الرأي العام

من الذاكرة | يوم منحتُ أرنولد شُوارزنِغر نصف دقيقة من وقتي!

موسى رحوم عباس[i] – العربي القديم

   هاني نديم شاعر سوري وإعلامي محترف يمتاز بروحه العذبة وذكائه في التقاط الفكرة، وكنتُ أظن أنَّ المرء يخسر نصف عمره؛ إذا افتقد لروح الدعابة، ألم يصف الله دنيانا الفانية بأنها ” لعب ولهو” ويخبرنا الفلاسفة والمتفلسفون الجدد ، وما أكثرهم، بأشياء عن لعبة السياسة ولعبة المسرح و…، المهم هيا بنا نلعب، كما كان يردِّدها صديقي الشَّاعر عبد الحميد الإبراهيم، سأحاول في المراجعة حذف بعض هذا الاستطراد المُخلّ- كما سيقول أحدهم- كتب صاحب فهرست ابن النديم عن الحَرَج الذي يقع فيه عندما يقابل أحدا في مكان عام، ولا يستطيع التعرف إليه، رغم أنه يحاول تذكيره بنفسه، وهذا طبيعي كونه يعمل في الصحافة وكثير من النَّاس يتعرفون إليه بسهولة، لكنه لا يعرفهم جميعا، وهذه حقيقة، وذكر في درج حديثه اسم الممثل النمساوي الأمريكي أرنولد شوارزنيغر( 1947-  ) حاكم كاليفورنيا الثامن والتلاثين، والممثل لسلسلة أفلام الترمانيتور( the terminator)  ومعناه ” المُبيد” وهي سلسلة أفلام للخيال العلمي شهيرة جدا؛ فقلتُ مداعبا لصديقي هاني، بأنني انتظرت هذا الممثل، والكاتب، وسمسار العقارات… أكثر من ثلاث ساعات في مطعمه الشهير بلانت هوليوود؛ فكان نصيبي منه نصف دقيقة وحسب، فرد عليَّ ابن النديم بعبارة جبرت خاطري، قائلا: ” الحقيقة، بيستاهل نصف دقيقة من وقتك”

هذه العبارة قلبت الموقف رأسا على عقب، شعرتُ بأنني انتقمت من نفسي حقا،  ألم يقل جدُّنا “ونجهل فوق جهل الجاهلينا” ؟! لماذا أنتظر شخصا لا أعرفه، ولست مهتما بالخيال العلمي في وقتها أساسا، وهل سيذكرني بعد تلك الثواني؟! طلع علينا من باب جانبي، وخرج الرجل محاطا بحارساته الشديدات والجميلات، ولا أعلم لِمَ يتخذ بعض المشاهير ومنهم زعيم عربي راحل النِّساء للحراسة الشخصية؟! ربما تكون المرأة أكثر إخلاصا من الرِّجال، لا أعرف، لم أجربْ هذا، ولكنني كنتُ أعتقد إنَّ الجميع يخلصون لمحفظة من يستأجرهم، وحسب!

كان ذلك في أول زيارة لي لباريس، في العام 2000 م ، وكنت أحمل روحا متوقدة حينذاك، وكأنني أودُّ تجربة كل شيء في هذا العالم، ظننتُ أنني بوسعي أن أحقق الكثير، عدت من لقائي الفاشل بشوارزنيغر في مطعمه الذي يتربع في وسط جادة الشانزليزيه الشهيرة، وليس بعيدا عن قصر الإليزيه الرئاسي، هونتُ الأمر حينها على نفسي، وقلتُ أساسا هو ليس بمثل دعايته الكبيرة، إذ لا يبدو متمتعا بجسد رياضي ولا يبدو كلاعب كمال الأجسام عادة، بل بدا لي أنه أقصر مما كنتُ أتوقعُ، وصاحب ابتسامة باهتة، وعينين ضيقتين لئيمتين!

