أرشيف المجلة الشهرية

حين مشى دريد في جنازة نهاد

بقلم: محمد منصور

حتى الخروج في جنازات من نحب بات ترفاً، بعد أن تشرد السوريين في أصقاع الأرض، وباتت المشاركة في تشييع أصدقائهم إلى مثواهم الأخير أمنية، يحول بينها ما يحول!

كثيرون من أهلي وأقاربي، ومن أصدقائي الكتاب والفنانين والمخرجين توفوا في دمشق أو غيرها من مدن المنافي واللجوء ولم أتمكن من السير في جنازاتهم. وربما صدفة التواجد المكاني وحدها، مكنتني من المشاركة في جنازة المخرج نبيل المالح عام 2016 في دبي، حين شيعناه مع ثلة من السوريين الغرباء إلى مثواه الأخير في مقبرة القوز بدبي، وعدنا محملين بحسرة التراب الدمشقي الدافئ، موقنين أن نبيل المالح كان يتمناه، كما تمناه نزار قباني، فأوصى ألا يدفن إلا في دمشق.

وفي دمشق سرت في مثل هذا الشهر قبل ثلاثين عاماً، في جنازتي اثنين من الفنانين الكبار الذين أحببتهم وتابعت فنهم لعقود. نهاد قلعي ويوسف حنا.

رحل نهاد قلعي في التاسع عشر من شهر تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1993، وقد خرجت دمشق كلها في جنازته لتودعه في رحلته الأخيرة من بيته في جادة الشطا بحي المهاجرين، إلى مقبرة الدحداح بشارع بغداد.

ورحل يوسف حنا في السابع والعشرين من الشهر نفسه، فخرج الكثير من أصدقائه ومحبيه يودعونه ويبكون الرجل الخمسيني الوقور بحرقة وحرارة، وامتد الموكب المهيب من بيته في أتوستراد المزة، إلى مقبرة الروم الأرثوذوكس في القصاع. 

 في  جامع (لالا باشا) المقابل لمبنى نقابة الفنانين في شارع بغداد، حيث كانت الجموع تقيم الصلاة على روح نهاد قلعي، كان دريد لحام يقف في الخارج مع ثلة من الفنانين يرمق المشهد بعينين دامعتين، وكنت – كما غيري – شغوفا بمراقبته بصمت. ربما كان دريد يستحضر شريط ذكرياتهما المشترك في لحظة الفراق الحزين… وربما كان يراجع حسابات السنوات الأخيرة في ميزان الصداقة والوفاء، كما كان يردد بعض من اعتاد أن يرى في علاقة دريد بنهاد وجهاً من وجوه الظلم التاريخي لرجل أعطى وآخر أخذ.. وعرف كيف يأخذ.

أحفظ من أسرة نهاد قلعي الكثير من القصص والحكايا عن جحود دريد بحق أبيهم وتنكره له في مرضه كما حدثوني مراراً، وأتذكر ما رووه لي،  عن الماغوط حين دب الخلاف بينه وبين دريد إثر عرض مسرحية (شقائق النعمان) عام 1987، وكيف اتصل بالأستاذ نهاد قائلا: “منشان اللي خلقك كيف كنت متحمله كل هالسنين” فرد نهاد: “طول بالك لسه ما شفت شي”! لكن التاريخ يبدو أكثر تريثا و”طولة بال” في إصدار حكمه على الأشخاص والعلاقات مما قد يتحلى به البشر، وما محاولة (العربي القديم) في هذا العدد لإلقاء نظرة نقدية على الثنائي دريد ونهاد، وطبيعة العلاقة بينهما كجزء من تاريخ الفن بوجوهه المتعددة، سوى جهد برسم التاريخ الذي يقول كلمته باستمرار، بألسنة الناس حيناً، ومحبتهم التي منحوها لهذا وحجبوها عن ذاك حينا آخر.   

_________________________________________

من مقالات العدد الرابع من صحيفة (العربي القديم) تشرين الأول/ أكتوبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى