أرشيف المجلة الشهرية

سوريا في تاريخ المذابح

العربي القديم – منهل السراج

أردت في الذكرى الثانية والأربعين لأحداث حماة أن أكتب عن أخي منصور الذي رحل عام 2015.

كحال معظم أهل حماة، لدي ثلاثة أخوة رجال: الكبير في منفاه الذي قارب الخمسين عاماً، والأوسط توفي في منفاه، والصغير كان منصور، وقد توفي في منطقة مشتى الحلو في حماة، ليلة الميلاد 2015. منصور درس الهندسة، ومارس العمل بالمناقصات. كان كريماً بعُرف الجميع، محبوباً مؤمناً بحقوق المرأة بلا أي تكلّف. كان فخوراً بي حين بدأت الكتابة، ومشجعاً لأي موضوع رغبت بتناوله.

2015 لم أحتمل شوقي إليه، ولبيت الأهل والحنين إلى البلد، ولهذا وبقرار أقرب ما يكون إلى التهور، حجزت بطاقة وسافرت من السويد غير عارفة بما ينتظرني هناك. كان الواقع أني استدعيت فقط لمراجعة أمنية فيها من الأسئلة ما ينفر، ومن أجوبتي تملص القطط. كنت أستعجل لهدفي.

أذكر إحساسي بالراحة، وأنا أجلس على الصوفا، وأستمتع بحديث منصور اللطيف، والذكي والممتع، وأشعر كأني بقراري هذا امتلكت الحياة بكل ما فيها.

منصور مثل أي شاب من حماة. في التسعينات أدى الخدمة العسكرية بكل ظروفها، رشى الضباط؛ ليتمكن من زيارتنا، وعاد بعد دورته الأولى برأس حليق، وحركات سريعة وتائهة. ومثل كل أهل حماة يخشى فروع الأمن، ويتجنب كل ما يمكن أن يجعله في خطر الاقتراب منها. أتى مرة إلى البيت بقميص ممزق، وقد بال على نفسه، وأسرع إلى الحمام، وأغلق الباب. أذكر أني حاولت طويلاً أن أعرف منه ما الذي حدث معه، وكان يرفض الخوض بالحادثة لشدة الألم.

كان يقود سيارته التي تحمل نمرة حموية، حين كسر عليه موتوسيكل، وأوشك أن يتسبب بحادث. ولما شتمه منصور على الفعل والإنسان يفعل ويغضب، ربما قال له: حمار ما شايف! لأني لم أسمعه يوماً يشتم أحداً. أدرك متأخراً أنه شتم عنصر أمن، أوقفه، وسحبه من السيارة، وانهال عليه ركلاً أمام المارة الذين عرفوا أن صاحب الموتوسيكل عنصر من الأمن، ومن المتوافق عليه المراقبة، أو خفض الرأس، والهروب من الموقف.

أذكر وجهه، حين أتى من ذلك الموقف، كيف كان بلون يميل للقتامة، وكنت الوحيدة التي عرفت بالحادثة من العائلة، واتفقت معه بلا كلام، ألّا أذكرها أمام أحد إلى الآن. ربما مارس حياته بعد هذا ناسياً الحادثة، ولكن كانت رغبتي لسنوات طويلة، لو أني أهجم، وأتشبث بهذا الشخص، وأشباهه ولا أفلتهم، حتى أبيدهم من الوجود. 

ليس منصور وحده من تعرض لهذا الألم والذل، رجال كثيرون من حماة، وربما أكثرهم تعرضوا لمثل هذه المواقف، وبالطبع أشنع بكثير. لنا أقارب قضوا في تدمر سنوات عذاب وجنون، وخرجوا غير عارفين طريقهم في الحياة. وأذكر يوم اندلعت الثورة السورية، ورغم انتعاشهم بالفكرة ومشاركتهم، كان يوجد رعب من الاعتقال.. وكانوا يرددون: الموت، ولا الاعتقال والتعذيب.

حماة بأهلها يعتقدون أن ولادة الصبي تعني همّ العسكرية، وخوف الاعتقال.

كنت أستغرب كيف أن العائلة، حين اعتقال الشاب لا توقف حياتها حتى تحرره، إنما يسعون لمساعدته، بالتوسل والرشى لهذا المسؤول وذاك.. على مر العقود صار الخوف والكبت ديدن حياتهم، وتعلموا طرقاً للتملص من مواجهة أنفسهم، ومعرفة حقوقهم. النساء في جمعياتهنّ، ودعواتهنّ وزهو الثياب، والتجمل، والرجال في الأعمال التي معظمها فساد ورشى. أما الجيل القادم، فهو نتاج هذا الوضع المزري.

كنت سابقاً أؤمن، بأن هذه المدينة فقط من هي قادرة على تغيير هذا النظام؛ لأنها تعرفه. حالياً لا أدري بدت لي المدينة في 2018، كأنها في ضفة غير تلك التي أقف عندها وأفكر، وكان أكثر ما يؤلمني كثرة الأولاد الذين يعملون، ويبيعون على البسطات، ولا أنسى تلك النظرة التي خصني بها صبي، حين قلت له: لماذا لستَ في المدرسة؟ ربما استشعر بطر السؤال، مع أني لم أكن أكثر قوة منه، كنت في الواقع خجلة من قوة سؤالي، ربما كان هو الأكثر قوة مني!

اليوم يمر أكثر من أربعين عاماً على مذبحة حماة.. من يتذكرها؟ العالم كله يتذكر مذبحة اليهود في 27 كانون الثاني، ويذاكرها كل عام، ويبني عليها خططاً ويهدم خططاً.. لكن لنعترف بأن سوريا كلها مرت في 2011، بما مرت فيه حماة.. ولا يبدو أن هناك خططاً حتى لمذاكرة الألم. أعرف أن معظم السوريين يسعون الآن، لحياة أقل سأماً من الحروب والفقر والعوز.. ولكن القلم يأبى إلا أن يشير إلى ما يلح على النفس.

ستوكهولم

_____________________________________________

 من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024

زر الذهاب إلى الأعلى