكتروني: «مرحبا أوروبا، لقد عدنا». بعد أكثر من عشر سنوات من العزلة، بدأت الرحلات التي لا يمكن حجزها إلا عبر موقع «فري بيرد» تتجه إلى أوروبا مباشرةً. حصلت أول رحلة من دوسلدورف إلى دمشق عبر أثينا في 24 حزيران، وتنظّم شركة الطيران رحلة أسبوعية منذ ذلك الحين.
كانت هوية رئيس «فري بيرد» لتبقى سرية لو لم يعلن مالكها عن نفسه: إنه محمود عبدالله الدج، وهو اسم كبير في قطاع النقل، من وإلى سوريا. على «فيسبوك»، يُعرّف الدج عن نفسه كرئيس «فري بيرد» وممثّل شركة الطيران السورية «أجنحة الشام»، وهي واحدة من الشركات الواردة على قائمة العقوبات الأميركية بسبب نقلها مقاتلين ميليشياويين وذخائر بطلبٍ من النظام السوري. لكن يبدو أن الدجّ اشتهر أيضاً في قطاع نقل آخر، فهو مهرّب مخدّرات تورّط، وفق التحقيقات، بثلاث شحنات كبرى على الأقل لمنشّط الكبتاغون الاصطناعي إلى ليبيا. تطرّق «مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد» إلى هذا التحقيق حول الدج في العام 2021.
في بداية كانون الأول 2018، اعترض خفر السواحل اليوناني سفينة «نوكا» في جنوب جزيرة «كريت» حين كانت تبحر بأقصى سرعة، ثم عثر المسؤولون لاحقاً على أكثر من ستة أطنان من الحشيش و3.1 ملايين حبة كبتاغون على متنها. تذكر السلطات اليونانية أن قيمة تلك الحبوب تصل إلى 100 مليون يورو. أبحرت سفينة «نوكا» من مرفأ اللاذقية في شمال سوريا وكانت متوجّهة نحو بنغازي في ليبيا. يقول المحقّقون الأوروبيون إن هذه العملية حصلت بعد إجراء تحقيق مطوّل بالتعاون مع اليونانيين، غداة تلقي تحذير من إدارة مكافحة المخدّرات الأميركية التي كانت تراقب تهريب الكبتاغون من سوريا منذ سنوات.
كما يحصل في معظم عمليات التهريب، توضع حبوب الكبتاغون في حاويات تحت أرضيات مزيفة. تذكر تقارير «مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد» أن شركة «الطير» السورية، ومقرّها اللاذقية، هي التي حجزت شحن الحاويات. محمود الدج هو مدير الشركة ومالكها، وهو مواطن سوري وليبي. تتماشى صورته وتاريخ ميلاده على جواز سفره الليبي مع الصور والمعلومات الشخصية الواردة في السجلات السورية. بعد تلقّي تحذير من اليونان، يبدو أن موظفي الجمارك الليبية فتشوا منشآت التخزين التي استأجرها الدج في بنغازي، فعثروا هناك على كميات كبيرة من الحشيش وحبوب الكبتاغون.
يدرّ قطاع إنتاج وتصدير الكبتاغون أرباحاً بمليارات من اليورو سنوياً، وقد تجاوز حجم الصادرات السورية القانونية منذ فترة طويلة. تسيطر عائلة الدكتاتور السوري على تجارة الكبتاغون. خلال محاكمة أولية ضد المتّهمين بعملية تهريب إلى الخارج في إحدى محاكم «إيسن» في ألمانيا، في العام 2022، اتّضحت أهمية دور ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري وقائد الفرقة الرابعة في الجيش السوري، عبر تصريحات الشهود والمكالمات الهاتفية التي تمّ التنصّت عليها. كشفت القضية في «إيسن» أن تلك الفرقة تسيطر على حركة النقل في جميع موانئ البلد وتجمع الأموال لإعطاء تراخيص التصدير، حتى أنها تدير مصانع مخدّرات خاصة بها. تعليقاً على الموضوع، يقول جويل رايبورن، المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا: «لا تكتفي القيادة في دمشق بعدم تحريك أي ساكن رغم كل ما يحصل، بل إنها تحتكر هذا القطاع لنفسها».
يصعب أن يتمكّن محمود الدج من شحن كميات كبيرة من الكبتاغون إلى ليبيا من دون علم وموافقة الحكّام في دمشق.
دبلوماسية رفيعة المستوى مع غيانا
ترتبط العائلة اليونانية التي تملك معظم الأسهم في شركة الطيران Air Mediterranean بالقيادة السورية أيضاً. تذكر قوائم الاجتماع الأخير بين المساهمين أن الأخوين أندرياس وفادي الياس حلاق يملكان51% من الأسهم في تلك الشركة. كان وزير الخارجية السوري فيصل المقداد قد استقبل والدهما جورج في حزيران 2021 بصفته ضيفاً رسمياً. وتذكر تقارير الوكالة العربية السورية للأنباء أن جورج حلاق سافر إلى دمشق كمبعوث خاص لرئيس غيانا التي تُعتبر من أصغر البلدان في أميركا الجنوبية. أكد الطرفان استمرار التعاون الثنائي بين البلدين.
