فنون وآداب

نصوص أدبية || كلاب السَّيدة إنجليكا

أخاف من الكلاب، حتى الصَّغيرة منها المُدلَّلة ذات الفرو النَّاعم الطَّويل، جَبَانٌ بالفطرة، هذا ما وصفني به صديقي الذي حمل السِّلاح، وصار مقاتلا ثائرا في بلادنا

قصة قصيرة: موسى رحوم عباس * – العربي القديم

   لكثرة تنقُّلي من شقَّة إلى أخرى، لم أعدْ أقرأ أسماء الجيران، وبتُّ زاهدا في عاداتي السَّابقة في أول عهدي بحياة المشرَّدين هذه، بل صرتُ أسخر من حرصي السَّابق على تخمين جذور السُّكان في العمارات السَّابقة، أدقِّق في جدول الأسماء المعلَّق في الرُّدهة، هذا من أصول روسية، وهذا عراقي، وهذه أوكرانية..، حتى إنني أرسم صورة ذهنيَّة لكلٍّ منهم بناء على تصوراتي المُسبقة، وغالبا ما كانت تصيب توقعاتي، وأحيانا تخيب دون أنْ أصاب بالإحباط. هذه المرَّة لم أتعب رأسي فيما يخصُّ السيدة إنجليكا جارتي الجديدة. التقيتُها صدفة في المصعد، انحشرتُ في الزَّاوية، وأنا أحذر من الاقتراب من كلبيها الصَّغيرين الأنيقين، ولكنِّي أخاف من الكلاب، حتى الصَّغيرة منها المُدلَّلة ذات الفرو النَّاعم الطَّويل، جَبَانٌ بالفطرة، هذا ما وصفني به صديقي الذي حمل السِّلاح، وصار مقاتلا ثائرا في بلادنا، ماذا يمكن أن تقول! بعدها صرتُ التقيها يوميا خلال النُّزهة المعتادة للكلبين، ونزولي للتَّدخين خارج المبنى، حسب نظام السَّكن الجديد، إنجليكا طبيبة متقاعدة، تعيش وحيدة، هي متقدِّمة في العمر، يبدو عليها الإهمال في ملابسها، وشعرها المشعث، نحيلة كأنَّها تعاني من سوء التَّغذية، مُدخِّنة شرهة،  وهذه الصِّفة الأخيرة هي نقطة مشتركة بيننا، جعلتنا يأنس بعضنا ببعض، أظنُّ أنَّها أرادت تبديد خوفي من الكلبين، فهمستْ لي بِسِرٍّ لا تبوح به لأحد، قالت إنَّ كلبيها يتكلمان مثلنا، وتدور بينهما حوارات كثيرة في الليل، ويختلفان على كلِّ شيءٍ تقريبا، ويتهارشان بعنف، وهي تشارك أحيانا في توجيه دفَّة الحوار، أو تنتصر لأحدهما على الآخر.

لا شك أنَّها رصدت مقدار دهشتي، وملامح وجهي المنقبضة، ونصف ابتسامتي التي أداريها؛ فتابعتْ روايتها، هذا الصَّباح كان كُوكي (وأشارتْ إلى الكلب الأسود ذي السِّلسلة الذهبية)، يمرح بصخب في طريق الغابة، ولا يترك شجرة دون أن يرفع رجله إلى أقصاها ليرشَّ بوله عند أصلها، يركض، ويكاد يرقص من السَّعادة. استغربت لولو (وأشارت إلى الكلبة البيضاء ذات الحبل الفضيِّ). وهي كلبة ذات مزاج درامي، أقرب إلى الاكتئاب، وسألت كُوكي عن سبب هذا الفرح المُبالغ فيه، ردَّ عليها وهو يهزُّ بذيله جذلا، إنَّها الحريَّة، يا لولو! أنا أشعر بأنَّني حرٌّ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى؛ لذا أعبِّر عن ابتهاجي، خَزَرَتْه لولو بطرف عينها، قائلة، أين هي الحريَّة، يا كُوكي؟ ردَّ عليها باستهجان، ألا ترين أنَّني أستطيع أنْ أفعل ما أريد، وأتجوَّل في الغابة بكل حرية، بينما أنتِ مطوَّقة بحبلٍ يكاد يخنقكِ؟ عندها ضحكت لولو، وتردَّد صدى ضحكتها في أرجاء الغابة، وهي نادرًا ما تفعل ذلك، ثمَّ أمسكت بسلسلته الذَّهبية، وهزَّتها بعنف، حتى إنَّها كادتْ تلطم وجهه بها، وأشارت بأصبعها نحوه، وهي تقول، يبدو أنَّك ظننتَ نفسك حرًّا، الأمر كلُّه، يا صديقي، إنَّ سلسلتك الذَّهبيَّة هذه أطول قليلا من الحبل الذي يطوِّق عنقي .

 اقتربت السَّيدة إنجليكا مني، وهي تسحب نفسا طويلا من سيجارتها، وهمستْ بأذني، إيَّاك أنْ تخبر أحدا بذلك، هذا سر الجِيرة بيننا! بينما كان دخان سيجارتينا يتصاعد غيمة سوداء إلى أعلى، وكأنَّه تِنِّينٌ برأسين، ينفث لهبًا، أو هكذا بدا لي.

استوكهولم 2025


*موسى رحوم عباس كاتب وروائي سوري ، يقيم في السويد.

زر الذهاب إلى الأعلى