الرأي العام

نوافذ الإثنين | عن التقمص بين العلويين والدروز وأقوام أخرى

يكتبها: ميخائيل سعد

قبل حوالي أربعين عاما، ذهبت إلى إحدى قرى ريف حماه الشرقي، تلبية لدعوة صديق ”علوي“، لتمضية يوم عنده. في مضافته الطينية الكبيرة، كنت وحيدا معه ننتظر الغداء (الديني) الفاخر، المكوّن من البرغل المطبوخ مع لحم الغنم وبجانبه اللبن، كما هي العادات المحلية. كانت صداقتنا عميقة، وقائمة على مجموعة من المشتركات الفكرية والسياسية والاجتماعية، مما جعلها على قدر كبير من الشفافية، وهذا ما سمح لنا بنقد بعضنا دون تردد، مهما كان النقد قاسيا. سياسيا؛ كنا في إطار حزبي واحد، يعمل على إسقاط نظام الأسد المستبد. انتهى الحديث السياسي (السري) مع وصول ”المنسف“ إلى المضافة، وانضمام آخرين من أهل البيت للغداء.

مرة أخرى، بعد الغداء، كنا لوحدنا، فحكى لي أحمد عن حالة تقمص جديدة في القرية، وموجزها أن فتاة صغيرة تقول إنها في (الجيل السابق) كانت متزوجة من شخص في قرية بعيدة، وقد حددت اسم القرية واسم زوجها السابق، وروت حكايات عن حياتها السابقة، وقد تم التأكد من صدق كلامها. نظرت إلى صديقي أحمد محاولا التأكد من صدق قناعاته بالحادث دون مقاطعته. كان معتقدا أن الواقعة صحيحة، فلم أتمالك نفسي وسألت: هل تعتقد حقا يا أحمد بهذه الخرافة، وأنت الجامعي والمناضل السياسي العلماني؟

قال: نعم، أنا مؤمن بإمكانية التقمص، وأصدقه.

قلت بلهجة ساخرة: لماـذا لا يحصل التقمص عند المسيحيين أو المسلمين السنة، هل هو حكر على العلويين؟

قال، وقد بدا الانفعال على وجهه: أرجو أن تحترم إيماني.

صمتُّ، ولكن بقيت الغصة في قلبي.

شعوب كثيرة وطوائف تؤمن بالتقمص

مياه كثيرة مرت في نهر الحياة خلال الأربعين عاما المنصرمة، وكان الانسان يبدع في العطاء، ويكتشف خلال كل عام، ما يعادل مسيرة البشرية منذ وجودها وحتـى الآن، وأكثر، ومن هذه الإنجازات ”الشبكة العنكبوتية“، التي اختصرت مئات بل آلاف السنوات في بحث الانسان عن المعلومات.

تذكرت صديقي أحمد، الذي مات قهرا في سورية، وفكرت من جديد بالتقمص، فكتبت على الأنترنيت أسأل: ما هي الطوائف الإسلامية التي تؤمن بالتقمص، وما هي الشعوب الأخرى التي تعتقد بها؟ فكان الجواب:

موقف بعض الطوائف الإسلامية من فكرة التقمص:

  1. الدروز:
    • يُعتبر التقمص (التناسخ) من المعتقدات الأساسية في الديانة الدرزية.
    • يؤمن الدروز بأن الروح تنتقل من جسد إلى آخر بعد الموت، وفقًا لأفعال الشخص في حياته السابقة.
    • يُعتقد أن هذه العملية تستمر حتى يصل الفرد إلى درجة الكمال والخلاص النهائي.
  2. العلويون:
    • يؤمن العلويون بعقيدة التقمص (التناسخ) بشكل أساسي.
    • يعتقدون أن الأرواح تنتقل من جسد إلى آخر بعد الموت، وتتطور وتتكامل في هذه الرحلة.
    • يرتبط التقمص عندهم بمفهوم الحلول الإلهي، حيث يؤمنون بأن الله قد حل في علي بن أبي طالب.
  3. الإسماعيليون:
    • على عكس الدروز والعلويين، لا يُعتبر التقمص من المعتقدات الأساسية في الديانة الإسماعيلية.
    • إلا أنه قد وُجدت بعض المعتقدات المشابهة لفكرة التقمص في بعض التفسيرات والتأويلات الإسماعيلية.

