ذاكرة تحت الأنقاض: هل يمكن ترميم النفس كما سترمم المدن؟
لا يوجد جرح لا يلتئم، فقط بعض الجراح تحتاج إلى من يُمسك يدنا أثناء الألم.

كمال صوان * العربي القديم
في الشمال السوري، حيث هدأت أصوات المدافع وبدأ همس المفاوضات والدبلوماسية، يلوح في الأفق أملٌ بمستقبل جديد. لكن في ذات اللحظة، تبقى الأرواح التي سكنت تحت ركام الحرب معلّقة بين ماضٍ موجِع وحاضر لم يمنحها فرصة للشفاء. فالبيوت قد تُرمم، والمدارس قد تُفتح من جديد، أما الجراح النفسية فهي الأكثر عمقًا، والأطول زمنًا في التعافي.
قال فيكتور فرانكل، أحد مؤسسي العلاج بالمعنى:
“عندما لا نعود قادرين على تغيير الواقع، نتحدّى أنفسنا لنغيّر طريقة نظرنا إليه.”
ولكن، هل يكفي الأمل وحده لترميم النفس؟ وهل من الممكن أن تُبنى الذاكرة من جديد بعد أن دفنتها رصاصات القصف؟ هذا ما نحاول فهمه في هذه المقالة التي تسلط الضوء على معاناة السوريين النفسية في مرحلة ما بعد الحرب، وتبحث إمكانية التعافي في ظل واقع صعب.
ندوب الحرب النفسية: ما لا تراه العين
وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية، يعاني ألاف الأشخاص في شمال غرب سوريا من اضطرابات نفسية، منها ما يُصنّف بالبسيط ومنها بالشديد مثل الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة (WHO, 2024). الحرب لم تترك فقط آثارًا مادية، بل زرعت في النفوس خوفًا وقلقًا وعدم يقين دائم.
“القلق لا يُذهب الحزن، لكنه يُضعف قدرتنا على العيش.” – حكمة سورية متداولة
الأشخاص الذين عايشوا القصف، فقدوا أحباءهم، أو شاهدوا منازلهم تنهار أمام أعينهم، غالبًا ما يستمرون في حمل تلك اللحظات في ذاكرتهم. يُطلق المختصون على هذا “الذاكرة الصادمة”، وهي نوع من الذكريات التي تظل نشطة وتعيد نفسها في هيئة كوابيس أو ردات فعل عاطفية عنيفة.
أطفال سوريا: صغار في أعمارهم، كبار في جراحهم
الطفولة في الشمال السوري لم تكن كما يجب أن تكون.
تُظهر بيانات “اليونيسف” أن أكثر من ثلث الأطفال السوريين يعانون من ضيق نفسي عميق، بما يشمل القلق، الانطواء، والكوابيس المتكررة (UNICEF, 2024). البعض منهم توقف عن الكلام، والبعض الآخر يظهر سلوكيات عدوانية أو انسحابية.
تقول إحدى الأمهات من ريف إدلب: “ابني لا يخاف من القصف، بل يخاف من الهدوء… لأن كل مرة ساد فيها الهدوء، تلاه انفجار.”
إن استمرار الأطفال في العيش في بيئات غير مستقرة، وعدم وجود دعم نفسي كافٍ، يجعل هذه التجارب تؤسس لاضطرابات تمتد حتى سنوات الرشد، ما لم يتم التدخل المبكر.
الوصمة: الحاجز الصامت أمام الشفاء
رغم الحاجة الملحة للدعم النفسي، لا يزال طلب العلاج يُقابل بالريبة والخجل في المجتمع السوري، خاصة بين الرجال. تُعتبر الصحة النفسية موضوعًا “تابو”، يخشى البعض أن يُفسَّر كضعف أو “جنون”.
تؤكد منظمة الصحة العالمية في تقاريرها أن “الوصمة الاجتماعية تمنع الملايين من الوصول إلى الدعم الذي هم بأمس الحاجة إليه” (WHO, n.d.). ولهذا فإن إعادة تأطير مفهوم الدعم النفسي ليُنظر إليه كقوة ووعي ذاتي أصبح أمرًا ضروريًا.