تطرح Air Mediterranean نفسها أمام العملاء الأجانب كشركة طيران أوروبية غير مسيّسة. ورغم تسويق شريكتها «فري بيرد» للرحلات المباشرة من دمشق إلى المدن الأوروبية، لا تذكر الشركة صراحةً ارتباطها برحلات بين دمشق ومدن أوروبا. يقول متحدث باسم مطار «دوسلدورف»: «تطلق Air Mediterranean رحلات إلى دوسلدورف، من وإلى أثينا. لكن لا أحد يأتي على ذكر دمشق».
في شهر أيار الماضي، حمل الأسد وأعوانه آمالاً كبرى في حصد منافع تتجاوز الكلام الودّي من دول الخليج. كانت دمشق تسعى إلى نيل مساعدات بالمليارات لبدء عملية إعادة إعمار البلد المدمّر والغارق في الفقر، أو ثلثَي سوريا التي يسيطر عليها النظام على الأقل.
لكن لم تُركّز جامعة الدول العربية على المساعدات التنموية. من خلال إعادة الترحيب بسوريا، تمنّى المسؤولون أن يتحسّن الاستقرار لدرجة أن يبدأ ملايين اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان وتركيا بالعودة إلى ديارهم.
كانوا يأملون أيضاً في تشجيع نظام الأسد على وقف تهريب حبوب الكبتاغون غير الشرعية من سوريا، علماً أن استهلاك هذه المادة بدأ يطرح مشكلة هائلة في السعودية والأردن على وجه التحديد. أوضحت الحكومة الأردنية قبل انعقاد القمة العربية مدى أهمية هذه المسألة: بعدما كان البلد من أبرز الداعمين لعودة سوريا إلى الحضن العربي، قامت الطائرات الحربية الأردنية، بعد يوم واحد على عودة سوريا الرسمية إلى الجامعة العربية، بقصف عقار أبرز مهرّب مخدّرات في جنوب سوريا، ما أسفر عن مقتله مع عائلته.
انهيار الليرة
بعد مرور أربعة أشهر، من الواضح اليوم أن الظروف تطوّرت بطريقة مختلفة عمّا توقّع الكثيرون. كان الدعم السياسي الذي قدّمته جامعة الدول العربية كفيلاً بتشجيع الأسد على استئناف هجومه العسكري ضد المناطق السورية التي تمكّنت حتى الآن من صدّ اعتداءاته. تشمل محافظة إدلب الشمالية ملايين السكان والنازحين داخلياً، وقد تعرّضت للقصف ستين مرة خلال الأيام الأولى من شهر أيلول. وفي الشمال الشرقي الذي يسيطر عليه الأكراد، قُتِل عشرات الأشخاص في المعارك. تبدو سوريا إذاً بعيدة عن الاستقرار وعودة اللاجئين الطوعية أكثر من أي مرحلة أخرى في السنوات الأخيرة.
في غضون ذلك، يتابع البلد رحلته الطويلة نحو الانهيار الاقتصادي. قبل انعقاد القمة في جدّة، بلغ سعر صرف الليرة السورية في السوق السوداء 7500 مقابل الدولار الأميركي. لكن تراجعت قيمة العملة إلى 14 ألف مقابل الدولار منذ ذلك الحين. يشهد البلد في الوقت نفسه احتجاجات في مدينة السويداء الجنوبية بعدما توقّفت دمشق عن دعم البنزين هناك في شهر آب. السويداء معقل للأقلية الدرزية التي نجحت لفترة طويلة في الاحتفاظ بدرجة بسيطة من الاستقلالية مقابل ولائها لنظام الأسد.
فقر متزايد
لا يزال إنتاج الكبتاغون في سوريا مستمرّاً. يتكلّم المحلل الأميركي تشارلز ليستر عن مصادرة أدوية وصلت قيمتها إلى مليار دولار تقريباً خلال ثلاثة أشهر هذا الصيف في السعودية والأردن، وبلدان أخرى في المنطقة. هكذا تحوّلت سوريا إلى شبكة مافيوية.
أصبح البلد عالقاً في حلقة مفرغة. لطالما كانت سوريا معقلاً للفساد المستفحل، لكن تلاشت أي قواعد متبقية اليوم، كما يقول أصحاب الشركات الذين غادروا البلد.
لم يكن قرار جامعة الدول العربية بإعادة الترحيب بسوريا كافياً لتغيير الوضع القائم. بل يشعر نظام الأسد في الوقت الراهن بالجرأة الكافية لاستئناف حربه وإغراق سكان المناطق التي يسيطر عليها في فقر إضافي. وحدهم الأشخاص الموالون للنظام الحاكم أو المرتبطون به يستطيعون المشاركة في الاقتصاد. أوحت الأحداث الأخيرة لوهلة بأن الاحتجاجات التي تشهدها السويداء قد تمتدّ إلى حمص وحلب ودمشق. لكن لم يحصل ذلك بعد. في النهاية، يقول لاجئ سوري: «كل من يستطيع التظاهر في البلد هرب منذ فترة طويلة، أو تعرّض للقتل أو الاعتقال، أو يمنعه خوفه من الاحتجاج».
المصدر: DER SPIEGEL