عاقبتُ نفسي ليلتها بالبقاء في الفندق الذي أقيم فيه على حساب أحدهم، فالرحلة كانت (مكفول / محفول) وهذه العبارة يفهمها من عاش في السعودية أو دول الخليج، تعني أن رحلتك مدفوعة بالكامل وفي أعلى المستويات، مرة أخرى سأحاول تهذيب هذا الاستطراد، رحم الله والديكم، نمتُ ليلتي غير سعيد، وكنتُ صباحا من أوائل الداخلين إلى مطعم الفندق لتناول الإفطار، وهو فندق ” رويال مونسو” الشهير، لا حاجة لتذكيركم بأنني ( مكفول / محفول) ! وبعد ذلك حملت فنجان قهوة، وتوجهتُ لردهة الزُّوار في الطابق الأرضي من الفندق ” اللوبي ” وكانوا في ذلك الوقت – قبل زمن السوشل ميديا- يضعون الصُّحف اليومية العربية والفرنسية والإنكليزية… فتناولت جريدة الحياة واستغرقت في قراءة بعض المقالات، وكنت شغوفا بمتابعة ما يكتبه اثنان من كتابها وقتئذ، وهما جهاد الخازن الفلسطيني المُلبنن،  وخالد القشطيني العراقي البريطاني السَّاخر والمثقف الكبير، حانتْ مني التفاتة للدرَج المُفضي للردهة، وإذ بالفنانة الكبيرة منى واصف تتجه نحوي؛ فأتت ردة فعلي استجابة للموقف السابق مع شوارزنيغر، فقلتُ لن أقتحم عليها خلوتها، بل لن أعير أي فنان أو رياضي أو مذيع … مهما كانت شهرته الانتباه، فأغضيتُ متجاهلا، لكنها استمرت في اجتياز الممرِّ بين الطاولات حتى وصلتْ إلى جانبي، فألقتِ التحية بلهجتها الشَّامية العذبة، وبلغتنا العربية الرائعة، عندها هببتُ واقفا تحية لها، وسحبتُ الكرسي قليلا؛ لأطلب منها الجلوس، دقائق يسيرة، وانصرفت لشأنها، بقيت عالقة في ذاكرتي إلى اليوم، تلك الكلمات الدافئة والمجاملات العابرة، وكلما رأيت جريدة الحياة، أتذكر إنها كانت السبيل الذي عرفتْ منه السيدة الكبيرة أنني عربي، وربما سوري، لا أدري، دقائق جعلت من منى واصف نقطةً مضيئةً لفنانٍ يقدِّر الشُّهرة، ويستطيع أن يبقى إنسانًا، ويدرك إنه لن يبلغ الجبال طولا؛ فلا يمشي في الأرض مرحا( ولا تمشِ في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) الإسراء/ 37

في مساء ذلك اليوم طرتُ من مطار شارل ديغول إلى لوس أنجلس في كاليفورنيا، وفي نيتي الشكوى لأهلها من مُواطنهم الذي سيصبح لاحقا رئيسا لولايتهم، كان ذلك في 10 يونيو/ حزيران 2000 ، والسُّوريون جميعا يذكرون هذا التاريخ؛ فهل كانت رحلتي تلك تاريخية؟ فقد دأب الناس على أن يتحدثوا عن زيارات تاريخية، وخطابات تاريخية، وحروب تاريخية، وقد لا تكون كذلك، لعمري إنَّهم قوم يفترون!

ومن وقتها أوصيت أبنائي وأحفادي ألا يقتحموا خلوة فنان أو رياضي أو سياسي مشهور، في مطعم أو نادٍ أو مهرجان، ويكتفوا بقهوتهم في ذلك المكان إضافة لمتعة المشاهدة، وحسب، فالتدافع نحوهم يخلق منهم نمورا من ورق، الآن أسأل نفسي لمَ أخبركم بكل هذا؟! إنَّه التقاعد يا سادة!


[i] موسى رحوم عباس ، كاتب وروائي سوري مقيم في مملكة السويد

زر الذهاب إلى الأعلى