هل يمكن ترميم النفس كما تُرمم المدن؟
من الناحية النظرية: نعم. ومن الناحية العملية: الأمر يحتاج إلى رؤية متكاملة تشمل الإنسان كما تشمل الحجر.
ترميم النفس يتطلب:
🔹 أولًا: الاعتراف
الاعتراف بوجود الألم هو بداية الطريق نحو الشفاء.
كما تقول القاعدة النفسية: “ما لا يُسمّى، لا يمكن شفاءه.”
🔹 ثانيًا: الدعم النفسي المتخصص
من خلال توفير جلسات علاج نفسي فردية أو جماعية، والاعتماد على برامج التدخل المبكر خاصة للأطفال والمراهقين.
🔹 ثالثًا: إعادة بناء الروابط الاجتماعية
مجتمع ما بعد الحرب يعاني من التشتت والثقة المفقودة. إعادة إحياء العلاقات بين الجيران، إقامة الفعاليات المجتمعية، والمبادرات الشبابية تخلق بيئة صحية للتعافي.
🔹 رابعًا: التمكين الاقتصادي
الفقر المزمن يعمق القلق والاكتئاب. دعم المشاريع الصغيرة وتوفير فرص العمل يُعد عنصرًا أساسيًا في دعم الصحة النفسية.
🔹 خامسًا: إدماج الدعم النفسي في التعليم
يجب أن تتضمن المدارس في المناطق المحررة برامج تعليمية تراعي الصحة النفسية، وتدريب المعلمين على احتواء الأطفال المتضررين نفسيًا.
استطلاع وأراء مكونات عدة في مجتمع يرى الشمس من جديد
- السؤال موجه لشاب عاش ضمن منطقة الصراع: ما أكثر تأثير نفسي بقي معك منذ سنوات الحرب وحتى الآن؟
اكثر تأثير نفسي بقي معي منذ سنوات الحرب وحتى الآن هو شعور بالفراغ العاطفي والألم المستمر، بسبب فقدان أحبائي خاصة والدتي وأخوي وولاد عمي. الفقدان نتيجة القصف كان له أثر عميق في نفسي، وما زلت أواجه صعوبة في التعامل مع تلك الذكريات المؤلمة التي تلاحقني بين الحين والآخر. أحياناً اشعر بوجود حاجز عاطفي يمنعني من التفاعل بشكل طبيعي مع الآخرين وهو أمر جعلني أدرك أهمية وجود شخص يسمعك في تلك اللحظات الصعبة، بالإضافة الى ذلك الحرب تركتني بأحاسيس من القلق والتوتر اللي يظهر في مواقف حياتية بسيطة الذكريات المؤلمة من العنف والخوف من المستقبل تؤثر على تصرفاتي أحياناً مما يجعلني اتعامل مع الضغوط اليومية بطريقة تختلف عن الآخرين، ومع ذلك استخدمت هذه التجربة لتطوير مهاراتي في الإرشاد النفسي ومساعدة الآخرين الذين يمرون بتجارب مشابهة. هذه التجربة علمتني أهمية الشفاء النفسي من خلال التواصل والتعبير عن المشاعر، كما علمتني أن الدعم النفسي يمكن أن يكون له تأثير عميق في التعافي. ما زلت أواجه بعض التحديات لكنني أؤمن ان القدرة على التعامل مع تلك التأثيرات النفسية تكون من خلال الوعي واستخدام الأدوات النفسية، التي تعلمتها لتجاوز الألم و إيجاد طرق للتعامل مع الذكريات الصعبة.
