ورحل إبراهيم كلستان الذي نجهله كثيراً: همنغواي إيران الذي عاش قرناً ونيف!
في أحد القصور الفخمة والقديمة بإحدى ضواحي لندن، في يوم الثلاثاء ، ٢٢ آب ٢٠٢٣، وبعد حياة صاخبة جداً دامت أكثر من قرن، أغلق عينيه للمرة الأخيرة السينمائي، والمترجم، والسياسي المعارض الإيراني إبراهيم كلستان.
ربما تكون كلمة مثقف هي الأنسب، (وبالمناسبة هي الأحب إليه)، فقد كان كاتباً سينمائياً، صحفياً، وسياسياً عريقاً مارس نشاطاً مؤثراً، في كل هذه المجالات طيلة عقود طويلة.
السياسي الثري والشاعرة الفقيرة
ربما لا يعرف القارئ العربي كلستان بشكل جيد، فوجوده بالمكتبة العربية يكاد يكون معدوماً. لم يسبق لي شخصياً أن قرأت له، أو عنه بلغة الضاد، سوى عمل واحد بعنوان (الكتابة بالكاميرا)، وهو مجموعة حوارات أجراها معه الباحث الإيراني برويز جاهد ، بترجمة لأحمد حيدري، صدرت عن دار الرافدين،
سوى ذلك، ربما عرفه القليلون من خلال قصة حبه العاصفة والغريبة، مع الشاعرة الإيرانية الأشهر في القرن العشرين (فروغ فرخزاد). لقاء غريب بين شاعرة شابة فقيرة، وخارجة حديثاً من تجربة زواج فاشلة، وسياسي غني متزوج، وله ولد وبنت (عمل ابنه لاحقاً كصحفي، وقتل في العراق)، ولكن هذا اللقاء أنتج مصيرين مختلفين، ففروغ عاشت حياة قصيرة كالفراشة وتوفيت بحادث سير عام ١٩٦٧ عن عمر اثنين وثلاثين عاماً فقط، وخمسة دواوين شعرية (في الحقيقة أربعة دواوين وقصيدة نشرت لاحقاً بعد وفاتها) أما إبراهيم كلستان، فقد عاش حياة طويلة ومترفة، وأمضى أيامه الأخيرة بصمت، كدوق بريطاني ، في قصره الإنكليزي الفخم والفسيح.
من القصة إلى السينما… ومن اليسار إلى الانشقاق!
هو ابن أحد السياسيين الإيرانيين المعروفين، والده كان يملك جريدة كلستان (كلستان وتُنطق كالجيم في المصرية ، تعني الحديقة في الفارسية)، ولد في شيراز عام ١٩٢٢ ، درس لفترة القانون، ثم تركه، وتنقل بين العلوم، والمعارف، والأنشطة السياسية الثقافية، والأدبية كلها. لم يكن يبدأ مشروعاً، إلا ويتركه لاحقاً، بعد سلسلة صراعات، وربما هذا التقلّب، هذا النزق، وهذه الحدّية، هي السمة المميزة لحياته كلها، يعكس هذا التقلب ظروفه كولد مدلل، لثري معروف، تمتد ثورته في كل إيران وأوروبا.