إذن نلاحظ أن فكرة التقمص كانت واضحة وأساسية في معتقدات الدروز والعلويين، بينما كان حضورها أقل وضوحًا في الديانة الإسماعيلية.

التقمص عند الشعوب الأخرى

التقمص هي فكرة أن الروح أو النفس البشرية تنتقل من جسد إلى آخر بعد الموت. هذه الفكرة موجودة في العديد من الديانات والتقاليد الروحية عبر التاريخ البشري.

في الفكر الهندي القديم، نجد أفكار التقمص في الديانات البوذية والهندوسية، حيث يُعتقد أن النفس تنتقل من جسد إلى آخر في دورة إعادة الولادة (السنسارا) حتى تحقق التحرر النهائي.

في الفكر اليوناني القديم، ظهرت أفكار التقمص لدى فلاسفة مثل بيثاغورس وأفلاطون. حيث اعتبروا أن النفس البشرية خالدة وتنتقل من جسد إلى آخر.

في الحضارات القديمة في المكسيك: لدى الأزتيك وغيرهم من الحضارات القديمة في المكسيك مفاهيم عن التناسخ والتقمص.

وفي التقاليد الأيرلندية والسلتية: هناك مفاهيم عن تناسخ الأرواح في بعض التقاليد الأسطورية والشعبية في أيرلندا وبريطانيا.

في المسيحية والإسلام، لا توجد فكرة التقمص بالشكل الواضح، إذ يؤمن أتباع هاتين الديانتين بالحياة الأبدية بعد الموت في جنة أو نار.

في العصر الحديث، ظهرت أفكار التقمص في بعض التيارات الروحية مثل البهائية والتيوصوفية.

الإيمان مع أحمد بإمكانية التقمص

قبل سنوات اكتشفت السينما الكورية، فتعرفت على عالم ثقافي جديد. في السينما الكورية فن جديد وجميل، ولغة سينمائية مختلفة جدا عن لغة سينما الغرب، وتعرفت على أفكار إبداعية تستحق الاحترام، والتوقف عندها، ومنها طريقة تعامل السينما الكورية مع موروثها الثقافي والاجتماعي والسياسي، ومع كافة جوانب الحياة الكورية. كان واضحا أن الهمّ الأساسي في هذه السينما هو خلق هوية كورية جديدة، وكان لا بدّ لها من طرح رؤى جديدة كي تكرس تلك الهوية. وكانت فكرة التقمص هي إحدى الأفكار التي يجب العناية بها، والبحث عن الجوانب الإيجابية فيها التي تساعد على بلورة هوية وثقافة جديدة، فماذا فعلت السينما؟

عالجت السينما الكورية فكرة التقمص، التي يـؤمن بها الشعب الكوري باحترام شديد، وذلك بعرضها كنوع من التراكم الحضاري الذي ينتقل من جيل إلى آخر، عبر عملية انتقال أرواح الأجداد المبدعين بالتقمص، وهكذا تستمر حضارة الشعب بالتواصل والنمو من جيل إلى آخر، من خلال التركيز على الجوانب الإيجابية للتطور والتقدم.

في المسلسلات الكورية رأيت كيف تم ربط فكرة التقمص بالتطور الروحي والشخصي للفرد عبر الأجسام المختلفة. وكيف عكس هذا نظرة تفاؤلية للتاريخ البشري، مؤكدا على إمكانية التحسن والتقدم. وربط التقمص بالتراكم المعرفي والثقافي عبر النظر إلى التقمص كآلية لنقل الخبرات والمعارف من جسد إلى آخر، وهذا ما سمح بتراكم المعرفة والخبرات الإنسانية على مدار التاريخ. وبهذا المعنى يمكن توسيع فكرة التقمص لتشمل ليس فقط الأفراد، ولكن أيضًا الحضارات والمجتمعات.

هذه الطريقة التي تستعملها السينما الكورية في فهم التراث الثقافي الكوري تسمح برؤية التاريخ البشري كعملية متواصلة من التطور والتراكم الحضاري. وهكذا تساهم فكرة التقمص في تعزيز رؤية إيجابية للتطور الحضاري والإنساني. وتصبح بذلك دليلاً على التراكم والتقدم الحضاري عبر التاريخ.

بهذا المعنـى والفهم الكوري، أكون مع صديقي أحمد في إيمانه بالتقمص.

مونتريال ١٩/٨/٢٠٢٤

زر الذهاب إلى الأعلى