- السؤال موجه لأخصائي نفسي عمل ضمن منطقة الصراع: ماهي الشكاوى النفسية التي تعاملت معها من خلال عملك في تقديم خدمة الصحة النفسية للأطفال ؟
على صعيد الأطفال ومن خلال عملي في مجال الدعم النفسي لاحظت تباينا واضحا في الشكاوى والتجارب النفسية التي يعبر عنها الاطفال بعد سنوات من النزوح والتهجير حيث ظهرت على بعضهم علامات الخوف والقلق من فكرة العودة الى موطنهم الاصلي رغم انها امنية لدى الكبار الا ان هؤلاء الاطفال نشأوا في بيئات بعيدة عن قراهم ومنازلهم التي دمرت بفعل الحرب وبالتالي باتت العودة تمثل لهم شيء مجهول ومربك اشبه بالانتقال لمكان غير مألوف في المقابل بعض الاطفال عادت اليهم ذكريات مؤلمة ارتبطت بمكان النزوح الأول أو لحظات القصف والهلع والفقد التي عاشوها قبل مغادرة منازلهم، مما أعاد تنشيط مشاعر الحزن والخوف لديهم اما البعض الآخر فقد تأثروا بشكل كبير من حديث الكبار المتكرر عن معاناتهم وصعوباتهم في اعادة اعمار منازلهم وإعادة الحياة لما كان عليه الامر من قبل مما انعكس على مشاعر الأطفال وسبب لهم شعوراً بعدم الأمان، وازداد لديهم التوتر الداخلي والقلق من المستقبل.
- السؤال النفسي لأحد الشابات عايشت الأحداث الماضية: هل سبق أن تلقّيت أو فكّرت بتلقّي دعم نفسي أو استشارة نفسية بعد الأحداث التي عشتها؟
نعم ، خلال السنوات الأولى من الحرب ونتيجة التعرض لضغوط نفسية متعددة من نزوح وتغيير مكان السكن والعيش ببيئة غير آمنة والمعاناة من عدة صدمات نفسية، ظهرت لديّ العديد من المشاكل النفسية من توتر وقلق وعصبية شديدة واليأس وأعراض جسدية متعددة ، بدأت على أثرها بحضور جلسات دعم نفسي في المخيم الذي كنت أعيش فيه بالإضافة لتلقي العلاج المناسب من قبل أطباء حيث ساعدتني هذه الجلسات بشكل كبير جداً في التكيف مع الحياة الجديدة وتقبل الواقع والتعامل مع هذه الضغوط النفسية بطرق إيجابية ، وكانت هذا الضغوط بمثابة بريق الأمل في حياتي فقد شجعتني ودعمتني لأتطلع نحو المستقبل المشرق
خاتمة: من الأنقاض يولد النور
صحيح أن الحرب دمّرت كثيرًا من مظاهر الحياة، لكن الإنسان السوري أثبت دومًا أنه قادر على الوقوف من جديد.
ترميم النفس لا يكون فقط بالأدوية أو الجلسات، بل يبدأ من الاحتواء، من الإصغاء، من إعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية.
“لا يوجد جرح لا يلتئم، فقط بعض الجراح تحتاج إلى من يُمسك يدنا أثناء الألم.”
كثيرا من الاضطرابات النفسية قد تشفى مع مرور الوقت وليس بالضرورة أن تكون تشكل خطرا على الإنسان.
ومثلما تحتاج المدن إلى مهندسين لترميمها، تحتاج النفوس إلى أيدٍ حانية، وسياسات واعية، ومجتمع يرى الألم ولا يخجل منه، بل يقترب منه بمحبة.
______________________________
- باحث في مجال الصحة النفسية – إدارة الكوارث والنزاعات – مدرب سايكودراما
المراجع:
- World Health Organization. (2024). Empowering displaced people in northwest Syria to regain their mental health. Retrieved from https://www.emro.who.int/ar/2024-arabic/empowering-displaced-people-in-northwest-syria-to-regain-their-mental-health.html
- World Health Organization. (n.d.). Mental health in emergencies. Retrieved from https://www.emro.who.int/ar/eha/news/mental-health-in-emergencies.html
- UNICEF Syria. (2024). Child protection and mental health programs. Retrieved from https://www.unicef.org/syria/ar/الدعم-النفسي/topics
- Médecins Sans Frontières. (2022). Mental health care in Syria. Retrieved from https://www.msf.org/syria
- Al Jazeera. (2024, August 12). كيف أثر الصراع على الصحة النفسية للسوريين؟. Retrieved from https://www.aljazeera.net/health/2024/8/12/كيف-أثر-الصراع-على-الصحة-النفسية