عشق ببداية حياته فنّ القصة، ونشر أول عمل قصصي له بعنوان (آذار، آخر أشهر الخريف ) عام ١٩٤٩، ثم التفت للترجمة، وهو الذي يجيد الإنجليزية، والفرنسية بطلاقة، فترجم إلى الفارسية أعمالاً لفوكنر، وهمنغواي، وكان أول مَن عرّف القارئ الفارسي على هؤلاء الكتاب (أطلق عليه بعضهم همنغواي إيران، لكنه لم يكن يحب هذا اللقب أبداً)
أصبح يسارياً وناشطاً، بل مسؤولاً في حزب توده الإيراني، وترجم في تلك الفترة كتاب الديالكتيك لستالين، وأصول الماركسية للينين، تقلّب في العديد من المناصب في حزب توده. صادق بقية الكتاب اليساريين، وربما أكثرهم أهمية جلال آل أحمد، ثم ترك الحزب لاحقاً، وخاض صراعاً معه، حتى إنه سخر من جلال آل أحمد نفسه، ووصفه في أحد الأماكن بأنه لم يقرأ، ولم يفهم شيئاً من الماركسية، ثم يعود وينفي في آخر حياته أنه انشق عن حزب توده (وذلك في مقابلة له مع موقع دوتشيه فيله فارسي) وكأن الزمن قد فعل فعله في الذاكرة، أو مواقف وقناعات الشباب.
منتج ومخرج، ومؤسس إستوديو، ونادٍ سينمائي
لكن بالطبع، يبقى إبراهيم كلستان السينمائي هو الأكثر تأثيراً وشهرة، بل لقد عدّه الكثير من النقاد واحداً من المؤسسين، للموجة الجديدة في السينما الإيرانية،
فقد أسس، ومن ماله الخاص، استديو كلستان، وأنتج أفلاماً تركت بصمة مميزة في تاريخ السينما الإيرانية، كانت حصيلتها ١٦فيلماً وثائقياً أهمها وأبرزها ربما: “البيت المظلم” الذي أخرجته فروغ فرخزاد، ويتحدث عن مرضى الجذام، وفيلم (تلال مارلك) الذي يروي قصة الحفريات في مارلك وعن حبه، وعشقه لتراب بلده.
أسس كلستان، بالتوازي مع مؤسسة كلستان للسينما نادياً سينمائياً ناقش من خلاله مع الكثير من النقاد والمهتمين أفلاماً كثيرة تعود لمدارس عالمية متعددة، وترك هذا النادي بصمته الواضحة، في حركة النقد السينمائي في إيران.
أمّا في مجال السينما الروائية، ففي تاريخه فيلمان، الأول بعنوان (طين ومرآة)، والثاني (أسرار كنز وادي الجن)، وللثاني قصة طريفة جداً، فقد أخرجه، وأنتجه كلستان، بل إنه استأجر صالتين لعرضه، وهو يحكي قصة هزلية خفيفة عن فلاح قروي وجد في أرضه كنزاً، فغيّر هذا الكنز حياته، مع كل ما يمكن أن يرافق هذا التحوّل من مواقف كوميدية، وما يمكن أن يرافقه من سخرية، وافقت عليه مخابرات الشاه بداية بسهولة، لكن بعد عرضه بفترة انتبهوا إلى الربط بين هذا القروي، وتلك التغيرات، وبين حياة الشاه القادم من عائلة متواضعة، وكيف تغيرت حياة تلك العائلة بسرعة، بعد الانقلاب الذي قاده والده الجنرال، على الشاه القاجاري، ونصب نفسه شاهاً جديداً، فتحولت حياة العائلة من أسرة عسكري، إلى عائلة مالكة لواحدة من أعرق الممالك، مما دفع الرقابة لمنعه.
وطنك حيث قضيتك الفكرية والنفسية
عاش إبراهيم كلستان سنواته الأخيرة في لندن ، لكنه هو القائل: “لست بعيداً عن الوطن، وطنك حيث تذهب، وطنك هو قضيتك الفكرية، وقضيتك النفسية، الوطن معادلة نفسية).
برحيل إبراهيم كلستان، طُويت صفحة شخصية مهمة، في تاريخ الثقافة والسياسة الإيرانية، شخصية خاضت حروباً ثقافية، وسياسية وفكرية، لكنها أمضت سنواتها الأخيرة في المنفى. هذا المنفى، يبدو أنه قدر جميع أبناء البلدان المنكوبة بأنظمة حكم حكمت على الجميع، بالصمت، أو السجن، أو الحياة والكلام في المنفى.